مقالات

متى تزهر الأرض، فقد طالت وتمددت سنوات القحط واليباب؟

بقلم/ عمر جعفر السوري

هشيم الذاكرة

 كانت أزمة روديسيا في ستينيات القرن الماضي امتحانا لقدرة بريطانيا على الوفاء بتعهداتها واختبارا لقيمها الأخلاقية والتزاماتها السياسية، كما كانت محكا لقدرة قيادات إفريقيا على الفعل، خصوصا بُعيد تأسيس منظمة الوحدة الإفريقية التي رأى بعض الناس فيها محاولة من عرابها، الإمبراطور هيلي سيلاسي الأول والأخير، لإجهاض أحلام راودت روادا مثل عبد الناصر ونكروما وموديبوكيتا وسيكوتوري، وأن تصبح اثيوبيا هي صاحبة القول الفصل في ديمومة الحدود الموروثة عن الاستعمار وحرمة تغيرها. ولهيلي سيلاسسي مصلحة في ذلك حتى يحتفظ بإرتريا الى الابد لا يراجعه في شأن احتلالها أحد. لم تكن روديسيا هي الامتحان الوحيد لبريطانيا، بل كانت ارتريا امتحاناً سبق ذلك.

   حينما بلغت الأزمة ذروتها دعا الإمبراطور الى اجتماع لمنظمة الوحدة الإفريقية في عاصمته التي أصبحت مقرا للمنظمة. وافتتح أسد يهوذا الاجتماع بكلمة حملت التهديد والوعيد الى بريطانيا ان لم تحل دون إيان اسمث وما خطط له، ودعا بعد أن أرغى وأزبد الى قطع العلاقات مع الإمبراطورية البريطانية العجوز التي لم تغرب عنها الشمس حتى ذلك الزمان. لكن زئيره لم يبلغ بحيرة تانا القريبة من أديس أببا ناهيك عن الفرات والتيمز، ولم تتحرك شعرة في لبدة الأسد البريطاني. ولما جد جدهم “لحس” الإمبراطور تهديده وأبقى على علاقاته مع بريطانيا في حين التزمت دول اخرى بقرار قطع العلاقات ومن بينها السودان الذي نفذه في الثامن عشر من سبتمبر/أيلول 1965. ولم يعد السودان العلاقات مع المملكة المتحدة ولم يرجع سفيره الى لندن، الدبلوماسي البارع والأديب الأريب جمال محمد احمد، إلا في السادس عشر من ابريل/نيسان 1966، لتقطع مرة اخرى في اليوم الثاني للعدوان الإسرائيلي في يونيو/حزيران 1967 ويعود جمال محمد احمد الى الخرطوم مرة اخرى وأخيرة. غادر السفير البريطاني سير ريتشموند الخرطوم عند قطع العلاقات في المرة الأولى وعاد إليها بعد عودة المياه الى مجاريها. أما في المرة الثانية فقد أوفدت الخرطوم رئيس وزراء حكومة أكتوبر/تشرين أول 1964، سر الختم الخليفة، سفيرا الى “قلب العالم النابض”، وذلك في مارس/آذار 1968 ليعيد العلاقات الى سابق عهدها، ويعود الى الخرطوم سفير المملكة المتحدة، سير روبرت فاولر، الذي كان قد غادرها إثر خطبة محمد احمد محجوب، رئيس وزراء السودان آنذاك، أمام الجمعية التأسيسية منددا بالعدوان الإسرائيلي ومن وقف وراءه.  كان ذلك في عهد الديموقراطية الثانية. ولتلك الخطبة العصماء وما تلاها من قرارات و “مساعدات لمصر” أثناء عدوان 5 يونيو/ حزيران قصص حدثني عن خفاياها سفير العراق في الخرطوم وقتئذ الدكتور الراوي الذي كان ناصري الهوى ووزيرا للنفط في بلاده أيام عبد السلام عارف، وكذلك سفير سورية، الدكتور حافظ الجمالي، الذي تقلد مناصب وزارية عددا، من بينها وزارة التربية. كان كلا السفيرين مؤيداً ومناصراً للقضية الارترية وثورتها لا يخفيان ذلك، بل يعلنانه على رؤوس الاشهاد. يوم جاء السفير الاثيوبي الجديد في العام 1968 الى الخرطوم جال على رصفائه من سفراء الدول الأجنبية في العاصمة السودانية للتعارف، وهو عُرف دبلوماسي، وكان بين من زارهم سفير اثيوبيا الدكتور حافظ الجمالي. قال لي د. الجمالي انني استجمعت كل ما أستطيع من معرفة شحيحة باللغة الإنجليزية (كان فرانكوفونياً) وواجهت السفيرالاثيوبي اثناء الزيارة القصيرة فطالبته بالانسحاب الفوري من ارتريا مستنداً الى ذلك بالقانون الدولي ومعرفتي بخلفية القضية وتدريبي القانوني.

   مات إيان اسمث في منفاه الاختياري بجنوب أفريقيا، لكن الأزمة في روديسيا –زيمبابوي –باتت مستعرة الأوار. ولم تزل الأرواح تزهق في بقية أنحاء القارة التي لم يمضي بعد على استقلال معظم أقطارها نصف قرن من الزمان؛ وارتريا خير شاهد لمن لا يريد ان يصيخ السمع وينشر سارية الأبصار. بل ان الأنفس التي قتلت إبان عهد الاستقلال بيد الجلاد والحروب العبثية التي خاضها النظام تفوق عددا الانفس التي ازهقت في فترة الاستعمار والكفاح المسلح، والقتل أضحى أبشع من أيام المستعمر الأجنبي الحالكة، ان شئت. قد يهرب المستبد الى جوار أمثاله في يوم ما، وهروب منقستو هيلي ماريام، جبار إثيوبيا السابق، الى حمى موقابي بعد خلعه، هو من منطق الأشياء، حينما يلجأ الآثم الى دغله. اكتفى هؤلاء ومن على شاكلتهم بمعنى قاصر للحرية، لما اقنعوا أنفسهم وتابعيهم بأنها انفكاك بقعة جغرافية، صغيرة كانت أو كبيرة، من ربقة الاحتلال الأجنبي وعلم ونشيد وطني، ولم يدركوا ان حرية الأوطان هي في حرية الإنسان، وفي حماية حقوقه كاملة غير منقوصة، بدءا من حقه في الحياة، والحياة الكريمة تحديدا، وليس في سوقه كالبهيم الى محارق، دعيت حروبا. وما يحدث اليوم في ارتريا، لا يدعو الى الحزن فحسب، بل الى الغضب العارم والسخط والتنديد والإدانة. كيف تأتت القدرة، لمن حارب من اجل الحرية، أن يستعبد الناس في نهاية المطاف؟ 

   زحف آلاف الارتريين في ستينيات القرن العشرين من المناطق الغربية المحاذية للحدود السودانية الى ريف مدينة كسلا طلباً للآمن والأمان، هرباً مما حل بهم على أيدي الجيش الاثيوبي وما أفرزته سياسة الأرض المحروقة والابادة الجماعية التي طبقها جنرالات هيلي سيلاسي الأول وحاكم ارتريا المستبد الرأس أسراتي كاسا، ثم جاء بعده في زمن (الحرية) من هو أكثر استبداداً ودموية.

   يوم تدفق الإرتريون في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي إلى المناطق المتاخمة لكسلا بشرقي السودان بعد أن بدأ حاكم ارتريا يومئذ، تطبيق سياسة الأرض المحروقة في غرب البلاد للقضاء على الثورة الإرترية التي اشتد عودها وأصبحت تؤرق مضاجع الإمبراطور هيلي سيلاسي وأسرته وحكومته وجنرالاته وتزيح اللثام عن وجهه القبيح. فاجأ ذلك التدفق بعشرات الآلاف في وقت واحد إلى السودان أهل البلاد وحكومتها. هب السودانيون إلى نجدة من استغاث بهم بأريحية منقطعة النظير، إلا إن الحكومة الديموقراطية، من هول المفاجأة، لم تستطع – ولم يكن لديها الخبرة والموارد – للقيام بما يجب. فقد كانت الهجرة الطوعية، لا سيما الى غرب السودان، أمراً لا يؤرق أحداً ولا يشكل مدعاة للنفير، لكن اللجوء القسري بسبب القهر أمرٌ مختلف.

   اذكر مؤتمرا صحافيا عقده رئيس الوزراء حينذاك، السيد الصادق المهدي، ووزير الداخلية، الأمير عبد الله عبد الرحمن نقدالله، وهو – يرحمه الله -رجل حليم، سمح الأخلاق. كنت من بين حضور ذلك المؤتمر الذي انعقد صباحا في دائرة المهدي بامدرمان وليس في مقر رئاسة الوزراء أو وزارة الداخلية، مما حول انفعالي إلى غضب عارم، إذ خيل إلى إن هذا التدبير ما هو إلا استهانة بأمر جلل حل بالسودان وجيرته، فقسوت في أسئلتي التي وجهتها إلى رئيس الوزراء ووزير الداخلية الذي عاد لتوه من تفقد أحوال اللاجئين في مناطق ود شريفي واللفة وتلطاشر ومدينة كسلا.  تلقى الأمير أسئلتي، وفي بعض الأحيان ردودي عليه، باسما على عكس رئيسه الشاب. كنت يافعا ومندفعا وصحافيا في أول الطريق. وقد تلقيت ممن هو أكبر عمراً مني وأخبر مني بُعيد المؤتمر النصح والإرشاد في كبح جماح عواطفي والبعد عن الشطط، فنحن ننقل الاخبار والتصريحات ولا نصنعها أو نجادل في صحتها، بل ننسبها الى قائلها.

   “استقلت: ارتريا ورفعت علمها الوطني، لكن الرجال والنساء الذين واللاتي دفعوا ودفعن اثماناً غالية من الدم والدموع والأنقس بقوا في صحاري اللجوء هم وابناؤهم وحفدتهم حتى اشعار آخر يتطلعون عبر الحدود الى أرض كانت لهم تستغيثهم وتدعوهم، حالت بينهم وبينها بنادق وسيوف ورماح العسس المأجورين. ليس ذلك فحسب، بل توالت حكايات اللجوء والهروب من العسف حتى يومنا هذا.

   ماذا يقول الفيتوري اليوم عندما يرى ان السيد قد بدّل لون جلده، وان الطغاة الذين مروا بالأمس نافخين أبواقهم تحت أقواسها، لم ينتهوا حيث مروا، بل رسخت أقدامهم فوق صدورنا؟:

     جبهة العبد ونعل السيد

     وأنين الأسود المضطهد

     تلك مأساة قرون عبرت

     لم أعد أقبلها، لم أعد

     كيف يستعبد أرضي أبيض؟

     كيف يستعبد أمسي وغدي؟

     كيف يخبو عمري في سجنه؟

     وحبال السجن من صنع يدي

     أنا فلاح ولي الأرض التي

     شربت تربتها من جسدي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى