مقالات

من وحي قصص تهريب واختطاف البشر في شرق السودان :أسمريت .. فتاة في المزاد السري – أمير بابكر عبدالله (4)

24-Feb-2013

المركز

(11)لم يدر في خلد أسمريت، وهي تتابع أخبار الربيع العربي من خلال القنوات الفضائية متى ما سنحت لها الظروف، إن الأمر سيؤثر في كثير من الأمور التي ستحدد مسار حياتها. فقد نجح شقيقها محاري قبل سنوات في الوصول إلى ليبيا في رحلة طويلة قطع فيها الصحراء على ظهر عربة بصحبة مجموعة كبيرة من الأرتريين والأثيوبيين وبعض الصوماليين، في مقابل مبلغ محترم حصل عليه المهربون.

وما أن اجتازت العربة الحدود إلى داخل الأراضي الليبية حتى استلمتهم مجموعة أخرى للعبور بهم إلى العاصمة طرابلس، ومن ثم إلى أحد الموانئ الصغيرة حيث تنتظرهم سفينة صيد صغيرة ستقلُّهم إلى شواطئ أوربا. جرى الأمر بسلاسة وحالف محاري التوفيق دون مخاطر تذكر سوى معاناة الرحلة وطول الطريق إلى أن وصل إلى أيطاليا التي يعيش في عاصمتها الآن.تغير الأمر كثيراً بعد رياح الربيع العربي، ولم تعد ليبيا مستقرة ولا الوضع العام يسمح لعمليات التهريب أن تجري في أراضيها. فلا أحد يدرك كيف ستكون الخطوة التالية ولا أي الطرق اكثر أماناً ليسلكه. لذلك خسر المهربون كثيراً واعتبروا ذلك ضربة كبيرة لتجارتهم التي تدر عليهم أموالاً طائلة، وأغلق طريق محبب يؤدي إلى روما بسبب الثورة وتداعياتها في ليبيا. وتغير في هذه المرحلة كل المشهد، وطفت إلى السطح ظاهرة الإتجار بالبشر بدلاً من التهريب. وهو ما حدث لهيلين التي قض طيفها مضجع اسمريت فهبت مذعورة تلك الليلة. وبدلاً من سواحل البحر المتوسط المطلة على الحدود الشمالية لليبيا، تزايدت الرحلات إلى صحراء سيناء في مصر التي صارت المنفذ الوحيد إلى الوصول للخارج عبر السودان.(12)كان لابد من استراتيجية جديدة لعصابات التهريب، للانتقال إلى مرحلة الإتجار بالبشر. فالأعداد المتزايدة للمتسللين والهاربين عبر الحدود خلقت سوقاً تغري باحتمال مخاطر أكبر والحصول على أموال أكثر طالما هناك من يدفع. بدأت ملامح شبكة متماسكة ومنظمة تظهر بدلاً من المغامرات الفردية أو المحدودة التنظيم. شبكة تغطي كل المنطقة بإمكانيات وقدرات عالية تمكنها من تنفيذ مخططاتها في سرعة ودقة. فغير الأسلحة المتطورة والسيارات ذات الجاهزية العالية وأجهزة الاتصال الغير قابلة للملاحقة، كان الاهتمام بتوسيع الشبكة البشرية لتتمدد وتخترق كل المواقع التي ستحد من نشاطها.فلم تقتصر مرحلة تهريب البشر على بعض أبناء قبيلة الرشايدة لعملهم في مجال التهريب منذ زمن بعيد، فتواجدهم الشرعي –بصفتهم مواطنين في الدولتين- سهل عبورهم الحدود، لكنها شملت آخرين سواء من الأرتريين أو السودانيين بصورة فردية محدودة. لكن المرحلة الآن، مرحلة الاتجار بالبشر، تجاوزت وصم قبيلة واحدة بذلك الفعل إذ شمل أطراف متعددة وأبناء قبائل أخرى ومن دولة ثالثة وهم من أبناء قبائل بدو سيناء في مصر.لكن ظلت قبيلة الرشايدة موصومة بهذا الفعل منذ المرحلة الأولى، لأن المرحلة بدت كممارسة جماعية منظمة لتاريخها الطويل في التهريب، في مجال البضائع التجارية، في الوقت الذي انحرف فيه بعض أبنائها مستغلين ذات البيئة القبلية للانخراط في المرحلة التالية –مرحلة الاتجار بالبشر. لعل هذا ما جعل تقرير بحثي أصدرته المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة (UNHCR) في نوفمبر 2012، يحمل اسم (اللاجئون والرشايدة .. التهريب والاتجار بالبشر من أرتريا إلى السودان ومصر). فهم الأكثر شهرة في هذا المجال، مما غطى على الآخرين.(13)بدت رغبة صغيرة تنمو في صدر أسمريت، رغم فزعها من الحلم الذي راودها وهي ترى هيلين في مسيرتها الأبدية تعاني الأمرين، رغبة السفر إلى اسرئيل. لقد جعلوها في المعسكر تكفر بكل شيء، بوطنها وجمالها وروحها التواقة لفعل الخير، والأهم طموحها بتجاوز آلام المعسكر بالنجاح والتأهل لدخول جامعة أسمرا لتعود إلى جوار أمها. إنها لحظة اليأس .. لحظة انسداد الأفق حيث تنمو أشواك المخاطر. ما عاد الأمر صعباً، ولا يتسدعي جهداً خارقاً ولا مسيرة طويلة على الأقدام ولا حتى الخروج من معسكر ساوا، فقد امتدت خيوط الشبكة العنكبوتية إلى داخل معسكر (ساوا) والجنرالات في متاهتهم. ولم تحتل أسمريت بجمالها الأخاذ قائمة المحظيات لدى طاولة الكوتشينة بعد أن رصدتها عين المشرفة على سكن الطالبات، فهناك عيون أخرى ترصد وقائمة أخرى تعد وتنتظر بعد التفاصيل لترمي بشباكها حول الضحية. الجمال والنوع (ذكر/انثى) لم يكن العامل المهم، لكنها لفتت الأنظار على كل حال، وفي انتظار التفاصيل.عبثت أيدي أخرى بسجلات الطلاب الجدد، وبحثت في سيرتهم الأسرية سعياً وراء الهدف. فالدرجات هنا لا تمنح إلا لمن لديه أفراد في أسرته من الدرجة الأولى أو أقرباء من الدرجة الثانية مقيمين في أوربا أو دول الخليج، ثم الذين ينتمون لأسر مقتدرة في مدن أرتريا أو السودان. وشاء حظ أسمريت أن يكون تصنيفها من الدرجة الأولى فلفتت الأنظار بصورة أكبر هذه المرة.العام الدراسي شارف على نهايته، أكثر من شهرين بقليل تبقت وأسمريت تتنازعها الهواجس. أدركت إنها فارقت هذا الدرب على الأقل الآن، ومن معسكر ساوا. الشبكة أحاطت بها في لزوجة لا خلاص منها، فقد ظل قائد الشبكة، المكونة من ثلاثة أشخاص، يتقرب إليها منذ أشهر ساعده موقعه داخل المدرسة ولطفه وظرافته وحركته داخل المعسكر التي أكسبته ثقة قيادات المعسكر والمجندين والطلاب فكانوا يطلقون عليه اسم “المعلم”.كان المعلم يتفقد أحوالها باستمرار، ولاحظ تدهور تحصيلها الأكاديمي بعد أن كانت متميزة جداً في بداية العام الدراسي. وبدأ ينفث فيها روح التمرد على ما يجري، إلى أن جاءته ظهر ذلك اليوم وشيء ما يخنق صدرها المثقل إضافة إلى إحساها بالقهر وأن لا حيلة لها، مما دفعها للبكاء داخل مكتبه. قالت له من بين دموعها وفي صوت قاطع:-سأفعل أي شيء لأغادر هذا المكان البغيض.لم تكن تنقصه سوى تلك الإشارة التي عمل طوال أشهر لتلوح في الأفق، فقال لها وابتسامة معلقة في اطراف وجهه:-لا عليك. مارأيك أن تصلي السودان.-حتى لو اسرائيل، لكن هنا سأشنق نفسي إن بقيت أكثر.-لكن الرحلة مكلفة إلى هناك فكيف ستدبرين الأمر؟كان يعلم تماماً ما سيجري، ولم ينتظر منها أن تقول له إنها ستتصل بأخيها الموجود في إيطاليا حالما تصل السودان لتدبير المبلغ. كان هذا الأمر كافٍ للمعلم. ليعاودها بعد أيام بأن تستغل علاقتها بالجنرال ليستخرج لها تصريح مرور لمرض والدتها الشديد، وسيرتب معها كيف تلتقيه في مدينة تسني.وكانت قد أرسلت لشقيقها –قبل فترة- تخبره برغبتها في الهروب من معسكر ساوا، بعد أن بثت في رسالتها الكثير من شجونها وآلامها، وهي تعلم أنه مدرك لطبيعة الواقع لأنه عاشه بنفسه. طلبت منه تدبير مبلغ من المال حتى تصل السودان، وستتصل به من هناك للتفاكر حول الخطة التالية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى