ثقافة وأدب

السرد الإريتري بين البوح والفعل. بقلم/ خالد محمد طه

10-Sep-2020

عدوليس نقلا عن صحيفة المواكب السودانية

الحضور الكريم ، السلام عليكم ، تحية ود وإمتنان . سعدت كثيرا ، أن اكون بينكم اليوم ، وأن اتحدث عبر هذه المنبر ، وفي هذا الموقع التنويري الأكثر أهمية ( إتحاد الكٌتاب السودانيين). اولا لكم جميعا ولكل الناهضين بالهم الكتابي ، عميق التعازي في فقد الاستاذ ، الكاتب ، العقيد ، الصحفي / احمد طه محمد الحسن ( الجنرال) ، نسأل الله ان يجعل مثواه الجنة وأن يجزيه عن وطنه ومواطنيه كل الخير ، البركة فيكم ، واود أن أشير هنا إلى أن الفقيد كان في يوما من الايام أحد اصدقاء الثورة الإرترية ، وكان يردد مع اخرين في نهاية كل أمسية ( تصبحون على وطن ) ! . التهنئة والتذكير باليوم العالمي للترجمة ، هي بطاقة عبور نفتتح بها هذه الجلسة التي اتمنى أن تجدوا فيها إضافة نوعية تزيد كم التراكم المعرفي الثر الذي يحمله الحضور المتميز في هذه الأمسية .

من خلال هذه الامسية اود تسجيل صوت شكر للزملاء الكُتاب اعضاء جماعة تجاوز ، لوقفتهم المبدئية المبكرة مع حق الشعب الارتري في الحرية والاستقلال . واجد هذا الجمع وهذا المكان هو الأنسب لإيصال ذلك الشكر للمبدع الذين كسروا حاجز الصمت في ذلك الزمان الكالح ، الشكر للاساتذة / محمد خلف الله عبد الله ، د. اسامة الخواض ، ومحمد عبد الرحمن حسن ( بوب ) ، محمد عبد الرحمن شقل ، خالد عبد الله حسن ، عبد اللطيف علي الفكي ، رقيه وراق ، السر السيد ، محمد مدني ، عادل عبد الرحمن بخيت ، والراحل المقيم عمار النوراني ، الذين حققوا التجاوز فعلا .
التحية ايضا للمبدعين د. تاج الدين نور الدائم ، الاستاذ / الفاضل كباشي ، الفنان حسان / علي احمد ، الفنان / عصام عبد الحفيظ ، الفنان / الطاهر بشرى ، الفنان / السماني لوال ، والاعزاء في فرقتي الاصدقاء المسرحية ومجموعة عقد الجلاد .
الموقع الجغرافي والعمق التاريخي المعروف لارتريا ، يبين مدى التداخل والتنوع الاسني والثقافي بين شعوب المنطقة ، ومكونات الشعب الارتري نفسه ، ويظل فعل السرد في المجتمع الإرتري بأعمدته البيجاوية ( او السودانية حسب توصيف الاستاذ محمد ابو القاسم حاج حمد ) ، والجئزية الجبلية ، والعفرية الساحلية ( يدخل لسان الساهو ضمن هذا التصنيف – حاج حمد ) ، فعل يومي راسخ ، حيث يبدأ اليوم بحكاية وينتهي بقصة .
في الحالة الارترية ، تُستدعى القصة ، او تتم الاستعانة بالسرد في كافة التفاصيل اليومية ، حيث ظلت الروايات متوارثة عبر الاجيال ، وظل موقع الراوي موجود في كل المناسبات ، وبمختلف الألسن ، لكن ، المكتوب منه يقترب من حد الإنعدام ، مما يعني أننا امام تجربة مشافهة موغلة في القِدم ، ولها اثار راسخة في الشخصية الارترية.
بالرغم من كل ذلك جاءت الكتابة السردية بكل اللغات الارترية التسع ( التقرايت ، التقرنية ، البلين ، النارا ، البازين ، العربية، البداويت ، العفرية ، الساهو ) ، بالاضافة الى اللغات الانجليزية والايطالية والفرنسية والامهرية ، وهذا المنتج القليل الكم ، المتنوع من حيث لغات الكتابة ، المتناثر او المتابعد مظهريا استوجب وجود حركة ترجمة نشطة وبجودة مهنية وإبداعية عالية ، مما شكل معضلة حقيقية وصعب اّلية التواصل بين الكًتاب فيما بينهم ، فضلا عن التوصيل للمتلقين ! وهذه في تقديري من المشكلات الكبرى .
ما اود الاشارة اليه بشكل صريح ، أن الواقع الارتري خلال السنوات ال 60 الماضية شهد أحداث جسام ، شملت حروب وتضحيات، جرائم وإنتهاكات ، ولجؤ وشتات ، ثورة وصمود ، وإنكسارت ، هزائم وانتصارات ، واّمال وإحباطات ، وتحققت معجزات ، وإنهارت قوى ، ورسخت اخرى ، تشكل وجدان جمعي ، وبرزت دعاوي ردة ونكوص ، وإنحفرت في الأذهان اّلاف الحكايا ، فكما يقال ( الحرب كلبة ولود ! ) لكن بين كل ذلك يمكننا ان نقول ( تخلفت جبهة القول عن جبهة الفعل ) .
في المنتوج الادبي والإبداعي كان الشعر أغزر وارسخ ، لكنه في اغلب الأحيان كُرس لاغراض الحشد التعبوي ، ولان الابداع في أصله فعل تحرري ، جاء المنتوج مشوها ، يتبع الفعل السياسي ، بدلا من انها يقوده او يبشر به ، او يمهد له . ونجد أن التنظيمات السياسية ، بلا استثناء ، مارست مختلف أشكال فرض التبعية على الحركة الإبداعية ، وكانت النتيجة تفريخ مثقفي السلطة بدلا عن إرساء سلطة المثقفين ، والسلطة هنا هي كل مركز إستخدم الإبداع وفق مسارات معدة سلفا ، جعلت المبدعين يقرفصون داخل الأوعية المتاحة .
من جهة الرواية ، كانت محاولات المناضل الكاتب / محمد سعيد ناود ، في خمسينيات القرن الماضي ، التي انتظرت 50 سنة اخرى قبل أن يأتي ما يرفدها ، حيث صدرت روايات جيدة للاساتذة / الامين محمد سعيد ، واحمد طاهربادوري، احمد عمر شيخ ، وأبوبكر كهال ، وألم سقد تسفاي ، وسلمون ضرار ، وحجي جابر ، وعبد الوهاب عثمان ، وأسماء اخرى كثيرة جدا ، قدمت محاولات جادة لكتابة الرواية .
لكن في الرواية المهجرية توجد ايضا محاولات وقع اصحابها في فخ التقريرية ، والهتافية ، وعدم معرفة المجتمع موضوع الرواية ، وما يمكن تصنيفه بعبارة : غربة الكاتب . مع مشكلات اخرى متعلقة بشكل الكتابة ، ناهيك عن سببها . بينما تغلب على الرواية المكتوبة في الداخل التهويمات وإيحاءات بعيدة عن الواقع الفعلي وضعت في سياق رمزي مقحم قلل من جودة النصوص . بين كل ذلك يُلاحظ خفوت صوت القلم الانثوي ، واود تبيان تحفظي على إستخدام عبارة ( الأدب النسوي ) ، لأنه لا يوجد نوع ( جندر) للكتابة .
لكن لايمكن الحديث عن واقع السرد الارتري ، او السوداني ارتري إلا بالحديث عن الاستاذة / مها محجوب الرشيد ، التي لم تكتب من ارتريا ، لكنها كتبت بوجدان المنتمي لارتريا . وكما كان في مجال الشعر كُتاب لم يقف وجدانهم عند نقطة حدودية ، مثل العميد الراحل / محمد عثمان كجراي ، والاستاذ / محمد مدني ، والعميد الراحل / عبد الرحمن سكاب ، والكبير الراحل / محمد مفتاح الفيتوري ، جاء في مضمار الرواية قلم سوداني اعتبره الارتريون صوت تناول مجتمع له إمتدادات في ارتريا ايضا ، هو الكاتب الاستاذ / حامد الناظر ، لذ احتفوا بكتاباته ليس على مستوى التلقي فقط .
مثلما تفاعلوا مع كلمات محمد عبد الله شمو عندما كتب : ( فعلى هذه السفوح المطمئنة ، نحن قاتلنا سنينا … وإقتتلنا ، نحن سجلنا التاّلف في إنفعالات الأجنة ) . وجدوها تشبههم ! . أما القصة القصيرة في ارتريا ، قد تأخرت نسبيا ، لذا جاءت اكثر نضوج ، ثم في بدايات التسعينيات كانت بدايتها المؤثرة ، لكن بدايتها الفعلية كانت قبل ذلك في محاولات غير مكتملة النضج ، لكنه تراكم أكسبها المتانة ، والتنوع والثراء ، في سنوات التسعينيات برزت اسماء كثيرة واعمال اكثر ، عبد الرحيم شنقب ، جمال عثمان همد ، حامد ضرار ، الغالي صالح ، خالد محمد طه ، فتحي عثمان ، صلاح سينيوس ، سمير يعقوب مارحاي ، عبد القادر حكيم ، عبد الجليل سليمان عبي ، فتحية الشيخ ، مصطفى محمد محمود ، عثمان ادريس قلايدوس ، محمد اسماعيل أنقا ، سلمون تارقي ، سلمون ضرار ، محمد اسناي ، صالح جزائري ، الشهيد / ابوبكر عثمان خيار، محجوب حامد ادم ، ابراهيم كربيت .
وكانت الريادة في مجال القصص القصيرة جدا للكاتب الاستاذ / ابراهيم ادريس محمد سليمان ( ماركس ) ، برغم انه مقل في الانتاج إلا انه ظل الوحيد تقريبا الذي يكتب القصة القصيرة جدا منذ حوالي الثلاثة عقود .
وفي ادب السيرة صدرت العشرات من الكُتب كانت كلها عبارة عن مذكرات منها كتابات الاساتذة المناضلين / علي محمد صالح ، ومحمود كدان ، والامين محمد سعيد ، وسلمون ضرار ، ومحمد سعيد ناود ، الشهيد / ادم قندفل ، وكثيرين من الرعيل الاول والجيل الثاني في الثورة الارترية . ايضا صدرت مجموعة قصصية للكاتب الاستاذ / ادريس ابعري ، وللسفير الكاتب / حامد ضرار ، ولم يتسنى لاي من القصاصين الاخرين نشر اعمالهم على شكل كتاب ، إذن تظهر أزمة النشر بوضوح ، لكن تم سد ذلك النقص عبر النشر في الملاحق الأدبية والثقافية في صحيفتي ( ارتريا الحديثة ) و ( النبض ) ، قبل أن يأتي التطور الأرحب والنشر عبر الوسائط الالكترونية .
فقط صاحب النشر عبر الانترنيت مشكلات في ضبط اللغة ، وأحيانا إنحدار في التعاطي مع شروط كتابة القصة القصيرة ، بحيث يصعب تصنيف المنتج ، ويغلب على هذه الفئة الجديدة الميل الى رفض النقد والتقويم ، والإصرار على أن يتم قبول أعمالهم على علاتها او يتحول الامر إلى سجالات غير حميدة ! .
مشكلات الطباعة والنشر و التوزيع ستظل حاجز مهم ، لناحية عدم توفر العاملين في هذا المجال ، مع الانحسار العام لسوق المطبوعات الورقية ، وتأثيرات النسخ والقرصنة وما يتصل من مصاعب . هنالك خصوصية أخرى لدى معظم الكُتاب الارتريين ، تتمثل في إيغالهم في المحلية ، وعكسهم للعناصر المكونة لهوية بلادهم ، بأبعادها الافريقية والعربية ، كما أن معظم القصص مصبوغة بأثر وصعوبات مرحلة الكفاح المسلح ،وفي ذات الوقت نجدها مسكونة بهاجس الحرية ومناهضة مختلف أشكال القمع الإجتماعي والسياسي .
هذه الكثافة في الانتاج القصصي ضمت اعمال من مسافات مختلفة ، لكن الشاهد أن معظم هؤلاء تلقوا تعليمهم او جزء منه في السودان ، حيث تفتحت مداركهم ، وتبلورت مواهبهم ، بل تشكلت توجهاتهم الفكرية ايضا ، ولهم جميعا إهتمام بالواقع الادبي والابداعي والثقافي السوداني ، ممن تلقى تعليمه في السودان وممن لم يفعل !.
لكن في المقابل نجد أن اهتمامات المثقف السوداني بالشأن الارتري في اتجاه مغاير ، فالمركز الفكري والثقافي السوداني متجه نحو الشمال العربي ، رغم الوشائج والمشتركات ، حيث تمت صياغة او سياقة الوجدان الجمعي في تلك الناحية . وكانت لسنوات القطيعة الرسمية فعلها ايضا ، فإكتمل انتاج العزلة ، او تثبيت التنافر التدريجي .
بين الكم الهائل للكتب السودانية المعنية بالعلاقات مع دول الجوار نجد اسماء جدا قليلة شملت الواقع الارتري بنظرة إهتمام منهم الراحل الاستاذ / محمد ابو القاسم حاج حمد ، والراحل الاستاذ / ابراهيم عبد القيوم ، والاستاذ / فتحي الضوء . أرى انه لابد من مراجعة تاريخية لهذا الاهمال ، ولابد من مد جسور المعرفة ، ليس تحديدا ناحية إرتريا بل نحو مجمل العمق الافريقي للسودان.
لكن سيظل الارتريين يتذكرون ، انه في العام 1992 ، تكونت ( جمعية فكر وإبداع ) ، وكان مقرها في مباني مدرسة الجالية العربية – الامل النوذجية حاليا – وكان مؤسسها الاستاذ ، السوداني ايضا / عبد الكريم احمد ، ومن بين عضويتها برزت اسماء كثيرة نذكر منهم في مجال القصة القصيرة الاساتذة / إبراهيم محمد عبد الله ( أبرار ) ، و محمود ابوبكر الذي اتجه مؤخرا الى مجال صناعة السينما ، وعبدالكريم احمدين ، الجدير بالاشارة الى ان مدير مدرسة الجالية العربية في اسمرا كان وقتها الاستاذ العميد / محمد عثمان كجراي .
وطبعا يمكننا ان نقول انه ليست الصدفة وحدها ، هي التي جعلت مؤسسي الجمعية الادبية والرياضية بمدارس ( الباشا / صالح احمد كيكيا ) للبنين والبنات ، في بلدة حرقيقو الساحلية في منتصف أربعينيات وخمسينات القرن الماضي ، كانوا الاساتذة الافاضل / القائد الشهيد / عثمان صالح سبي ، والراحل الاستاذ / محمد الامين يوسف حمد النيل . وهو ايضا سوداني عمل بالتدريس ثم بالخدمة المدنية في ارتريا . لهما الرحمة والمغفرة .
بالعودة لموضوع السرد : بالطبع ليس بالامكان في هذه المساحة رصد وتتبع مسارات تطور السرد في ارتريا ، او الإلمام بكافة التفاصيل ، لكن عموما يوجد ركون جماعي للمنحى الحداثي ، فيما يتعلق بشكل الكتابة وإنحياز للتنويري في المتعلق بسبب الكتابة .
تبدو ارتريا بلدا مجهولا بالنسبة للكثيرين ، وكذلك حال بلدان اخرى في الشرق الافريقي ، ثقافيا لانكاد نعرف عنها شيئا ، رغم أن اللغة العربية هي إحدى المكونات الاساسية للثقافة الارترية ، وإمتداداتها الحضارية والانسانية .
هنا تستحضرني الدعوة التي اطلقها صديقي / الدكتور عادل القصاص حول هذا الموضوع موخرا ، والتي تتلخص في عبارة ( أعرف نفسك ،ثم أعرف قريبك ) ! .
عنوان الندوة كان : السرد الارتري – بين الفعل والبوح ، كل ما تناولناه كان عن الفعل ، اما حديثي عن البوح فقصير جدا وواضح جدا : متى ما وجدت مساحة للنشر ، هنالك دوما مبدعين في الانتظار ، ولأن العقليات المنغلقة الافق والخيال ، في اي مكان كانت ، تخشى من تمردات الفن والابداع وتأثيره على الجمهور ، والوعي الجمعي ، وإمكانية ذهاب الابداع بأشكال الوعي الى سياقات غير التي تريد ، فهي تمارس دوما عمليات إزاحة وإقصاء يومي للمبدعين ، أليس هذا بوح كافي ؟ .
السبت 7 إكتوبر ( رواق الوراقين )
* نص الورقة التي قدمها الكاتب في منشط ” رواق الوراقين ” بدار إتحاد الكتاب السودانين ـ الخرطوم.
من المحرر: أعيد نشر الورقة في ملف صحيفة المواكب السودانيةوالذي صدر إحتفالا بالذكرى ( 59 ) للثورة الإريترية في الثاني من سبتمبر2020م

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى