مقالات

الأستاذ صالح على صالح :الرجل القامة .. والرحيل الفاجع:علي عبدالعليم

25-Jun-2009

المركز

أبت الأيام إلا أن تفجعنا في رمز آخر من رموز الحركة الإسلامية الارترية ، وأن تنتاش جسد الحركة برزئها ، وتضاعف آلامها , وجرحنا في فقد شيخ محمد إسماعيل عبده لم يندمل بعد !، فإذا بالأيام التى تروح بالفاجعات علينا وتغتدى ، ترزأنا هذه المرة في علم من أعلام عملنا الاسلامى والوطني ، ذلكم هو الأستاذ المربى الفاضل صالح على صالح ، رئيس مجلس شورى الحزب الاسلامى الارتري للعدالة والتنمية .

وبرغم الفقد الجلل ، والمصاب العظيم ، والألم الممضى الذي اجتاح أنفسنا فإننا لا نقول إلا ما يرضى الرب ، [إن العين لتدمع وان القلب ليحزن وإنا لفراقك (يا صالح) لمحزونون] ، فالله ربنا الذي فى السماء تقدس اسمك ، نتضرع إليك أن تغفر لعبدك صالح ، وتنقيه من الحوب والخطايا نقاء الثوب الأبيض من الدنس ، وأن تجعل الفردوس الأعلى من الجنات مثواه، ومقامه ومأواه ، وأغدق عليه فيض آلائك ، وجزيل نعمائك ، فانك ربنا أهل التقوى وأهل المغفرة ، يا كريم يا منان .. وأسوق العزاء الجميل لنفسي أولا ، ثم لاخوانى فى الحزب الاسلامى الارتري ، وأحباب الفقيد وإخوانه وأسرته الكريمة ، وعظم الله أجر الجميع ، وعوضنا فى مصيبتنا هذه الثواب والخير الكثير . لقد ضمني والأخ/ صالح حضن الحركة الإسلامية الرءوم دون أن يكون هناك تعارف بيننا في بادئ الأمر ، إلا أن سيرته العطرة ، وسمعته الطيبة ، سبقت بالتعريف به ، كرائد من جيل المؤسسين فى الحركة الإسلامية الارترية ، وبالرغم من أننا درسنا فى نفس الجامعة إلا أنه كان قد غادرها متخرجا ، عندما ولجتها منتسبا ،.. ووقعت عيني عليه لأول مرة في عام 1986م ، عند انعقاد مؤتمر رابطة الطلاب والشباب الارتري ، التابع لمنظمة الرواد المسلمين الارترية ، وكالعادة تم التعارف بين المؤتمرين ، مع ذكر الإقليم الذي تنتمي إليه أسرة كل واحد ، ومما لفت نظره ، رحمه الله ، ونوه عليه أن الحركة الإسلامية ضمت من أبناء كافة الأقاليم الارترية ، من دنكاليا الى بركا ، ومن السمهر الى القاش ، ومن الساحل الشمالى الى سرايى ، بل ضمت خيرة أبناء تلك الأقاليم والعشائر والبيوتات ..وهكذا هي الحركة الإسلامية وعاءا جامعا ، تأتلف فيه القلوب ، وتتمازج الأرواح ، وتتقارب النفوس ، لترسم لوحة جميلة تعكس الوحدة في أبهى صورها ..حركة همها تجنيد طاقات الأمة تحت راية الإيمان للعمل والإنتاج من اجل التقدم ، واعتبار ذلك لونا من العبادة لله تعالى ، وضربا من الجهاد فى سبيله ،..حركة استلت سيفها ، وجيشت جيوشها ، وجندت أجنادها ، لمحاربة الاستبداد والطغيان وحكم الفرد في ارتريا ، ووضعت يدها في ايدى القوى الوطنية المختلفة ، لإيجاد بديل شورى وديمقراطي ، يبسط الحريات العامة ، ويكفل الحريات الخاصة ، ويجتهد فى مصالح الوطن العليا ، وفى خير المواطنين ورفاهيتهم ، دون إقصاء ، أو احتواء ، أو إعنات ، لأي أحد ..حركة تحارب التدين المغلوط بلا هوادة ، والتطرف الممقوت فى فهم الدين ، ومقاصد التدين ، لترجع بالناس إلى اليسر والاعتدال ، بعيدا عن غلو الغالين ، وتفريط المفرطين ..حركة إسلامية أصيلة ، انتمى إليها الأستاذ صالح ، وشارك في تأسيس تنظيمها في ارتريا ، تتسلح بالنظرة الشمولية التكاملية المتوازنة للإسلام ، بعيدا عن النظرات التجزيئية ، والتي تضخم جانبا على حساب جانب آخر .هذه الحركة بفهمها القويم ، ومنهجها المستقيم ، هو الذي اعتنقه الأخ صالح ، ونذر نفسه لإفشائه في حياة الناس ، وجاهد لتمكينه فى واقع المجتمع الارتري ، ملأ عليه قلبه ، وأصبح مهموما به ، يجهد فى سبيله ليل نهار ، داعيا إليه بالحكمة والموعظة والقدوة الحسنة ، حاملا حال الناس على الصلاح ملتمسا المعاذير لأهل الإسلام ، ومفترضا نية الخير فيهم ، مما حببه في نفوس الناس ، وجعله قريبا الى قلوبهم ..ومما يحز فى النفس أن يترجل فارس فى قامة الأستاذ صالح ، والمعركة سجال مع النظام الديكتاتوري الذي يصيبه الوهن يوما اثر يوم ، وقد بات يوم الخلاص منه قريبا ، [إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا] ، وعزاءنا أنه ، رحمه الله ، مضى إلى ربه بعد أن ورّث الرسالة تلاميذ نجباء ، ومضى إلى ربه غير مبدل لفكره ، ولا حانث ببيعته ، تاركا سيرة وأنموذج يحتذى به ، فسلام عليك يا أبا أسامة فى الخالدين .كان الأستاذ صالح رحمه الله ، فؤاده معمورا بالذكر ، ريان الاستقامة ، فياض بالهداية الربانية ، مطمئنا بوعد الله ، أن المستقبل لهذا الدين ، راضى بأحكامه ، مسلما لأقداره ، وصابرا على ابتلاءاته ، ..كان دائم البشر ، ضحوك السن ، متهلل الأسارير ، بشوش الوجه ، يسع قلبه الكبير ، الصغير والكبير ، يمحّض النصح المخلص لإخوانه فيتقبلونه ،فإذا ما برزت مشكلة ، أو نزاع هنا أوهناك ، تراه يسارع إلى حلها ، بل قل إلى وأدها قبل أن تتفاقم ، والكل ينزل عند رأيه ، مسلما لرمزيته ، مقتنعا بإخلاصه وحكمته وصواب رأيه .. إن إدامة التفكير ومطالعة كتب المفكرين ، وإنتاج العلماء في شتى ضروب المعرفة ، واليقظة إلى تجارب الحياة ، جعلت منه ، رحمه الله ، موسوعي المعرفة ، ومثقف الفكرة ، وذكى العقل ، بجانب نقاء قلبه ، وزاكى أخلاقه ، وسلامة فطرته ، وتخصصه في التربية ، وممارسته للتعليم ، كل ذلك وظّفه لبث الفكرة الإسلامية ، ولترسيخ الدعوة ، وتوسيع رقعتها ، وتربية الأعضاء في محاضن التربية المختلفة في الحزب ، وتأهيل الكادر ورفع قدراته في الدورات التدريبية المتعددة ، فكان شيخ حلقاتها ، وإمام ندواتها ، وأستاذ ومحاضر دوراتها ، وخطيب ملتقياتها ، مربيا ومفكرا وسياسيا نادر المثيل ..لا يترك فرصة تمر دون أن يستغلها فى موعظة أو تذكرة أو لطيفة من اللطائف ، أو معلومة يبثها فى مستمعيه ..كان الشيخ سياسيا من الطراز الأول ، عركته الحياة السياسية والنقابية ، في اتحادات الطلاب ، والنضال التحرري من ربقة المستعمر ، في جبهة التحرير ، ثم العمل الاسلامى في الحركة الإسلامية الارترية ، ومنظمة الرواد المسلمين ، ومرورا بحركة الجهاد الموحدة ، وانتهاء بالحزب الاسلامى الارتري ، كل هذه المحطات كان له فيها أدورا رائدة ، ممارسة للعمل السياسي بأخلاق الإسلام ، لا بميكافيلية تبرر دناءة الوسيلة بنبل الغاية وسمو الهدف ، .كان حاضرا في كل الأطر القيادية ، صانعا للقرارات الإستراتيجية والمصيرية ، مع إخوانه القادة ، فامتاز بأصالة الرأي ، ونفاذ البصيرة ، وبعد النظر ، وسبر أغوار الأمور ، ومعرفة كنهها ومراميها ، لا الوقوف عند ظاهرها وقشورها ، وكان بارعا في التحليل السياسي ، ممتلكا لأدواته ، محيطا بدلالاته وارتباطاته وتشعباته ، مستخرجا خلاصات ونتائج باهرة .كان دوره كبيرا فى وحدة صف الجماعات الإسلامية فى حركة الجهاد الأولى ، عمل بدأب وهمة ، مع إخوانه لتسديد مسارها وتجنيبها الذلل والعثار ، وتجميع صفوفها على الأهداف الاسلامية الكبرى ، وترك معارك الخلاف على الفروع والجزئيات ، ونبذ التحزب والعصبيات ، ..فهو – رحمه الله – ينتصر دوما للحق حيثما ظهر ، وللحريات حيثما نودى بها ، عمل على ترسيخ الشورى فى مفاصل الحزب ، وعده فريضة لا مجرد فضيلة ، وملزمة لا مجرد معلمة ، وكان منفتحا على الثقافات الأخرى ، والنظم الحديثة ، ولا يرى ضيرا فى الاقتباس منها ، مايثبت مبادىء الاسلام ، ويمكنها من واقع الناس ..كان الشيخ صالح – رحمه الله – قارئا جيدا للتاريخ ، مدركا لوقائعه الحاسمة ، وأحداثه الكبرى ، ومراحله المتلاحقة ، وبخاصة التاريخ الاسلامى والتاريخ الارترى ، فقد كان موفقا فى حسن توظيف التاريخ ، ووقائعه ومواقف أبطاله ، فى خدمة دعوته ،وتبليغ رسالته ، فالتاريخ هو ذاكرة الأمة التى تختزن فيها ماضيها ، وأمة بلا ماضى ، أمة بلا ذاكرة !. يقول الشاعر :-مثل القوم نسوا تاريخهم كلقيط عى فى الحى انتساباأو كمغلوب على ذكره يشتكى من صلة الماضى اقتضابابجانب المامه بالتاريخ كان نسابة واسع المعرفة بأصول القبائل والعشائر الارترية ، وتمتد معرفته إلى الأفخاذ والبطون والعوائل والبيوتات والشخصيات البارزة فيها ، والأدوار التي لعبتها .. وعلاقات الرحم والمصاهرة بين مختلف القبائل والعشائر ..كان الأستاذ صالح راسخا في فهم الكلمة ، وصياغة المادة ، ومقصود العبارة ، ومدلول الجملة ، تجد ذلك جليا في كتاباته وفى قرضه للشعر نظما ورواية ، في جزالة الألفاظ ، ورقة المعاني ، وهو – عليه الرحمة – من المناصير للغة العربية ، ومن فصحائها وبلغائها ، ومن المنادين بإنصافها في ارتريا ، وهى التي شرفها الله تعالى ، بأن أنزل بها أعظم كتبه ، فخلد ذكراها ، وعمم أثرها ، ومهما فعل الطاغية أسياس فلن يحد من انتشارها ، ولن يمنع حبها في النفوس ، والكفاح من أجل أن تعود إلى حياة المسلمين في ارتريا ، لغة علم وتعليم ، ولغة دولة ودواوين ، ولغة ثقافة ودين ، بإذن الله تعالى .كان الشيخ صالح زاهدا فى هذه الفانية ، خفيفا عند الفزع ، وثقيلا عند الطمع ، نظيف اليد ، خلقه الإيثار ، يؤثر أخوانه على نفسه ، ويركض فى قضاء حوائجهم ، وتفقد أحوالهم ، والتنبيه بأوضاعهم ، فلا تهدأ نفسه الكريمة ، ولا تسكن حركته الدائبة ، إلا بعد أن تقضى الحاجات ، وتحسن الأحوال ، وتغير الأوضاع إلى الأفضل ..كان رفيقا ، لين الجانب ، يألف ويؤلف ، يدخل الى القلب دون استئذان ، فتضمه الجوانح بتحنان وحب ..أوتى قوة الحجة والمنطق ، ونصاعة البرهان ، قوى فى الحق لا يخاف فى الله لومة لائم ، شفيق رحيم ، متزين بفضيلة التسامح ..كان يشتكى من اعتلال صحته ، فلا يظهر ذلك للناس ، يربأ بنفسه أن يشكو الخالق الى المخلوق ، صبور على البلاء ، شكور للنعماء ، انهكه المرض وفت فى جسده ، ولم يفت فى عضده ، أويلين قناته ، أو يقنطه فى رحمة الله ، فتسلح بالصبر الجميل ، يقول الأمام البصرى : [الصبر كنز من كنوز الخير لا يعطيه الله الا لعبد كريم عنده ] ، ويقول الله تعالى : [ انما يوف الصابرون أجرهم بغير حساب ] ، صدق الله العظيم .لقد علم الأستاذ صالح ، أن عمر الدنيا قصير ، وكنزها حقير ، والآخرة خير وأبقى ، فمن أصيب هنا كوفىء هناك ، ومن تعب هنا ارتاح هناك ، ..وما عند الله خير وأبقى وأهنأ وأمرأ وأجل وأعلى .. فاللهم يا كريم يا رحيم اجعل كل ذلك لعبدك صالح ، وكافأه على جهاده وصبره ودعوته ، انا نحسبه كان صادقا مخلصا ، لا نزكيه عليك يا الله ..واخلفنا في مصيبتنا فيه خيرا ، وألهمنا الصبر وحسن السلوان ..و ( إنا لله وإنا إليه راجعون ) .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى