مقالات

انتصار الثورة وفشل الدولة أم فشل الثورة والدولة معا : عبد الحميد صيام*

30-Apr-2009

المركز

قبل ستة عشر عاما بالتمام والكمال وصلت إلى مدينة أسمرة مندوبا من الأمم المتحدة كي أشارك في بعثة مراقبة عملية الاستفتاء حول مصير إريتريا والذي كانت محتلة من إثيوبيا لأكثر من 40 سنة . كان أمام الشعب الإريتيري خياران لا ثالث لهما: الاستقلال أو الاندماج في الجار الأكبر إثيوبيا. وقد اختار الشعب الإريتيري الاستقلال بأغلبية ساحقة زادت على 99′. وفعلا ارتفع علم الدولة المستقلة بعد شهر من ظهور النتائج في مقرالأمم المتحدة في الرابع والعشرين من شهر أيار (مايو) 1993 معلنا بذلك انتصار الثورة التي قادتها الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا لمدة ثلاثين عاما مليئة بالمآسي والمذابح والتضحيات والبطولات.

أثناء تفقدنا لأحد مراكز الإقتراع في منطقة نائية في الشمال الغربي ليس بعيدا عن الحدود السودانية، حيث تنتشر القبائل العربية، تجمع أبناء المنطقة حولنا بوجوه مبتسمة وقاموا بتقديم بعض العروض الاحتفالية كمسابقات الخيل والجمال. ثم جلسنا تحت خيمة كبيرة وحولنا علية القوم وشيوخهم يتحدثون باللغات التغرية أو التغرينية أو العربية. وبعد أن علموا أنني عربي فلسطيني، وقف أحد الحضور وافتتح خطابه قائلا:وللحرية الحمراء بابٌ بكل يدٍ مضرجة يدقوراح يتحدث عن تأييد الشعب الإريتيري للثورة الفلسطينية التي كانت سندا للثورة الإريترية أثناء سنوات الكفاح كما أطرى المتحدث على دعم السودان للثورة وتحمله مسؤولية أكثر من سبعمائة ألف لاجئ ثم لم ينس أن يشيد بمواقف سورية في دعمها واحتضانها للثورة عندما تنكر لها الصديق والقريب وخاصة بعد أن غيّر اليمن الجنوبي مواقفه من الثورة بعد الانقلاب الماركسي في إثيوبيا الذي قاده مانغستيو مريام ضد هيلا سيلاسي عام 1974.كان لا بد لي في مثل هذا الموقف أن أرد على الكلمات التي قالها ذلك المتحدث. وبعد شرح الموقف لأعضاء الوفد الثلاثة الفرنسي والكندي والمترجم المحلي الذي لا يعرف العربية وقفت وتكلمت بلغة عربية بسيطة آملا أن يفهمني معظم الحاضرين خاصة وأن اللغة التغرية وليس التغرينية أقرب إلى اللغة العربية بل تكاد تكون إحدى لهجاتها البعيدة. وبعد أن امتدحث الثورة الإرترية وتضحياتها وتضامنها مع قضية العرب الأولى، قلت للحاضرين سأروي لكم رواية حقيقية:في أواخر الستينات كان مندوب الثورة الإريترية في دمشق يوما يرافق القائد الفلسطيني المرحوم خليل الوزير ‘أبو جهاد’ وقال له: إننا نحسدكم يا أبا جهاد، فالعالم كله يتابع أخبار ثورتكم ويعرف أسماء قياداتكم والوفود الأجنبية تصل يوميا إلى معسكراتكم ومحيطكم العربي يساندكم. أما نحن في الثورة الإرتيرية، فيا حسرة لا أحد يسمع بنا ولا أحد يساندنا ولولا السودان لانهارت ثورتنا منذ زمن مع العلم أننا مثلكم نعاني همجية الاحتلال الإثيوبي وشعبنا فقير لا يملك مقومات العيش وكل الدول الغربية تساند فاشية هيلا سيلاسي.تبسّم أبو جهاد وقال لمرافقه ممثل الثورة الإريترية: يا رفيق، أؤكد لك أن دولتكم ستقوم قبل دولتنا بزمن وسترفعون علمكم قبل أن نرفع علمنا… مشكلتكم أيها الرفيق محصورة مع المحتل الإثيوبي أما مشكلتنا فهي أعقد بكثير، نحن لا نقاتل إسرائيل فقط بل الحركة الصهيونية العالمية والإمبريالية الأمريكية حامية إسرائيل، بل وإن كثيرا من دول المحيط العربي يتآمر علينا ويطعننا من الخلف.’أيها السادة ها أنا موجود في بلدكم اليوم لأشاهد ميلاد الدولة الإريترية المستقلة أما دولة فلسطين فهي أبعد عن التحقيق اليوم مما كان عليه الوضع عند حديث أبي جهاد. أبارك لكم هذا الانتصار وأؤكد لكم أن تحديات بناء الدولة ربما سيكون أصعب من انتصار الثورة.مرحلة الاستقلالانتصرت الثورة الإريترية بعد ثلاثين عاما من الصراع المرير والتضحيات الجسام والمذابح الدموية، وانتخب أسياس أفورقي رئيسا للبلاد حيث كان يتمتع بشعبية عارمة صنعتها أيام النضال، إلا أنه سرعان ما تحول إلى حاكم سلطوي متفرد بقرار السلم والحرب، وأعلن حربه الأولى على اليمن عندما احتل مجموعة جزرحنيش في باب المندب في شهر كانون الأول(ديسمبر) عام 1995 غير أن إريتريا خسرت عندما قبلت بالاقتضاء أمام محكمة العدل الدولية التي أقرت بملكيتها لليمن وبالفعل أعيدت لليمن في تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1998. ثم دخل في صراع مع السودان الذي لعب دور الحضن الدافئ للثورة وقام أفورقي بدعم المعارضة المسلحة وتأمين فتح جبهة ضد القوات السودانية من منطقة الحدود بعد أن كانت قد انتصرت أو كادت على التمرد في الجنوب. قطع علاقاته مع السودان في كانون الأول (ديسمبر) عام 1995، وعلل أفورقي فتح جبهة الصراع مع حليف الأمس بحجة دعم السودان للحركات الإسلامية المتطرفة داخل إريتريا، إلا أن كثيرا من العرب اعتبر أن الحرب على اليمن وافتعال الصراع مع السودان كان خدمة للمصالح الإسرائيلية والأمريكية في المنطقة. وكان أفورقي يعتقد أنه الولايات المتحدة ستعتمد عليه في تطويع المنطقة في ظل انشغال دول الجوار كالسودان والصومال وإثيوبيا بمشاكلها الداخلية.ثم ما لبثت أن قامت إريتريا بشن حرب على جارتها الكبرى إثيوبيا عام 1998 بعد أن نشرت الأخيرة مجموعة من الخرائط تضم إلى إثيوبيا منطقة حدودية. وكان الجنرالات الإثيوبيون ينتظرون هذه الفرصة . فلقنوا القوات الإريترية درسا قاسيا سقط على إثره أكثر من مائة ألف قتيل. وتوغلت القوات الإثيوبية في منطقة الحدود واستولت على شريط هام ولولا تدخل الجزائر في نهاية عام 2000 بصفتها رئيسا لمنظمة الوحدة الأفريقية ونشر قوات حفظ سلام تابعة للأمم المتحدة، لربما انهار النظام بشكل نهائي. ومن أغرب سياسات أفورقي أنه قام بدعم الحركات الأصولية في الصومال كميليشيات المحاكم الاسلامية بينما يزج بآلاف المعارضين الإسلاميين في سجون البلاد. بعد أن فتح خطوطا واسعة مع إسرائيل عاد أسياس أفورقي إلى التودد للدول العربية وأعاد علاقاته مع السودان في شهر كانون الأول (ديسمبر) عام 2005 وعاد يتهم الولايات المتحدة بالتدخل في شؤونه الداخلية. فقد كان يعتقد أن الغرب سينتصر له في صراعه مع إثيوبيا ويجبرها على التعاون مع لجنة ترسيم الحدود، إلا أن الغرب خذله، حتى الاتحاد الأفريقي لم يعط الموضوع أهمية كبيرة فجمد أفورقي عضوية بلاده في الاتحاد واتهمه بالتحيز لإثيوبيا.اليوم يقف أسياس أفورقي معزولا ومحاصرا وقوات إثيوبية تجثم على مناطق حدودية دون أن يستطيع أن يفعل شيئا. لقد حول إريتريا إلى دولة تسمى في السياسة ‘الدولة الفقاعة’ والتي تتحرش بدول أكثر منها عددا وأوسع مساحة وأعظم قوة وتحاول أن تلعبBubble State دورا أكبر من حجمها وتدعي ريادة غير مؤهلة لها وتكثر من الصراخ والعويل لعلها تجذب الانتباه إلى أهميتها الوهمية. كما أن إريتريا هي الدولة الوحيدة في القرن الإفريقي التي لم تدخل أي تجمع إقليمي، حيث رفضت دخول الجامعة العربية أومنظمة إيغاد لدول القرن الإفريقي أو تجمع صنعاء الذي يضم كلا من إثيوبيا واليمن وجيبوتي. كما تعتبر إريتريا الآن من أكثر دول العالم انتهاكا لحقوق الانسان، وتصف منظمة هيومان رايتس واتش إريتريا بأنها تحولت إلى سجن كبير. باختصار إن إرتيريا اليوم تمثل دولة فاشلة بامتياز وريثة ثورة كانت من أهم حركات التحرر في القارة الأفريقية.الثورات بعد إنجاز الاستقلال قد تفشل في مرحلة بناء الدولةإن انتصار الثورة لا يعني نجاح بناء الدولة. فالثورة الجزائرية العظيمة فشلت في تأمين احتياجات جيل ما بعد الثورة فانفجرت الأوضاع عامي 1987 و1988 فيما سمي بثورة الخبز. والثورة العظيمة التي قادها المؤتمر الوطني الأفريقي ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا فشلت في تأمين المساكن والوظائف لسكان مدن الصفيح وكانتونات العزل العنصري، وثورة اليمن الجنوبي ضد المحتل البريطاني حققت الاستقلال لكنها فشلت في تحقيق بناء دولة التقدم والاستقرار فكادت الثورة تأكل بعضها لولا قارب النجاة الذي أمنته وحدة الشطرين الشمالي والجنوبي عام 1990، والاتحاد الوطني الأفريقي لتحرير زمبابوي بقيادة روبرت موغابي أقام دولة فاشلة تكاد تنهار لولا المساعدات الخارجية وتحول موغابي إلى أفورقي (أو العكس) آخر لا يريد أن يتخلى عن السلطة.الثورات العظيمة تضع نصب عينها الاستقلال والتحرر وتنتقل بعد الاستقلال إلى ثورة البناء والاستقرار والتعددية والحرية وتمكين الشعب من تحديد خياراته كما فعلت ثورات السلفادور ونيكاراغوا وبوليفيا وناميبيا وغانا وغيرها. قد تفشل الثورة في تحقيق طموحات مرحلة ما بعد الاستقلال. وقد تتعرض الثورة إلى ضربات ساحقة تشلها أوتنهيها كما حدث لثورة ظفار والأحواز وأكراد تركيا وثورة الشيشان والحركة الإنفصالية في كورسيكا وغيرها. حتى ثورة أيرلندا فاوضت دون أن تلقي السلاح ولم تدخل في اتفاق مع بريطانيا إلا بعد أن قبلت الأخيرة مبدأ الاستفتاء الحر حول مصير الإقليم.الاستثناء الوحيد هو ما حدث للثورة الفلسطينية. إنها المرة الأولى، ربما في التاريخ المعاصر، التي تقوم ثورة بتفكيك نفسها وإلغاء ميثاقها بناء على وعد غامض بقيام دولة. فلا الدولة قامت ولا الثورة بقيت. لقد خسرت قيادة الثورة الفلسطينية كافة رهاناتها لإقامة الدولة بل ودخلت طواعية إلى قفص يملك عدوها المفتاح الوحيد له وطلب منها حتى تثبت أهليتها للدولة أن تتحول إلى قوة تسهر على أمن عدوها لا أمن شعبها.إن قيام ثورة عظيمة كانت تلتف حولها كافة الجماهير العربية بتفكيك نفسها وإعلان قيام دولة الوهم ، أمرغريب ونادر الحدوث.. نحاول أن نجد له مثيلا في التاريخ فنعجز عن ذلك. لعل أحدا يسعفنا ولو بمثال واحد. ‘ أستاذ العلوم السياسية ودراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغز بنيو جرزيصحيفة القدس العربي :29/4/2009م

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى