ثقافة وأدب

بلاد «أصحمة» استقبلت الصحابة وعلى أرضها بُني «راس مِدر» وطارد العباسيون بني أمية

28-Dec-2019

عدوليس ـ نقلا عن صحيفة الجزيرة السعودية

الجزيرة الثقافية» – محمد هليل الرويلي:وسنحدثكم يا أعرابي، عن قصة شاعرنا الراحل الكبير وفناننا العاشق، بما ورث من قصائد وأشعار دقيقة التوصيف ورصينة المعنى، شداها في أغانيه يملؤها قوة أداء، وغزارة إحساس متدفق شاعرية حميمية. أحب فتاة، سواحلية أسمها «آمنة» سمراء أخّاذة، ممشوقة القد والقوام، مكنوزة يصعب توصيفها، رآها شاعرنا عام 1948م، لكن جبروت العادات والتقاليد وأطر المجتمعات «البنت لابن عمها»، كفيلة لقلب حياته..ذهب صوته الرّهِيف، وشعره الشّفِيف، في النواحي يلتعج مُروريّة الوجد. تغنّي بلغة محلية خلّابة منشأها يعود للغة السبائية الحميرية القديمة «التجرايت» المليئة بالمفردات الأنيقة والمعاني السامية، والتعابير والتشبيهات والتوصيفات، والبليغة في الدقة، كالسحر الأخاذ. وقد ذكر الباحث والكاتب «عثمان همد» أنها شقيقة العربية الشمالية الحجازية النجدية، ما زاد تألقها وانتشارها الواسع.

ولأن ثمن الحب العذري يا أعرابي نفيس، هام شاعرنا بمحبوبته، وفاضت صَبابَات غرامه الموجوعة لتزويجها غيره! فضاق ذرعًا، ولم يُطق البقاء.. وأسرج الجهات ينشُدُها، مختارًا البعد. إذ لا حبيب يرتجى، ولا بقاء له معنى ومغنى، وابتعد..
ولما وجد أن بُعدَهُ هذا غير كافٍ، واستشعر أن مداه قصير، لم يعد مقنعًا يكفلُ قَصْرَ هذا القهر الذي يتمضّغهُ في أشعاره وأغانيه ولا يكاد يُطيقهُ. قرر أن يبعد النجعة للخليج عَلّ صورة «آمنه» لن تصل إليه هذه المرة، تمنعها مياه البحر الأحمر من العبور، أو ستقهر مرورها الرمال القفار في المملكة العربية السعودية! ودونكم ما حدث حينها: من المملكة، وفي العام نفسه اتجه لدولة الكويت. هناك وافاه القدر المحتوم..
وفيما أصابني فضول وأنا أستمع لبقية قصة الحب الشهيرة الإرترية، أشار عرّاب الشؤون «الأفرو عربية» الكاتب والإعلامي «محمد إسماعيل» أن القصة الكاملة التي أوردنا جزءًا منها في هذه المقدمة للفنان الغنائي الشعبي الكبير «إدريس أمير» المشهور عند عامة الناس «بإدريس ود أمير»، سنتعرف عليها بالتفصيل ضمن أحد محاور هذا الجزء. إضافة لمحاور أخرى هامة من المشهد الأدبي الإرتري، يطلعنا عليها الكتاب. بعد هذه المقدمة..
كتابة أولى حول المشهد الثقافي الإرتريْ:
بينّا في العدد الماضي تأثر الثقافة الشّفاهية والشّتات على الأدب الإرتيري والتشكل المعرفي الناجم عنها، وفي هذا الجزء نستكمل المسير مسلطين الضوء على محاور جديدة تُمكّنا أكثر للتعرف على المشهد في بلد يفوق المتحدثين فيه باللغة العربية اللغات الأخرى. وتحت عنوان «كتابة أولى حول المشهد الثقافي الإرتريْ» أوضح الكاتب الروائي والشاعر «أحمد عمر شيخ» أن محاور القول تتعدَّد وتتشعبُ حين يكون الحديثُ عن ملامح «الثقافة – الثقافاتِ» الإرترية وفق منظور تتنامى به ومعه دلالاتُ الموروث الضارب في عمق التأريخ والمنتج المستلقي على سلالم الثقافة المعاصرة لتحديد موقعه منها، لاتساع رقعة اللون والتضاريس والعِرق والجذور والمحتوى الثوري الذي شكل لحُمة «الثقافة – الثقافاتِ» الإرترية وإطارها الراهن، انطلاقاً من المعطى المطروح على قلَّة المكتوب منه، وفي طور الانتقال من ردهة الشفاهة إلى ميسم الكتابة، إذ تنامت مناحي الثقافاتِ الإرترية وتعدَّدتْ عبر تقاطعاتها الآسرة واندماجها الخلابْ.
لذا سنحاول تلمس بعض الجذور الأولى لتكوين الإنسان الإرتري بدءًا من انهيار سدّ مأرب جنوب الجزيرة العربية، وانتهاءً بتبلوَر ملامح الهوية الإرترية غنية التعدُّد والرواء وواحدة المصبَ والمنبع في أبرز تجلياتها، بما يبين المكوّن الثقافي الفريد لهذه البلاد التي تحتل موقعاً هاماً واستراتيجياً منذ العالم القديم حتى الزمن الحالي، بما جعلها محط أنظار وأطماع المستَعمِرين، وهو ما يجعل «الثقافة – الثقافات» التي ينتمي إليها إنسان هذه الأرض متميَزة على كافةِ الصّعد والمقاييس، ما تجلَّى في المُنتج الثقافي عبر تعدُّد لغاتِهِ وسماتِهِ ثرية الإيقاع والمضامينْ، بعد هجرة أقوام من «القبائل» إثر انهيار سد «مأرب»، إلى المنطقة المسماة حاليا إرتريا، إذ كانت تقطن هذه المنطقة الشعوبُ الكوشيَة والحاميَة، ومِنْ ثمَّ النيليَة التي نزحتْ مِنْ ضفاف نهر النيل واستقرَّ بعضُها على ضفافِ نهر «القاش» و»سيتيتْ» في الجغرافيا المسماة حاليا «ارتيريا» وتزاوجت الشعوب المهاجرة من جنوب الجزيرة العربية قبل قرابة العشرة آلاف عام مع الشعوب القاطنة في منطقة الهضبة والسهول المتاخمة لضفة «بحر القلزم – البحر الأحمر» والذي شقته براكين وزلازل لاحقاً، بعد هجرة تلك الأقوام الساميَة إلى هذه المنطقة حاملة معها نسجها الثقافي ولغاتها وما تفرع عنها من «لغات محلية». ذلك عدا عن الملامح التي تظهر جليَة في وجوه عددٍ كبيرٍ من أبناء البلاد، بما يُري التمازج الفريد الذي وسم الجغرافيا الإرتريَة بالتعدَد العرقي والثراء الثقافي.
* إرتريا موئل الهجرات ملكهم العادل «أصحمة بن أبحر»
«وأضاف» ووفدتْ إلى إرتريا بعد ذاك العديدُ من الهجرات الجماعية والفردية بما ميَز إنسانُ هذه المنطقة بصفاتٍ تتبدَّى في استقبال الغريب واللاجئ على مرَ العهود والأزمنة، ويدلَ عليه بشكلٍ جلي دخول المسيحيَة في القرن الثالث مِنْ ميلاد المسيح «عليه السلام».
وهناك شاهدٌ يلى ذلك «هجرة الصحابة إلى هذه الأرض»، وكما قال الرسول الكريم محمد «صلى الله عليه وسلم»: أنَّ هناك ملك لا يُظلم عنده أحد، وهو ملك بحر نقاش «أصحمة بن أبحر»، وذلك سنة «615»م، ونشير إلى أول مسجد بُني في الإسلام على الإطلاق وهو في «راس مِدر» وتعني «رأس الأرض ومركزها» الذي يوجد الآن في ساحة ميناء مدينة «مصوَع»، عن طريق ذات الميناء «عدوليس» الذي تقوم على أنقاضه اليوم قريتا «زولا وافتا»40 كلم من ميناء «مصوَع» على ضفاف البحر الأحمر، وميناء «مصوّع» هذا ذكره «المسعودي» قبل ألف عام قائلاً: أنَّ كلمة «باظع» على لسان أهالي المنطقة جاءتْ مِنْ «باضع» وتعني «حمل البضائع» باللغة العربية.
نقطة وصل العالم القديم «سينيوس إرتريوس»*
وزاد: إن من قام ببناء ميناء عدوليس «بطليموس الثاني» الإغريقي في القرن الثالث ق. م، إذ إن الإغريق هُم مَنْ أعطى إرتريا اسمها الحالي «سينيوس إرتريوس» التي تعني البحر الأحمر باللغة الإغريقية، فكان نقطة وصل هامة في العالم القديم وهو ما ذكره (طرفة بن العبد) في معلقته قائلاً:عدولية أو من سفين ابن يامنٍ يجورُ بها الملاح طوراً ويهتدي لتتوالى:
«وقال أحمد شيخ» ومن بين أهم الهجرات التي توالت بعد ذاك وتجدر الإشارة إليها، مطاردة العباسيين للأمويين واستقرار جزء منهم في جُزُر «دهلك» التي تعني «هذا هلك» تعبيراً عن تلك المطاردات والطبيعة الحارَة للجزر. عدا الآثار والشواهد الموجودة وتنبئ عن حضاراتٍ عظيمة ظهرتْ ووسمتْ إنسان هذه الأرض بالعراقة والتاريخ الحافل، مثل (مَطَرا، بلو كلو، قوحايتو، رورا بقلا، رورا حباب)، والأديرة مثل (دبر بيزن، دبر سينا). وزد كذلك ما يتوفر فيها من تقاطعات وتشابهات تتجلَى في نمط العيش والملبس والمأكل في الحياة الثقافيَة الإرتريَة عبر مختلف المجموعات اللغويّة (بداويتْ، ساهو، تقري، تقرينَة، بلين، رشايدة، نارا ، كوناما، عفر). فنجد أنَّ هذه المجموعات العرقية لديها سجلها الحافل مِنْ شعرٍ وغناءٍ ورقصٍ وهو ما يسمُ «الثقافة – الثقافات» الإرتريَة بالثراء والتنوّع والغني اللامحدود، ما مكَن الاستفادة في اكتشاف أرضيةٍ خصبة للانتقال إلى المكتوب مِنْ أدب، الطور الذي بدأتْ تدخله «الثقافة – الثقافات» الإرتريَة منذ زمن ليس باليسير.
السرد الإرتري بين الفعل والبوح *
بعد التطرق لأهمية الموقع الجغرافي والعمق التاريخي، أكد الكاتب الصحافي «خالد طه»، مدى التداخل و»التنوع الاثني» والثقافي بين شعوب المنطقة، ومكونات الشعب الإرتري نفسه، إذ يظل فعل السرد في المجتمع الإرتري بأعمدته، فعل يومي راسخ، يبدأ اليوم بحكاية وينتهي بقصة. فتُستدعى القصة، أو تتم الاستعانة بالسرد في كافة التفاصيل اليومية، وظلت الروايات متوارثة عبر الأجيال، وظل موقع الراوي موجوداً في كل المناسبات وبمختلف الألسن، لكن المكتوب منه يقترب من حد الانعدام، مما يعني أننا أمام تجربة مشافهة موغلة في القِدم، لها آثار راسخة في الشخصية الإرترية.
«وتابع»: رغم ذلك جاءت الكتابة السردية بكل اللغات الإرترية التسع (التقرايت، التقرنية، البلين، النارا، البازين، العربية، البداويت، العفرية، الساهو)، إضافة إلى اللغات الإنجليزية والإيطالية والفرنسية والامهرية. هذا المنتج القليل الكم، المتنوع من حيث لغات الكتابة، المتناثر أو المتباعد مظهريا، استوجب وجود «حركة ترجمة»، فتشكلت معضلة، وصعب التواصل بين الكتاب، فضلاً عن التوصيل للمتلقين!فضلًا عن ما شهده الواقع الإرتري، خلال الستة عقود الماضية، من أحداث جسام شملت: حروب وتضحيات، جرائم وانتهاكات، ولجوء وشتات، ثورة وصمود، وانكسارت، هزائم وانتصارات، وآمال وإحباطات، تحققت فيها معجزات وانهارت قوى ورسخت أخرى، تشكل خلالها وجدان جمعي، وبرزت دعاوي ردة ونكوص. حفرت في الأذهان آلاف الحكايا.. وكما يقال «الحرب كلبة ولود !»
تنظيمات «قرفَصَتْ» المثقفين داخل أوعيتها*
واستدرك «طه» – لكن – بين كل ذلك، يمكننا أن نقول تخلفت جبهة القول عن جبهة الفعل. ففي المنتوج الأدبي كان الشعر أغزر وأرسخ، لكنه في أغلب الأحيان كُرّس لأغراض الحشد التعبوي. ولأن الإبداع في أصله فعل تحرري، جاء المنتوج مشوهاً يتبع الفعل السياسي، بدلاً من أن يقوده أو يبشر به أو يمهد له.
فمارست التنظيمات السياسية أشكال فرض التبعية على الحركة الإبداعية، فكانت النتيجة تفريخ مثقفي السلطة بدلاً عن إرساء سلطة المثقفين. والسلطة هنا هي كل مركز استخدم الإبداع وفق مسارات معدة سلفاً، جعلت المبدعين يقرفصون داخل الأوعية المتاحة. فلو تطرقنا من جهة للرواية، لوجدنا أن محاولات المناضل الكاتب محمد سعيد ناود، في خمسينيات القرن الماضي، التي انتظرت 50 سنة أخرى، قبل أن يأتي ما يرفدها، بصدور روايات جيدة للأمين محمد سعيد، وأحمد طاهر بادوري، وأحمد عمر شيخ، وأبوبكر كهال، وألم سقد تسفاي، وسلمون ضرار، وحجي جابر، وعبد الوهاب عثمان.* الرواية المهجرية وقعت في الفخ:
وتفضيلًا في التجربة الرواية المكتوبة باللغة العربية من مبدعين مهاجرين، أو في الداخل، قال الكاتب «خالد طه»: توجد محاولات جيدة في الروايات المهجرية لكن، وقع أصحابها في فخ التقريرية، والهتافية، وعدم معرفة المجتمع بموضوع الرواية «غربة الكاتب»، مع مشكلات أخرى متعلقة بشكل الكتابة، ناهيك عن سببها. بينما تغلب على الرواية المكتوبة في الداخل التهويمات، وإيحاءات بعيدة عن الواقع الفعلي وضعت في سياق رمزي مقحم قلل من جودة النصوص.
وزاد: بين كل ذلك، يُلاحظ خفوت صوت القلم الأنثوي مع تحفظي استخدام عبارة «الأدب النسوي» لأنه لا يوجد نوع «جندر» للكتابة. إذ لا يمكن الحديث عن واقع السرد الإرتري أو السوداني إرتري، إلا بالحديث عن مها محمد الحسن، التي لم تكتب من إرتريا، لكنها كتبت بوجدان المنتمي لإرتريا.
وكما في الشعر كُتاب لم يقف وجدانهم عند نقطة حدودية، مثل العميد الراحل محمد كجراي، ومحمد مدني، والعميد الراحل عبدالرحمن سكاب، والكبير الراحل محمد مفتاح الفيتوري، جاء في مضمار الرواية قلم سوداني اعتبره الإرتريون صوت تناول مجتمع له امتدادات في إرتريا أيضا، هو الكاتب «حامد الناظر» لذا احتفوا بكتاباته، مثلما تفاعلوا مع كلمات، محمد عبدالله شمو «فعلى هذه السفوح المطمئنة، نحن قاتلنا سنينا.. واقتتلنا، نحن سجلنا التاّلف في انفعالات الأجنة» وجدوها تشبههم!
«ود أمير» الشاعر والفنان الشعبي:
ولم يغب عن الكاتب «عثمان همد» المشاركة في هذا الملف دون أن يخصص هذه المساحة، لذكرى راحل أحبته شرائح وطبقات متعددة في إرتيريا، صاحب المرتحلات الذي أضناه فجيعة حبه، فنقل تجربتة الغنائية والشعرية لأبعاد واتجاهات خارج إرتريا، وقال «همد»: الفنان الغنائي الشعبي الكبير «إدريس أمير» المشهور لذي عامة الناس «بإدريس ود أمير»، أحد أعمدة الفن والإبداع في مجال الشعر الغنائي المعتق، الهائم بالحب والجمال والترحال المليء بالشجن والتحنان والشوق والألم والآهات غني بلغة محلية قديمة، مليئة بالمفردات الأنيقة والمعاني السامية.
فالفنان إدريس ود أمير بما تركه من أدب رصين وشعر الحب الصادق الموغل في الوفاء للمحبوبة والترنم بجمالها ووصفها والموت في سبيل حبها، إضافة لونية جمالية وبصمة حنينية وقيم نبيلة، وقد تغنى له كثير من الفنانين والهواة والمحبين وعامة الناس فحفظ شعره في الصدور وتناقلته الأجيال من جيل إلى جيل عبر السماع ألشفاهي.
وأوضح أنه لم يتم جمع شعر ود أمير وتوثيقه وتقديم دراسات نقدية أدبية متخصصة حوله حتى اليوم مما ترك نقطة فارغة وغيب كثير من كهنه وعبق ذوقه، كما أن كثيراً من الفنانين الذين يتغنون بشعره ربما الكثير منهم لا يعرفوا من هو «ود أمير» ولم يشيروا لاسمه من باب حفظ حقوق المؤلف والشاعر، وهذا ظلم وتجني بحقه.
وبين الكاتب «عثمان همد» أن الشاعر والفنان إدريس ود أمير ولد في بلدة «عيلت» بضواحي «مصوع» مطلع القرن العشرين، والتحق في بواكير عمره الطري بخلوة لتحفيظ القرآن كعادة أقرانه من أبناء مجتمعه. إذ الدين والقرآن مقدم على المدارس الأكاديمية الحديثة، وأول ما يفتح التلميذ عينيه على التعليم يفتتح بالخلوة القرآنية، ثم بعد ذالك يعرج إلى المدارس، وهذه قيمة حضارية متميزة عند البجا. والتحق بإحدى المدارس الإيطالية وواصل بها الدراسة حتى أكمل الصف الثاني.. وفجأة تحول إلى حياة البداوة والرعي والريف المسكون بالثروة الحيوانية، إذ كانت أسرته تمتلك مُراحَات كثيرة من قطعان الأغنام. فكان لهذه المهنة لاقت وقعًا خاصاً واستحساناً في نفسية شاعرنا، وربما هي التي ألهمته موهبة الشعر والغناء فيما بعد.
وتابع: «لكن التحولات السياسية الكبيرة التي حدثت للعالم – ذلك الوقت – والحرب العالمية الثانية بين الحفاء والمحور، فرضت نفسها عليه فالتحق بالخدمة العسكرية الإجبارية في القوات البحرية الملكية الإيطالية. وشاءت الأقدار والتوزيع العسكري ليخدم ضمن القوة العسكرية في «مرسي تكلاي» في الساحل الشمالي بالقرب من قرورة. وفيما الحرب تضع أوزارها، أفرزت هزيمة إيطاليا على تقسيم أملاكها ومستعمراتها في القرن الأفريقي. فعاد الشاعر ود أمير إلى الحياة المدنية من جديد ليعمل في ورشة «لستر يستيمو». وفي عام 1943م، تزوج بفتاة توفيت بعد أربعة أعوام في حالة المخاض. وفي عام 1948م التقى بفتاة من الساحل الشمالي اسمها «آمنة» أحبها من أول نظرة، لكنها كانت مخطوبة، وتزوجت خطيبها، فصدم ود أمير وتفجر شعرا، فبدأ رحلة الترحال والتجوال في كل المناطق، ينظم الشعر ويقيم الحفلات الغنائية الشعبية، وجلسات السمر القمرية، يغني مترحلاً من قرية إلى قرية ومن بلد إلى بلد. وفي عام 1950م، انتقال من بيئة المولد والنشأة والحب والعشق، إلى بيئة جديدة للعمل والسفر. هنا التقى بالشاعر الغنائي المخضرم «عمر قنشرة» المقيم في حي «ديم» المدينة، أعرق أحياء «بورتسودان» القديمة والعتيقة – وبالمناسبة ديم المدينة هو نفس الديم الذي ولد وترعرع فيه الفنان والشاعر الكبير إدريس الخليفة علي نور المشهور في الوسط الفني السوداني بإدريس ودأمير صاحب بكائية سواكن.. صب دمي وأنا قلبي ساكن في سواكن – ومابين إدريس ودأمير صاحب الاسم الأول وإدريس ودأمير ابن «بورتسودان»، أدب ٌوشعرٌ وفنٌ وإبداع ووجدان مسكون بالجمال والحب – رحمهما الله – بقدر ما أعطيا كرسل للفن والمحبة والسلام.
وزاد: فأقام الشاعر والفنان «ود أمير» في منزل الشاعر الغنائي «عمر قنشرة» عدة سنوات، وأقاما حفلات وجلسات سمر وشاركا المجتمع في الأفراح والأعراس والأعياد. وألّفَ «ودأمير» قصائد غنائية كثيرة خلدت ذكرى إحياء مدينة «بورتسودان» العريقة. مثل: ديم المدينة، وديم النور، وهدل، وكوريا، وديم سواكن، وحي أولي، وديم جلود، والميناء، وغيرها. ثم تعرض لإصابة بمرض «بالملاريا»، وأثناء فترة مرضه أحب إحدى الفتيات، كانت تزوره باستمرار وتمارضه ببعض المشروبات والمأكولات التي عادة ما يتناولها المصابون، فنظم بحق هذه الفتاة الوفية أبيات من الشعر الغنائي الخالد ظلّتْ باقية في ذاكرة الناس لليوم. وبعد تلك السنوات الجميلة، الغنية بالإبداع والشجن، استأنف «ودأمير» قطار التسفار والترحال من «بورتسودان» إلى المملكة العربية السعودية، ومنا إلى الكويت في 1964م، وكان موعده مع القدر المحتوم والأجل المعلوم، وسَكتَ الشّعر الأنيق وخبأ الصوت الجميل، وتبخر الإحساس الرهيف، بموت «إدريس ود أمير» في العام الذي وصل فيه الكويت.عن الفن التشكيلي:
كشف الفنان التشكيلي المقيم في السويد «سليمان بخيت» أن الفن التشكيلي الإرتري الحديث ظهر مع بداية الاستعمار الإيطالي لإرتريا، إذ اقتبس من الحضارات المجاورة، كحضارة اليمن والحبشة ومصر نماذجه، وقد تجلى هذا في كيفية صهر وصقل هذه المقتبسات بأسلوب وطابع ذاتي خاص، جاعلاً من هذه العناصر المتباينة جداً فناً متميزاً خاصاً يعكس الوجه الإرتري. وهذا واضح بصفة خاصة في الفنون الشعبية مثل صناعة الفخار والسعف والمشغولات الخشبية.
أما الرسم والنحت في مجتمع قائم على الإنتاج الزراعي والرعوي فقد كان مكروهاً والنظرة العامة للفن التشكيلي كانت تقع في دائرة المنع والكراهية بتأثير من سيطرة فكرة «تحريم التصوير». فيما كانت الأشكال التي تفلت من حصار المنع والكراهية، فهي: نقوش السروج والعصي والأواني المنزلية والصناعات الفخارية، والزخارف المتكررة المرسومة على سجاد السعف والملصقات الجدارية التجميلية المصنوعة من السعف والقماش التي كانت تعلق في بيت العروس.
وأضاف «بخيت»: صحيح لقد ظهر الفن التشكيلي الحديث مع بداية الاستعمار الإيطالي لإرتريا وكان هناك فنانون تشكيليون إيطاليون إلا أن الأعمال الفنية التي كانوا ينتجونها لم تكن نابعة من التراث والإرث الثقافي للشعب الإرتري وبالتالي لم يكن فنهم هذا موجهاً لأهل البلد أو لإثراء ثقافته، لأن الاستعمار الأوربي بصفة عامة كان ينطلق أصلاً من فكرة التفوق العرقي بجانب فكرة السيطرة على الموارد الأولية من أجل الربح الاقتصادي. وبناء على ذلك لا يمكن إدراج الفن التشكيلي الإيطالي الذي تم إنتاجه إبان الاستعمار الإيطالي لإرتريا في خانة الفن الوطني لأنه لم يترك هذا الفن أثراً في أهل البلد.
وفي بداية الستينات من القرن الماضي بعد خروج الاستعمارين الإيطالي والإنجليزي ودخول الاستعمار الأثيوبي دخل الشعب الإرتري في مرحلة القلق وحالة انعدام الوزن وعدم الاستقرار، والقدرة في مزاولة حياته كباقي الدول والشعوب، فقد كانت المقاومة ميدانه وشغله الشاغل في كف الأذى والعدوان المُحيق بأراضيهم ووطنهم، وأمست حياتهم مرهونة بهذا الكابوس الجاثم فوق الصدور؛ فلم يستطع هذا الشعب ممارسة نشاطاته وفنونه كباقي الشعوب.
وزاد: كما لم يتمكن الرواد الأوائل من تشكيل حركة فنية جماهيرية في مثل تلك الظروف التي سادت إرتريا. وعند بزوغ جبهة التحرير الإرترية، المفجرة للطاقات الإرترية الكفاحية عبر وسائله المتعددة وفي مقدمتها الكفاح الشعبي المسلح، فقد كان بالإمكان أن تواكب تلك المرحلة فن تشكيلي محرض وفي نفس الوقت فن متفائل حالم بمكوناته الإنسانية، يكرس للمسيرة النضالية للشعب الإرتري. إلا أن بدايات الثورة الصعبة والقاسية وظروف العمل العسكري الميداني من جانب والمستوى الثقافي والتعليمي المتدني من جانب آخر حال دون ذلك. وفي أواخر السبعينات كانت هناك محاولة حثيثة لبث الروح في الفنون التشكيلية إذ أن مجموعة من المقاتلين كانت تقيم معارض تشكيلية في الميدان في أواخر السبعينات، ومن المؤسف أن تلك الأعمال لم يتم توثيقها كما يجب.
ومن المسلم أن فن التشكيل الإرتري المعاصر بمعناه الحديث بدأ بشكل فعلي في أواخر الستينيات على أكتاف الرواد من أمثال الفنان أحمد بلال الذي سجل العادات والتقاليد كما عايشها، والفنان محمد نور سعيد علي هذا الفنان الأكاديمي المبدع والذي تخرج من كلية الفنون الجميلة جامعة دمشق في أواخر السبعينات وشارك في عدة معارض تشكيلية في دمشق تلك الفترة. فكان أبرز مساهماته من خلال مجلة «الثورة الإرترية» التي كانت تصدرها جبهة التحرير الإرترية ببيروت. وبعد التحرير رجع إلى الوطن غير أنه قلّت أعماله التشكيلية.
وكان من أبرز الفنانين التشكيليين الأكاديميين ومن الرواد أيضاً الفنان التشكيلي «محمود دبروم» وهو واحد من أعمدة الفن التشكيلي الإرتري. ودبروم هو وجه ثقافي له حضوره المميز في كافة المساحة الفنية التشكيلية ولعل السبب في ذلك يعود بالدرجة الأولى إلى مواصلة دبروم دون توقف في الإنتاج لمدة أربعة عقود أو يزيد وبالتالي فإنتاجه يمثل إرثًا ثقافياً بحق، أيضا الفنان التشكيلي «ميكائيل ادوناي» إضافة إلى رمضان ياسين وجمال آدم.
ـــــــــــــــــ
اللوحة المرفقه للقائد الشعبي الإريتري دمات ود حامد للتشكيلي الإريتري سليمان بخيت ( عدوليس ).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى