حوارات

بشير إسحاق: لم تكن هناك فرص ذهبية في متناول المعارضة

بشير إسحاق: لم تكن هناك فرص ذهبية في متناول المعارضة .. والفيدرالية لم تحمل جينات التنظيمات التقليدية

في هذا الجزء من الحوار يتحدث الأستاذ بشير إسحاق رئيس المكتب السياسي للحركة الفيدرالية الديمقراطية الإريترية صراحة عن المشكلات التي تعوق طريق المعارضة الإريترية لتقدم نفسها للإريتريين ولكل أصدقاء الشعب الإريتري ودول المنطقة ، صراحة قل مثيلها في أوساط القيادات الإريترية. إجاباته اتسمت بوضوح تسنده قوة الملاحظة وروح البحث العلمي وهذا أيضا قلما يتوافر مع ممارس السياسي الذي يلجأ للتسويف والانزلاق من بين مسارب السؤال ليمرر أجندته.

أدعو القارئ لهذا لإفادات إسحاق مع شديد إمتناني لهذا الوضوح.

               نقل إفاداته: جمال همــــد 

لم تنجح المعارضة الإريترية طوال العقود الثلاثة الماضية من إحداث قطيعة حاسمة مع الماضي، مع صراعات مرحلة التحرير، لذلك فهي تعيش ذات المشكلات وتلجأ لنفس الحلول التي لا تفضي إلا لمزيد من التعقيد. يستوي في ذلك كل التنظيمات سواء تلك التي كانت قبل التحرير أو تلك التي نشأة بعد التحرير وهي تحمل ذات الجينات. كيف تفسر لنا ذلك؟

انه سؤال مركب وفيه بعض التعميم غير المُنْصِف في جزئيته الأخيرة، ولكني في البدء اود ان اتفق مع سؤالك في مضمونه الرئيس وأؤكد على الذي اشرت فيه وأقول بأن المعارضة في معظمها فشلت في الفكاك عن ماضيها ولم تستطيع ان تستوعب تعقيدات الحاضر ولوقارزمات المستقبل، بل انني اذهب ابعد مما ذهبت اليه انت في سؤالك، وأقول بأن اغلبية قوى المعارضة لم تستطيع مغادرة الماضي فحسب، بل انحدرت الى مستويات أدنى في سلم القيم السياسية والثورية والتي كانت تعتبر من الممنوعات او التابوهات في مرحلة الكفاح المسلح. وحتى نستصحب معنا الشباب الذي لم يعاصر مرحلة الكفاح المسلح اسمح لي ان اتوسع قليلا في اجابتي لتوضيح ما ذهبتُ اليه في الفقرة الموجزة أعلاه من انحدار البعض. 

بالإضافة الى عديد من العوامل الموضوعية الأخرى ذات الأهمية الكبرى، كان لخلافات قيادة جبهة التحرير الإريترية وصراعاتهم البينية المميتة دور أساسي في هزيمة ذاك التنظيم العملاق. وفي اعتقادي لم تكن تلك الخلافات بين القيادات في أصلها تنبع من انتماءاتهم الدينية او القبلية أو حتى من قناعاتهم الأيدولوجية وتوجهاتهم السياسية، بل كانت مائة بالمائة ترتكز على صراعاتهم الفردية حول السلطة والنفوذ السياسي المرتقب وطموحاتهم الشخصية.  ولكن، وأكرر كلمة… ولكن – وكما هو الحال في كثير من البلدان الأقل نموا واقل تمدنا حيث تكون العلاقات الوشائجية ما قبل الدولة وما قبل المدينة اقوى من غيرها بالذات في وقت الجزم والحسم –تميز انشقاق الجبهة الى عدة فصائل وعلى راس كل فصيل قائد وحوله حفنة من نفس عضوية” المجلس الثوري” للجبهة تربطهم به في الغالب الأعم – ولو على استحياء – أواصر وشائجية (قبلية اثنية مناطقية او دينية). وهكذا فان فصائل الجبهة المتناحرة على وراثة اسمها وشكلها، وان لم يجرؤ كل منها على الاعتراف بواقعه الجديد ظل يدعي بانه يمثل الجبهة العريضة وينكر انحداره ولو بدرجة نحو الوشائجية مما كانت عليه جبهة التحرير الكبرى. 

ولم تقف عملية الانشقاقات في هذه الفصائل الثلاثة التي خرجت من وادي “راساي” ، بل انشق كل منهما عبر السنين عشرات المرات والى عشرات من الكتل والفصائل – وبدون استثناء – يصعب تتبعها واحصائها ، وللأسف الشديد لا زالت تلك الانشقاقات مستمرة الى يومنا هذا تزكم بياناتها وفيديوهاتها واستنطاقها للأحياء والأموات انوف الوطنيين الأحرار. وكلما تم انشقاق في المجموعة القبلية كلما انحدرت المجموعتين كل منهما في اتجاه عشيرته الى درجات أدنى نحو الوشائجية القبلية والإثنية وصارت تنظيماتهما القبلية مرتعا لصراع عشائرها (جدنا وجدكم ولغتنا ولغتكم)، وحيث ان الفصيل يتكون من قبيلة فأصبح الانشقاق عنه يكون عن طريق العشيرة او المنطقة (البحر والسهل والعرب والعجم). وقد أتاح هذا الواقع المزرى المجال واسعا لأشكال جديدة وقديمة قائمة على نفس الشاكلة، حيث أصبحت التنظيمات الإثنية والقبلية المتدثرة منها تحت أسماء وطنية كبيرة او الظاهرة منها علنا بأسمائها وشكلها ورسمها وعمائمها الحقيقية، أصبحت هي الطبيعي المألوف والمقبول يتبختر اصاحبها ويتصدر المشهد العام بل يحتكره دون غيره بدون ادنى خجل وهو خالي الذهن من أي ابداع او قدرة على المبادرة والفعل ما عدا خوائه الإثني المتدني درجات ودرجات مما كان عليه الحال في العصر الذهبي لمرحلة الكفاح الوطني والثورة المجيدة. زد الى ذلك تتشرذم الحركة الإسلامية وصراعاتها واهتماماتها المادية وارتباطاتها الخارجية وانتهازية ترتيب أولوياتها والذي خلق ارباكا وفقدان للاتجاه. ولا اريد ان أنسى العامل الأكبر في السنين العشرة الماضية وهو التشوهات التي احدثتها الوياني في جسم المعارضة بخلق اشباه تنظيمات تخترق المعارضة وتفقدها طريق الصواب الوطني وتنحرف بها نحو العمالة ومعادات الوطن والوطنية.

وهذا الواقع المؤلم والمؤسف للمعارضة هو الذي ينعكس في فكرها وفي تحديد خياراتها وخطاباتها السياسية الممجوجة المكررة ويجعلها مقعدة مشلولة الا من ممارسات طقوس موروثة مثل البيانات والمؤتمرات التي تكون مخرجاتها معبرة عن هزالها وفقدان بوصلتها. وكما يقال “كل اناء بما فيه ينضح”. وهذا ما جعلني اللخص الجواب في الشق الأول من سؤالك على أن اغلبية قوى المعارضة لم تستطيع مغادرة الماضي فحسب، بل انحدرت الى مستويات أدنى في سلم القيم السياسية والثورية والتي كانت تعتبر من الممنوعات او التابوهات في مرحلة الكفاح المسلح. 

اما الشق الأخير من سؤالك بأن هذا التخلف والتكلس الذي تعاني منه المعارضة هو في جيناتها او ان كلها تصنف بهذا الوصف فهذا ما لا اتفق فيه معك، حيث كان لنا وللبعض من غيرنا مواقف معروفة ومشهودة وأفكار ونهج يخالف الأغلبية في المعارضة ، واسمح لي ان اتناوله في مكان آخر من هذا اللقاء.

2/ عُرفت المعارضة الإريترية بتضييع الفرصة الذهبية، فكلما كانت الظروف الإقليمية والعالمية مهيأة لإحداث اختراق والتقدم نحو أهدافها، ومغادرة مشكلاتها وكسر الطوق المفروض حولها ، تكون الفصائل في حالة صراعات بينية أو داخل ائتلافاتها بكل نسخه، إلى ماذا ترجع ذلك ؟

انا لست من الذين يقولون بانه كانت هناك فرص ذهبية في متناول المعارضة، ولكنها لم تستطيع اقتناصها. متي توفرت هذه الفرص الذهبية او الفضية او النحاسية لهذه المعارضة؟ وما هي هذه الفرص المهدرة؟ 

في رأيي الفرص تصنع صنعا بجهد من يقطفها، ولا تأتي لمن لا يعرف ان يصنعها، والمعارضة منذ ولادتها لم ترق الى مستوى خلق الفرص وصناعتها ولم ترتفع الى مستوى مقارعة النظام، ومن يحلم باقتناص فرص صنعها الآخرون فهو واهم، فلا أحد يصنع لك فرصة لكي توظفها انت وتستفيد منها انت وهو يحصد عناء صنعها. ان الحديث عن الفرص التي يصنعها الآخرون هو كسل ذهني وفكري وتبرير لتدخل الآخر في شؤونك. قبل تكوين جبهة التحرير وإعلان الكفاح المسلح كان قطاع كبير من شعبنا يتوقع نجدة الأمم المتحدة لتطرد له اثيوبيا وتتوجه بالاستقلال. وكثير من الأغبياء والعملاء اليوم يعتقدون ان الوياني توفر لهم فرصة تحقيق احلامهم وينتظرون ان تمنحهم الوياني الخلاص من اسايأس ونظامه لكي يستمتعوا في بلد آمن بعد ان تسلمه لهم في طبق من ذهب!!! وهْمٌ وغباء وعمالة لا غير. ليس هناك فرصة توفرها الوياني ولا غير الوياني، وان وجدت مثل هذه الفرص فلن تجلب الا الوبال والدمار والندم.  لم تسمح الوياني والمعارضة في بلادها وتحت رحمتها من توفير الفرص لها، بل لم تسمح لها بصناعة الفرص بنفسها حيث وضعت العصي في دواليبها وبذرت بينها الفتن وفتتت صفوفها وزرعت فيها عملاؤها وخلقت كيانات بديلة لها، فهل ننتظر منها الفرص وهي اليوم في وهنها وخبالها وفنائها؟؟

ولكن لو صدقتك اخي جمال وسلمت جدلا بوجود فرص يصنعها الآخر وإمكانية الاستفادة منها، فهل تعتقد ان المعارضة في يوم من الأيام كانت في الصورة التي ذكرنا كانت تقتنص مثل تلك الفرص؟ لم توجد فرص ولن توجد فرص الا بتغيير حال الذات. هل سمعت بان أمريكا غيرت نظام ما في أي بقعة من بقاع العالم للأحسن؟ ان أي بلد غيرت أمريكا نظامه بالغزو الا وحل به الدمار، وأفغانستان والعراق ودولة بنما هما خير مثال، ولا حك جلدك الا ظفرك.

3/ نشأة الحركة الفيدرالية الديمقراطية الإريترية من عدد من الشخصيات المثقفة والأكاديمية التنويرية وبشرت بإحداث اختراق في المشكلات الإريترية وطرح حلول متقدمة بالاعتماد على البحوث والدراسات إلا إنها سرعات ما ارتدت لتصبح كأي تنظيم عادي يخوض في ذات المشكلات ويحمل ذات الجينات ، ويعاني من نفس المشكلات البنيوية فكرا وممارسة وهيكلا، بماذا تعلق؟  

هذا أصعب سؤال سألتني عنه في هذه المقابلة وكنت أتمنى ان يرد عليه غيري من قيادات الحركة لأن الرد على هذا السؤال سوف يتضمن شيء من تقييم الحركة لذاتها ومواقفها النابعة من مطلقاتها الفكرية ومنظومتها القيمية والأخلاقية، وربما هو موضوع قيد الدراسة والبحث بيننا وينتظر محطة تنظيمية حتى يتبوأ مكانه إجماعا وتوافقا، ولكنك تمسك بتلابيبي ومن ناصيتي ولا يبدو ان هناك مجالا للهروب من حنكتك الصحافية واسئلتك المتربصة التي تعصرني عصرا بعد ان سلمتُ بالجلوس امامك. وان ما سوف أدلي به ادناه ليس بالضرورة ان يمثل قناعة الجميع في الحركة الفيدرالية.

مرة جاءني الزميل المرحوم أبوبكر سليمان (طيب الله ثراه) بمقال نقدي كتبه الأخ محمود ايلوس الذي يعيش في الولايات المتحدة الأمريكية يقول فيه ما معناه “مع ان الحركة مثلت تيار التجديد في المعارضة وقامت بالدفع تجاه ذلك الا انها تغرد في مكان غير مكانها، وكان من الأفضل لها وللمجتمع خدمة القضية بطريقة أفضل بانخراطها في مجال البحوث والدراسات والتنوير.” كان الزميل أبوبكر غاضبا ويتأهب للرد على اخونا ايلوس وذلك بإحصاء إنجازات الحركة في العمل الجماعي وضرورة دورها التجديدي والتنويري والتثقيفي والقيادي الذي تلعبه وسط التنظيمات الإرترية. وقد تفاجئ الأخ أبوبكر عندما ابديت برأيي وقلت له “انني اعتبر ان ايلوس قدم للحركة أجمل واصدق نصيحة مع انها جاءت متأخرة، كما انها مجروحة لأنها جاءت من شخص محسوب ايدولوجيا على جهة ترى تواجدنا في الساحة السياسية خصما عليها وتسعى لإقصائنا إن لم يكن القضاء علينا.” وكانت هذه نقطة خلاف بيننا جميعا لم تحسم حتى الآن ولكل الرأيين متحمسون وقناعات داخل الحركة.

ولمعرفتي بهواك السوداني عزيزي جمال دعني استهل الجواب بنكتة سودانية أرسلها لي أحد الأصدقاء

سألوا القُراصًة عن الفرق بينها وبين البيتزا فقالت القُراصًة: 

“انا والبيتزا توأمان خُلقنا من عجينة واحدة، لكن هي واصلت تعليمها فصارت بيتزا، واما أنا فأصبحت اباري جماعة ناس الويكة والتمليكا والتبلدي وملاح الروب فأمسيت قراصة.”   

دعني أولا اختلف مع سؤالك بان الحركة لا ولم ولن تحمل نفس جينات التنظيمات التقليدية ولم ترتد ابدا مما قامت من اجله واعلنته في برامجها، ولكنها ربما في الأرجح وقعت في “تقدير موقف تكتيكي غير موفق” في اختيار الوسيلة التي اتبعتها لتحقيق أهدافها. كان لنا موقف من العمل مع التنظيمات التقليدية الاثنية والدينية والطائفية (ليس المقصود هنا الطائفية الدينية، ولكن المقصود الطائفة السياسية الانعزالية Cult-) والمناطقية والشعبوية العاطفية الانتهازية. لا اريد هنا ان افتح لك مضامين مذكراتي بشكل كلي، ولكني أقول باختصار انه كانت تمارس علينا ضغوطات كبيرة من التنظيمات التي كنا نعتبرها صديقة للانضمام الى التجمع وقتها، ولكننا رفضنا. ولكن حصلت بعض الأحداث الاستفزازية التي اغضبتنا وكان علينا منازلتها في الميدان. من ضمنها كان التصرف الوقح من قبل زعيم الوياني في اثيوبيا والذي كان يمسك بملف المعارضة حيث اتي عنوة وغدرا بحروي تدلا بايروا وأسقط المناضل سيوم عقبامكئيل الذي كان يستحق رئاسة التجمع بجدارة. كما صنع بعدها تجمع اكليجوزاي الإقليمي الذي عرف ب(4+1). وكانت هناك الكثير من الأحداث من هذا الحجم الوطني التي استدعت مواجهتها مباشرة ووجها لوجه واجبرتنا للالتحاق بالتحالف الديمقراطي عندما دعينا اليه وكان ذلك بترشيح من المجلس الثوري بقيادة المناضل المرحوم سيوم عقبانكئيل. كما كان هناك نوع آخر من الضغوط يلاحقنا تمثل في الاتهام الذي لاحقنا من الجميع باننا جماعة تنظير فقط بعيدة عن الواقع، وكان يقال لنا “تعالوا وساهموا معنا في اسقاط النظام ثم بعد ذلك نستمع منكم عن نظام الحكم الفيدرالي او غيره.” ودخلنا التحالف وقدنا فيه تجديدا وتطويرا فكرا وعملا. فكان التواصل الخارجي النشط حتي دخلنا به البيت الأبيض وقرعنا به أبواب الإتحاد الأوروبي ودوله، كما اقتحمنا به منظمة الوحدة الإفريقية وصارت مذكراتنا توزع في قاعاته، وكان التطوير الإداري الداخلي ، وكانت المواجهة العلنية مع العملاء والصنائع ورفض التدخلات الإثيوبية ، وكان ملتقى الحوار الوطني ، وكان المجلس الوطني ، وكانت مواجهة الفتنة الإثيوبية الموكلة الى سيئ السمعة والخُلق المُخْبِر المدعو قرناليوس بالإساءة الى رموزنا وثوابتنا الوطنية، وكانت عملية اللجنة التحضيرية وانتزاع شرعية  المجلس الوطني بوعي وإصرار من بين فكي التمساح الإثيوبي واعوانه من “الأجعازيان” ومن لف لفهم من “بلوص زرئي” والخروج به الى ستوكهولم. من منكم ينكر كل هذا وغيره من البصمات التاريخية التي انجزتها الحركة. ولكن لدينا شعور باننا ربما كنا نحاول ملئ برميل مخروق. 

عندما كنا في طريقنا من مطار ارلندا بإستكهولم الي الخرطوم بعد ان قررنا المشاركة في مؤتمر التحالف الذي انعقد في الخرطوم 2005، كان من بين المودعين للوفد (بشير إسحاق، وارهي حمدناك، والدكتور جلال الدين محمد صالح) الزميل الأستاذ فسيها نائر، الذي قال لنا ” اننا امام امتحان عسير، فهل يا ترى سنرتفع بهذا التخلف الذي تعاني منه معظم التنظيمات التي قررنا العمل معها ، أم أننا سوف ننحدر الى حيث ما هي عليه؟” وفي يوليو 2022 قال لي الأستاذ ناير عبر الهاتف “لقد فعلنا ما كان يجب علينا فعله، انت بالذات قد فعلت الكثير، ولكن لا عليك ، فان المعادلة التي صنعناها وحاولنا تقويمها قد سقطت في الحضيض لقد ابت الا السقوط.”

4/ قبيل مؤتمر ” أواسا ” ظهر بكثافة مصطلح ” منظمات المجتمع المدني ” وعلى عجل تكونت هذا المنظمات وشاركت في المؤتمر ووصل بعضها لسدة موقع القرار الأول في المجلس الوطني للتغيير الديمقراطي، ثم تلاشت بعد ذلك حتى لا نكاد نسمع عنها ،أين هذه المنظمات وما هو نشاطها وما هو دورها في المرحلة ؟

بهدف تزويد الشباب بشيء من تاريخنا ووضع سهم يشير لبعض الخيوط التي ربما تدل الدارسين والباحثين الى الحقائق في هذا الموضوع، ومن أجل شحذ ذاكرة الكبار الكهول منهم والشيوخ وتذكيرهم لبعض ما نسوه، دعني أوضح لك قليلا عن توقيت قيام ما اسميته “منظمات المجتمع المدني” وكذا أسباب قيامها ومآلاتها عبر الأمواج السياسية التي عصفت بالمعارضة الإرترية منذ 2005 والى ابريل 2019 انعقاد المجلس الوطني للتغيير الديمقراطي. 

حينما طرحت الحركة الفيدرالية ورقتها الشهيرة “لماذا وعلى ماذا وكيف نتوحد”؟ في المؤتمر التأسيسي للتحالف الديمقراطي في 2005 في الخرطوم، كانت الفكرة الأساسية فيها تتلخص في: –

1)  تحويل المعارضة المحصورة حاليا على التنظيمات السياسية – المعزولة نوعا ما عن الشعب في الداخل، كما ينظر اليها السواد الأعظم من جمهور المهجر إما بنوع من الريبة والشك او بنوع من اللامبالاة لاعتقاده بعدم فعاليتها – تحويلها الى حراك جماهيري واسع (Mass Movement)، يأخذ في هياكله تجربة منظمة التحرير الفلسطينية وغيرها من التجارب الناجحة وبالرجوع الى تجاربنا المحلية الوطنية، وعلى ان يكون هذا الحراك محكوما بضوابط تنظيمية ومبادئ أخلاقية وسياسية وذلك حتى لا نقع في مهب الفوضى العارمة. وتتمثل هذه الضوابط في الضمان للتنظيمات السياسية -عبر مظلتها التحالف الديمقراطي – قيادة الحراك الواسع وتوجيهه سياسيا، والضمان للجمهور الواسع المشاركة في صنع القرار السياسي من خلال اتحاداته الفئوية ونقاباته المهنية، بل والمشاركة في التنفيذ كل في محليته بفعالية، وكل من موقعه وحسب إمكاناته، وذلك من خلال اطر مدنية غير سياسية، بمعني انها لا تسعي في قيادة العملية السياسية كما هو الحال في التنظيمات السياسية المدنية التي تتنافس عبر برامجها لممارسة السلطة. 

 وتمهيدا لهذا الفكرة، يتم عقد مؤتمر للحوار الوطني يتم فيه – ضمن أشياء أخرى – توحيد منظمات المجتمع المدني على شكل اتحادات أو نقابات مهنية (وتأسيس ما هو غير متوفر منها). لتشكل الشريك الجماهيري للتنظيمات السياسية في الحراك الجماهيري الواسع، او كما سميت لاحقا بالمجلس الوطني. 

ولكن ما الذي جرى بعد ذلك في الواقع العملي؟

وقد تم تبني الفكرة في المؤتمر التأسيسي للتحالف الديمقراطي مع التأكيد على دراستها جيدا وتطويرها واضافة أي أفكار تصب في نفس الاتجاه (حيث أوضح تنظيم المجلس الثوري اثناء النقاش بان له مشروع غير مكتمل لورقة مماثلة سوف يعمل في تطويرها وربما يعمل مع الحركة على دمجها في الورقة الماثلة، وقد كانت العلاقة بيننا في ذلك الحين يكسوها غلاف من الشهد). وقد تكونت لجنة (من 13 شخصا، واحدا من كل تنظيم من عضوية التحالف) للمزيد من دراسة هذه الورقة واضافة كل ما يستجد في هذا الاتجاه، وقد شرفني وكلفني المؤتمر برئاستها. وكان ما قامت به هذه اللجنة هو مرحلة الانطلاق الحقيقي نحو ملتقي الحوار الوطني في 2010 ثم مؤتمر اواسا وتأسيس المجلس الوطني. 

انطلقت اللجنة ومعها كل تنظيمات التحالف الديمقراطي (أقول جلها لكي أكون منصفا لأن هناك من كان مترددا محتارا) وفروع التنظيمات وكوادرها بالتبشير بالشراكة مع المجتمع المدني وتشجيع قيامها بشكل لا نظير له من الحماس ووحدة الهدف وتكامل الفعل. وقد قمت بحكم موقعي رئيسا للجنة التحضيرية بالطواف على جل اقطار اوروبا  وأمريكا والشرق الأوسط والسودان، شارحا وموضحا ومنظرا ومبشرا بانتقال موعود من عالم التمزق والتكلس والتخلف والشكوك الى عالم الوحدة والكفاءة والحداثة وتجديد الخطاب السياسي والارتقاء الى مستوى الند الكفؤ (القوي الأمين) الذي يحمل برنامجا متفوقا وتنظيما منافسا للنظام ، مشجعا الجميع الى التجمع حسب مهنهم وبلدان اقامتهم تمهيدا لمشاركة ممثليهم في المؤتمر وتأكيد مشاركتهم الحقيقية في صنع القرار ولعب دورهم النضالي في دعم عملية التغيير الديمقراطي الصعبة. 

وهكذا قامت عدة تجمعات باسم المجتمع المدني في جميع انحاء العالم، بل أثار وايغظ تحركنا هذا بقصد او دونه طموحات واشواق الكثير من المتعلمين في السلطة والجاه، وصار البعض يتصل بنا ويتقرب الينا في حين البعض الآخر تجاوزنا وهرول تجاه اثيوبيا (الوياني) وعرض خدماته اليها وحاول اقناعها بكفاءته وولائه، أما جزء من متعلمي أوروبا وامريكا فقد امتشق سيوف غضبه لأفشال الفكرة ولم يتعب حاله لدراستها واكتفي بالحكم عليها من خلال رايه المسبق على اصحابها وصار يصفها  بانها خطة إسلامية لخلق تكتل إسلامي هدفه التفوق على المسيحيين . كما وحرك عملنا هذا ونكأ جراحات واحلام مجهضة ظلت كامنة في نفسيات البعض من المناضلين القدامى الموزعون عبر القارات بالذات من جهة مقاتلي وقيادات جبهة التحرير حيث اضحي لسان حالهم يقول “من انتم، نحن أصحاب استحقاق، افسحوا لنا الطريق” وصار الجميع يتبادر في الإعلان عن منظمته المدنية أو تنظيمه السياسي، بل حتي حقوق قومتيه او اثنيته المظلومة صاحبة التاريخ المجيد صاحبة كل انجاز وطني بدء من حركة التحرير والى يوم القيامة ، والإقليم صاحب الامتياز المسجل في الريادة والثوابت التي تفوق تضحياته ما بذله الآخرون. ولكن في الواقع ان شعبنا بقومياته واثنياته واقاليمه بريئا مما رأيناه، وفي تقديري ان هذه المكونات الاجتماعية التي تتاجر النخب المتطلعة باسمها ونيابة عنها كانت وما زالت شامخة عزيزة متسامحة وموحدة، ولكن اتخذها المتعلمون واشباه المتعلمين الانتهازيين الأقرب الى الجهالة جعلوا منها اغطية ومركوبات لحمل طموحاتهم واحلامهم. وفي الحقيقة ما شاهدناه كان انتهازية البرجوازية الصغيرة الوصولية تمشي على رجلين. وهكذا أصبح من الصعب الفرز بين ما هو حقيقي وجماعي وما هو فردي ووهمي، وبين ما هو مشروع ويشكل إضافة نوعية وبين ما هو مضر وانتهازي ونفعي ووصولي. لقد اختلط الحابل بالنابل وعلا صوة الغث على الثمين.  وبينما نحن في هذه المعركة توقف العمل تجاه تنفيذ الفكرة نتيجة الخلافات وانشقاق التحالف في مؤتمره الذي عقد في “جنت هوتيل” في اديس ابابا 2007. ولكن وبعد انقطاع دام لعامين قمنا بالدفع بالفكرة مرة أخرى فيما اسميناه “المؤتمر التوحيدي للتحالف” الذي عقد في مساكن الصليب الأحمر في حي “سأريس”   بضاحية اديس ابابا، كما تم تكليفي مرة أخرى برئاسة اللجنة التحضيرية لـ”ملتقى الحوار الوطني الإرتري 2010″

وفي الوقت الذي انهمكت فيه اللجنة التحضيرية ومن شاركها افكارها ومجهوداتها واحلامها في الحشد الجماهيري المطلوب وإيجاد موجهات نظرية وهياكل عملية تناسب المظلة المرجو اقامتها، ظهرت هناك ثلاث مسارات أخرى منفصلة عن بعضها البعض- كل يعمل بطريقته ولأجنداته الخاصة به – كانت تعمل بشكل مواز ولكن في الاتجاه المعاكس للجنة التحضيرية وتقوم بإفساد كل الترتيبات التي كانت تقوم به، مما أدى في حصيلته النهائية الى إجهاض مخرجات الملتقي ومن ثم المؤتمر بعده والانحراف بهما عن مسارهما المخطط لهما، وسقوط فكرة قيام المنظمات الفئوية والمهنية المستقلة بشكل اساسي. وكانت هذه المسارات تتمثل في الآتي:-

  السلطات الإثيوبية (الوياني ممثلة بشكل أساسي في: – صنعاء فورم، ووزارة الخارجية، ومكتب الأمن الخارجي التابع لرئيس الوزراء، ومكتب الدراسات الذي يجلس على راسه مؤسس الحزب سبحات نقا.)

ابتدرت اللجنة التحضيرية إعدادها لملتقى الحوار بعقد سمينارات وورش عمل تمهيدية كثيرة لقطاعات عديدة من جمهور المهجر كل في منطقته ومدينته ومن ثم تكرار ذلك بشكل أكبر بحضور ممثلين لكل تلك المناطق في اديس ابابا بهدف الوصول الى اشباع الموضوع المطروح بحثا ونقاشا والوصول الى رؤية مشتركة او متقاربة وذلك لكسب الوقت وتسهيل عمل الملتقى. وكانت وزارة الخارجية هي من قامت بتمويل هذا العمل الإعدادي (في الظاهر على الأقل)، وبذلك كان لزاما علينا ان نقدم لهم قوائم كاملة بأسماء المشاركين في تلك الأنشطة وذلك من اجل أعداد بطاقات السفر، والاستقبال، والإسكان، والإعاشة. وكان هذا هو السهم المسموم القاتل حيث ان كل قائمة تقدم إليهم كان يتم دراستها بعناية فردا فردا ويتم العمل فيهم بعد وصولهم بشكل مكثف من خلال جيش من الكوادر الذين يجندونهم، كل حسب ميوله مستخدمين الدين والجغرافيا الإقليمية والانتماءات السياسية القديمة (جبهة – شعبية) وحتى الطموحات الشخصية، ويذهبون بهم لمقابلة قيادات الوياني المختلفة كل حسب وزنه الذي يقدرونه له، وذلك بدون حتى أخطارنا. ويتم تأجيل مواعيد عقد تلك الورش بدون أي سبب يذكر، ويتم إدخال برامج ترفيهية وزيارات لمواقع سياحية لا توجد في برامجنا الموضوعة مسبقا، ولا معنى لها الا لكسب الوقت لعملية التجنيد. فما كان قد خططنا له خمسة أيام صار يستغرق خمسة عشر او عشرون يوما. وكانوا يتقربون من الأفراد كل حسب ميوله، فالدين والقومية والإثنية والنفخ في الشخص وتمجيده والتلويح له بأهليته لمكانة رفيعة في الحكومة الإرترية القادمة فورا. ومن اسوء ما قاموا به هو خلق انطباع كاذب وايهام الناس بان هذا الملتقى هو لتحديد رجال الدولة من برلمان وحكومة بعد التغيير الذي سوف يتم سريعا بمجرد ان يتم الفراغ من تحديد من يشكلون حكومة ما بعد التغيير في الملتقي. وصار الأشخاص الذين كنا نستقبلهم في المطار ونحس باحترامهم وتقديرهم لنا وتفاعلهم معنا بجدية ووطنية حين وصولهم ، يتحولون خلال أيام قليلة ويبدون روحا عدائية ضدنا وضد بعضهم بعضا ويتحولون الى المديح والثناء للمضيف الإثيوبي ويعددون افضاله على ارتريا بشكل مفضوح. 

 التنظيمات السلطوية:- لقد فهمت بعض التنظيمات من داخل التحالف وكثير من منظمات المجتمع المدني والأفراد، والمضحك المبكي حتى بعض رجالات الرعيل من المناضلين الذين تقدم بهم السن، إشارات الوياني المضللة وسلوكها المشبوه بانها تشير الى “عزمهم في اسقاط النظام فورا واقتلاعه من جذوره ، وان هذا الملتقى ما هو الاَّ مرحلة اعدادية لتحديد البديل الحقيقي للنظام من حكومة ومستشارين وبرلمان”، وانطلاقا من هذا الفهم الواهم والكاذب الذي دفعت به الوياني همسا ونشرته بين الناس، أصبحت هذه التنظيمات السلطوية تتهافت في الحشد والتجييش للملتقى وجمع نسائهم وابنائهم واقربائهم ومناصريهم والدفع بهم تحت يافطات مختلفة لحضور الملتقى وتحديد نتائجه .وقد رأينا وسمعنا العجب من تهافت هؤلاء وتكوين تحالفات ذات طابع اثني ومناطقي مكشوف بغرض الكسب بحق او بغير حق، وقد رأينا بعض التنظيمات تُهَرِّب من لا يحق لهم الحضور من عضويتها عبر سيارات بعض الزوار والطواقم الفنية وغير ذلك من طرق ملتوية الى داخل مكان عقد الملتقى وفرض الأمر الواقع في قاعة الاجتماع. وواصلت هذه التحالفات وتهافتها في تكوين المفوضية وبعده في مؤتمر اواسا الذي انبثق منه المجلس الوطني. ولم يكن لهذه الجهات أي هم يذكر لمخرجات الملتقى الفكرية والسياسية على الإطلاق، بل صبت جام جهدها في تحويله الى ساحة منافسة انتخابية خالصة. وكعادتها رفدت الوياني هذا الاتجاه بتوجيه “دمحقي” (قرناليوس)، “والبحر الأحمر” (هارون) للالتحاق بهم والتحالف معهم ودعمهم، كما فعلت ذلك من قبل في الحاقهم بما عرف ب(4+1) ، ثم سحبهم منهم حينما تم الاستغناء عن خدماتهم.

  حزب الشعب الديمقراطي:- هؤلاء أيضا كوَّنوا تيارا معاديا للملتقي من نوع آخر- وذلك لأسباب سياسية أخرى خاصة بهم لا يسعنا ذكرها هنا ، وفي الحقيقة بدون ان يكون لهم أي ارتباط بالوياني او دفع من قوى خارجية أخرى – واتهموه بانه تجمعا إسلاميا موجها ضد المسيحيين (راجع المقابلة التي أجرتها صوت أمريكا VOA مع ولديسوس عمار ومعي باللغة التجرنية يوم افتتاح الملتقى دون ان يعرف كلانا بان الآخر على الخط المقابل) ، ومع انهم استطاعوا خلق شيئا من الريبة والشك تجاه الملتقى إلا انهم لم يستطيعوا وقف المسيحيين من حضور الملتقى والمشاركة فيه بشكل فعال جنبا الى جنب مع مواطنيهم من المسلمين.

لا يفوتني هنا ان اذكر ثلاثة مواقف رئيسية اعتقد انها أدت الى تلاشي ونسف  الفكرة الرئيسية والأساسية التي تأسس عليها قيام الملتقى والمجلس الوطني وهي “إقامة أداة سياسية فعالة على شكل مظلة نضالية تقوم على الشراكة بين تنظيمات سياسية تمارس العمل السياسي المباشر وتقوده، ممثلة في تحالفها الديمقراطي + منظمات مجتمع مدني تشاركها صنع القرار وتدعمها في أداء مهامها دون الانخراط المباشر في قيادة العملية السياسية” ، وبالإضافة الى العوامل الأخرى كان لهذه المواقف او الأحداث ادناه الأثر المدمر للفكرة الرئيسية والانحراف عنها الى الفوضى والارتباك في الشكل والمضمون الذي نعيشه اليوم في ساحتنا المعارضة، وهما:-              اعتمدت المفوضية المعيار الرئيسي والوحيد للمشاركة في مؤتمر اواسا هو دفع مبلغ محدد كرسوم للمشاركة. وكان هذا القرار هو الذي فتح الباب واسعا امام كل راغب في المشاركة ان يتقدم ويدفع المبلغ ويتم اعتماده كعضو في المؤتمر. كما سهل ذلك الأمر على أجهزة الأمن الإثيوبية وصنعاء فورم بصفة خاصة الدفع بعملائهم ومخبريهم وتلك التنظيمات المصنعة من قبلهم، والدفع بهم الى المؤتمر ليعوثوا فيه خرابا ويفقدوه توازنه. ليس هذا فحسب، بل ان بعض الجهات تؤكد بان أجهزة المخابرات الإرترية قد تمكنت بدفع عدد غير قليل الى مؤتمر اواسا سجلوا جلساته وأحداثه صوتا وصورة. ونتيجة لذلك اختلط الحابل بالنابل وحظي بعضوية المؤتمر جماعات وافراد ومنظمات وتنظيمات وهمية لا تقوم الاّ على خيال اصحابها، وعاث هؤلاء الأفراد والجماعات بالمؤتمر ووصل بعدهم الى مراكز القرار فيه.

  وضع الإثيوبيين كل ثقلهم وتأثيرهم وأدواتهم في مؤتمر اواسا بتهميش التحالف الديمقراطي وتنظيماته السياسية – صاحب الفكرة والتنفيذ – وتقديم ما كانوا يسمونه “تنظيمات خارج التحالف” و “منظمات المجتمع” ، وبهذا تم حصر التحالف في 8 مقاعد من 21 في المكتب التنفيذي وتم تسليم سكرتارية المجلس لأشخاص منهم من اتي من برلين ولندن دون ان يعرف لهما انتماء سياسي او حتى منظمة مدنية معروفة. وهكذا فقد التحالف الديمقراطي التأثير على المجلس وقيادته كرأس سياسي منظم ورائد. وهكذا أخذ الثنائي المعروف صقاي وفرويني يتصرفات من وحي انهما رئيس للجمهورية ونائبه، تصريحا وتنفيذا. وصارا يعتبران أنفسهما انهما منتخبان من الشعب الإرتري ويمثلانه. ولم يعد المجلس أداة نضالية ثورية بل سلطة سياسية تمارس السلطة. 

  والأدهى والأمر من كل ما ذكرنا تبنى تحالف أواسا الجغرافي (الأخوان +الإنقاذ + النهضة) والذي فاز برئاسة المكتب التنفيذي رؤى تقول “المجلس الوطني هو برلمان ارتريا والتنفيذية هي حكومة ارتريا”. ورفضوا بشكل واضح قيادة التحالف الديمقراطي للمجلس الوطني وطالبوا، بل وعملوا زوبعة إعلامية كبيرة لحله. وهكذا أصبح التحالف شقين متنازعين. وأذكر ان جبهة الإنقاذ اصدروا بيانا حينها يتحدثون عن ان ساحة المعارضة “لا تتحمل راسين”، قصدوا به التحالف والمجلس، حيث اعتبروا انفسهم هم حكومة ارتريا المنتخبة ولا يجب ان يكون في الساحة رأس اعلى منهم او يوازي راسهم. أما الشق الآخر (ونحن منهم) فكان يرى “ان المجلس ليس برلمانا وكذا التنفيذية ليست حكومة، بل أدوات نضالية مرحلية ولا تمثل الا عضويتها”، كما كنا نرى بان المجلس الوطني هو حراك جماهيري عريض وواسع يتم فيه تحالف بين المنظمات المدنية غير السلطوية وبين التنظيمات السياسية ممثلة في التحالف. ولا بد لهذا الحراك العريض من رأس وطليعة منظمة تكون له بمثابة الراس من الجسد وتقوده، وكنا نعتقد ان المؤهل الوحيد للعب هذا الدور هو التحالف الديمقراطي، وبأن عضوية التحالف في المجلس عليها ان تخضع للقرارات المركزية للتحالف وتأتمر بأمره الجماعي ككيان قائد ومبادر وموجه للعملية السياسية كلها، ولكن ذاك التحالف المذكور أعلاه وبالذات الأخوان المسلمين الذين يسعون للهيمنة والسيطرة على كل شيء تلمسه يدهم شمروا على سواعدهم لتحدي التحالف الديمقراطي واسقاطه. وهكذا انفرط العقد وعمت الفوضى في المجلس وتغيرت شروط اللعبة وتبعثرت قواعد الاشتباك السياسي، و”ذهبت ريح المعارضة كلها”، وبدلا من محاولات الارتقاء في فن التحالفات وفي فن إدارتها وتوسيع مساحة إدارة القرار فيها تنحدر لتصبح في قبضة ائتلاف ما او تنظيم ما أو شخص ما بمفرده يدير جلسات المجلس ويتخذ له قراراته تفويضا، وهو الذي يرقع تنفيذيته ويعين تحضيريته. أي مظلة تمثل أطياف سياسية وايدولوجية مختلفة ويفترض ان تعمل معا في حدود الحد الأدنى الممكن تدار بهذه الطريقة؟ ولولا هذا الخواء الذي سقطنا تجاهه لما كان لنا حاجة للبحث عن أوسمة فخرية وشهادات سلام وهمية لم نتشرف بصنعه أو ممارسته حتى في داخل قوقعيات قبائلنا وتنظيماتنا المتلاشية دوما ومظلاتنا التي تفتقر الى تجاوز ضعفها ناهيك ان نصنعه في الإقليم والعالم، وكان فقط يكفينا ان نتسربل بفخر وطنيتنا وبإنجازات نصنعها بنضالاتنا واجتهاداتنا وقوفا مع شعبنا ووطننا. 

وهكذا أيضا انتهى المجتمع المدني بدون ان يكون له بواكي، وماتت فكرة تكوين اتحادات ونقابات المجتمع المدني الفعالة للمشاركة مع التنظيمات السياسية في صنع القرار وليس في السلطة، وتحول الجميع الى تنظيمات حقيقة او وهمية تتباهى او تتحسر في العدد الذي حققته من نصيبها في قيادة المجلس او تنفيذيته، وتحول بعضها مباشرة بعد المؤتمر الى تنظيمات جهوية شعبوية او إثنية انطلقت بنفس تنافسي قصير ومتشنج نحو مواجهة محمومة وغير حميدة للتنظيمات السياسية في الساحة، وادعت القيادة والريادة لنفسها في حين اتهمت التنظيمات السياسية  بفقدان البوصلة والفكر لعدم تبنيه التنظيمات الجهوية او التحول اليها. وهكذا انحدرت الساحة المعارضة الى عملية التهافت وتهافت التهافت نحو تكوين التنظيمات والوصول بها الى القيادة الافتراضية غير الملموسة في الأرض، وذلك لإشباع طموحات بعض المتعلمين وانصاف المتعلمين من نخبنا. وهكذا تلاشت فكرة الشراكة بين التنظيمات السياسية ومنظمات المجتمع المدني وتلاشت معها تلك المنظمات ذاتها، وللأسف الشديد لم يبق منها اليوم أي اثر يذكر. 

5/ ائتلاف المجلس الوطني للتغيير الديمقراطي كان نتاج مؤتمر ” أواسا ” الذي انعقد في منتجع ” أواسا ” بجنوب إثيوبيا 2012م، كـ ” مظلة جامعة .. ووعاء يستوعب الجميع.. ” إلخ حسب ما كان يتردد في أدبيات ومقولات تلك المرحلة. بعد مرور عقد من الزمان كيف تقييم تجربته؟

كان التحالف الديمقراطي – كما اسلفت أعلاه- هو صاحب مبادرة ملتقى الحوار والمفوضية والمجلس الوطني بلا منازع وكان له تصوره ورؤاه لمخرجاته المرجوة. وكان للوياني أجنداتها ورؤيتها لمخرجاته تصب في قوالبها واهدافها، وكان هناك صراع خفي غير معلن يدور بين الجهتين. وبعد بدء المفوضية لأعمالها وقدرة اثيوبيا السيطرة على رئيسها بشكل كلي (الذي دفعنا به نحن الى قمتها)، واستمالة معظم عضوية تنفيذيتها والسيطرة عليهم وتوجيههم بشكل كامل نحو استعداء التحالف الديمقراطي والتنظيمات المنضوية فيه بشكل خاص، ولذا تأكد لنا جليا بان العملية السياسية في الجسم الجديد المزمع تكوينه قد انحرفت عن المسار الذي رسمناه لها وتم اختطافها قبل ولادتها. وكان من الصعب مواجهة تلك الأوعية (المفوضية مثلا) التي صنعناها بأيدينا والوقوف ضدها بعد ان تم استعدائها لنا بقوة التمويل والتأثير الإثيوبي. وكما يعلم الجميع بأن الفوضى العارمة والضغوط الإثيوبية، بل فيتو جنرال صنعاء فورم في سير المؤتمر وتشكيل قيادته كان سيد الموقف في أواسا. وقد قالها حينها المرحوم المناضل أدحنوم قبرماريام بان “المجلس قد ولد ميتا”. وهكذا كان تقييمنا للمجلس منذ ولادته بانه جسم ميت، كشكول غير ذي وجهة سياسية -لبن سمك تمر هندي – وذلك بشكل اساسي نتيجة لتركيبته المريبة (بالإضافة الى أشياء اخرى) والتي تمثلت في دخوله تنظيمات وشبه تنظيمات تم صناعتها في مختبرات الأمن للوياني ونعتقد ان لا صلة لها بالوطن ولا بمطالبنا الوطنية، وكذا حشوه بالتنظيمات الإثنية والتحالفات الانتهازية وسيطرتهم على مواقع القرار فيه. ولكن وبالرغم من تقييمنا هذا قمنا بتقدير موقف وقررنا التمسك به والصبر عليه ومواصلة محاولة انتزاعه وتقويمه، وان لم نستطع فعلى الأقل منعهم من استغلاله وتوجيهه ضد القوى الوطنية، بل ضد استقلال وسيادة ارتريا بصفة عامة، بمعنى آخر منعهم من استعمال شرعية المجلس ضدنا وضد وطننا، وهذا كان المنطق الذي تعاملنا به معه تكتيكيا هبوطا وصعودا وصولا الى استوكهولهم. وكنا نسمي تقدير الموقف هذا حينها تهكما “عملية انتزاع سمكتنا البلاستيكية من بين فك التمساح التجراوي وتوابعه”. 

اما في مؤتمر استوكهولم والذي وصلته انا شخصيا كرئيس للجنة التحضيرية – التي اخذت على عاتقها انتزاع السمكة من فك التمساح- منهكا ومتعبا ومريضا لا اقوى على ممارسة سلطاتي مما مكن اللجنة اللوجستية المكلفة في الموقع السيطرة على كل تفاصيل المؤتمر المالية منها والسياسية وصارت ترتب العضوية وتلعب فيمن هو عضو عامل او من هو مراقب او من هو صحفي يمارس عمله دون عضوية.

 فقد حدثت فيه اشياء كانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير وجعلت ذلك الجسد الميت أكثر مواتا: –

–       كانت الوياني وصناعاتها من التنظيمات – ما تخلف منها وما التحق بالمؤتمر مثل الساقم واسدلي – يشنون حملاتهم ويقيمون تحالفات مشبوهة (جماعةPetition) لإجهاض الطلاق مع الوياني ومنع الانعتاق عنهم، او على الأقل إبقاء تأثير الوياني عبرهم

–       كانت قيادة الجبهة (قبل الانشقاق الثاني) حينها غاضبة جدا لأسباب منها: – عقد المؤتمر في مكان بعيدا عن بيئتهم التقليدية مما منع مشاركة مناصريهم فيه تحت يافطات مختلفة كما اعتادوا في السابق ، وذلك مما يقلل من نفوذهم فيه – وعقده بعيدا عن اصدقائهم في مقلي الذين يحتفظون عندهم بأسلحتهم “النووية!!”- وكذا لقبول مشاركة المجموعة التي انشقت عنهم في المؤتمر

–       كانت التنظيمات الإسلامية السلفية غاضبة جدا لاعتبارهم بان عقد المؤتمر في اروبا قد قلص دورهم وغيبهم وقد يؤثر على علاقتهم مع الوياني، وأيضا لنفس الأسباب السالفة التي يشتركون فيها مع الجبهة. هؤلاء على الأقل كان لهم مبادرة احترمناها لعقده في تركيا، ولكنهم لم يستطيعوا الحصول عليها، في حين ان الآخرون عاجزون حتي عن محاولة طرح البديل. 

ونتيجة للعوامل أعلاه وغيرها صار المؤتمر واقعا تحت رحمة تحالف أصحاب ال(Petition) ، حيث شملت التحالف الثلاثي القديم منذ أواسا (الأخوان المسلمون والنهضة والإنقاذ) + (اسدلي والساقم) . وبالطبع وضمن هذه التركيبة المعطوبة لم يرد في خلدهم بتحويل “النقلة الجغرافية” التي احدثناها الى “نقلة نوعية” تتمثل في الانتقال من هيمنة الوياني الى رحاب حرية القرار الذاتي الوطني أو على الأقل دراسة الوضع الجديد ووضع التشريعات والهياكل المناسبة له، بل على العكس انخرطوا كعادتهم في أواسا الى الحشد الإثني لاحتكار القيادة فانقلب المراقب، بل والمستمع والصحفي والفني الى عضو في المؤتمر ، بل وصل مستمعا عابر لا يملك حتي حق المراقب الى المكتب التنفيذي لا بحكم نضالاته التاريخية ، ولا بكفاءته التقنية ، ولا بخبرته السياسية ولا بتجربته العملية، بل بانتمائه الوشائجي العاطفي فقط، وقد كان لهم ذلك حيث خرجوا بتركيبة اثنية كسيحة اخجلتهم قبل غيرهم. وما يجعل هؤلاء وأولئك المحتجون الغاضبون هو رفضهم المشترك لكل مبادرة وتجديد ومجدد. انه عالم الخوف من الجديد، انه عالم الاحتماء داخل القوقعة القديمة المألوفة.

وحتى بعد هذه النتيجة كان يمكن تدارك الإمر بالانخراط في حوار جاد مع من يعتبروهم خصوما داخل المجلس لتوسيع المشاركة والشورة وامتصاص ما تم من فهم وسوء فهم وإصلاح ما فسد والبحث عن قواسم مشتركة وبناء الثقة بين العضوية التي يربطهم الماضي وكثير من الحاضر والمستقبل، للنهوض بالمجلس فكرا وعملا، ورفده بالمبادرات والخيارات الصعبة، والابتعاد عن حصون طروادة الوياني داخله بتمتين وحدة القوى الوطنية وتنشيط المجلس وتحقيق برامجه الجماهيري والديبلوماسي. ولكن وبدلا من ذلك جمدوا أي نشاط داخل المجلس وصار كل همهم وحديثهم هو اللهث وراء التنسيق والوحدة مع تلك الصنائع وآخرون لا تقدير لهم للمجلس ويكنون له العداء جملة وتفصيلا. لقد تبنوا برنامج من التحقوا بالمجلس من أنصار الوياني لحسابات سلطوية لا وطنية. ليس هذا فحسب، بل تم تهميش تنظيمات المجلس حيث ان التنفيذية تتخذ قرارات مصيرية مثل تجاوز المجلس جملة واحدة وتكوين مظلة جديدة بدون علم وموافقة تنظيماته. وهكذا تداعى المجلس وفقد دوره كليا حيث صار رئيس التنفيذية يُفوض لترقيع التنفيذية اثنيا وقوميا بمن يختار ويقوم بتكوين التحضيرية كما شاء وممن شاء ويضع لها لوائحها حيث شاء، ولا يبلغ المجلس حتى بتكوينها. انها مأساة حيث انتهى المجلس وصار يدار وكأنه تنظيما واحدا وليس تآلفا لقوى مختلفة تمتلك قرارها الذاتي ولا ينوب عنها في ذلك أحد، وفي النهاية أصبح لا نشاط له يديره موظف في سويعات يخصصها له في اجازته الأسبوعية مما شجع بغيابه قيام اجسام لا حصر لها ولا عدد تحركها ايادي خفية. خلاصة الموضوع وبعيدا عن التلاوم وتحميل الخلل لبعضنا بعضا نقول ان معادلة العمل المشترك التي حاولنا تجسيدها في المجلس الوطني قد فشلت وعلى الجميع البحث عن معادلة جديدة ربما يمكن ان تكون أفضل مما نحن فيه. يبدوا اننا لم نجيد بعد فن العمل السياسي المشترك، وان حاولنا نديره بعقلية التنظيم الواحد، وهذا هو سر فشلنا على ما اعتقد. لا زالت عقلية الساحة لا تسع الا تنظيما واحدا هي السائدة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى