مقالات

جيبوتي وإرتريا : حرب مجهولة الدوافع – عبدالله محمود*

10-Jul-2008

المركز

يبدو أن مسرح القرن الإفريقي معد لحالة من التوتر الدائم فما أن تبدأ بعض نيرانه في الخمود حتى يشتعل فتيل التوتر في منطقة أخرى مخلفاً مزيداً من الدمار والموت .ففي الوقت الذي تشهد فيه منطقة القرن الإفريقي تفاؤلاً حذراً إثر الإتفاق الذي حدث بين الحكومة الصومالية الإنتقالية والتحالف من أجل تحرير الصومال المعارض في جيبوتي، اندلعت الاشتباكات العسكرية بين إرتريا وجيبوتي في تل رأس دميرة المطل على باب المندب بتاريخ 10-11يونيو مخلفة عشرات القتلى والجرحى ،

ورغم جهود الوساطة التي نشطت لاحتواء الأزمة إلا أن الرفض الإرتري القاطع للجلوس مع جيبوتي على طاولة المفاوضات بوساطة يمنية أوصد الأبواب أمام أي بارقة أمل للعبور إلى شط السلام و أدي إلى إعلان حالة القطيعة الدبلوماسية وتبادل البلدان سحب السفراء وتدحرجت الأزمة مجدداً إلى حافة الانفجار. حروب مجهولة الدوافع حروب منطقة القرن الإفريقي يكتنفها الغموض عادةً و تتعدد التفسيرات والتأويلات لاستكناه دوافعها الحقيقية ، ففي حرب السنتين التي دارت رحاها بين إرتريا وإثيوبيا 1998-2000م أراق المحللون مداداً كثيفاً لسبر أغوار الأزمة والتنبؤ بحقيقتها هل هي حرب حدود أم حرب وجود ؟ هل أسبابها سياسية أم إقتصادية أم نفسية ..؟وغيرها من التفسيرات التي ربما ذهبت بعيداً عن مسببات الأزمة الحقيقية.ذات الأمر ينطبق على حرب اليومين التي اشتعل أوارها بين جيبوتي وإرتريا ،حيث يرى البعض أنها نزاع حدودي على منطقة رأس دميره الاستراتيجية بينما يضعها آخرون في إطار السباق بين إرتريا وإثيوبيا للسيطرة على المنطقة ، حتى الدول الأطراف في النزاع بدت حائرة حيال الأزمة ، فجيبوتي تبدت حيرتها في تصريحات مسئوليها المتضاربة لكشف الدوافع الحقيقية للمواجهات العسكرية فتارة ينسبون الأمر إلى مؤامرة اسرائيلية تهدف للسيطرة على باب المندب بواسطة إرتريا وتارة أخرى يعبرون عن مخاوفهم من إدعاءات إرترية بملكية الأرض وغيرها من الأسباب.أما الحكومة الإرترية فبعد أن صمتت دهراً أعلنت على لسان البعثة الإرترية الدائمة في الأمم المتحدة في إجتماع مجلس الأمن بتاريخ 24 يونيو بأن الأزمة اختلقتها اثيوبيا بمساندة من الإدارة الأمريكية وتولت جيبوتي تنفيذ المخطط دون أن يكون لها مصلحة في ذلك واعتبر البيان جيبوتي حصان طروداة لتنفيذ المخططات الإثيو أمريكية . ويرى ديفيد شين السفير الأمريكي السابق بأديس أبابا والأستاذ بجامعة جورج واشنطن إن المواجهات تأتي على خلفية التنافس الإرتري الإثيوبي في المنطقة مستشهداً بما يجري في الصومال ، واعتبر التنافس في الحالة الجيبوتية أكثر وضوحاً، فجيبوتي تعتبر حليفاً إقتصادياً هاماً لإثيوبيا وتستفيد الأخيرة من الموانئ الجيبوتية في صادرتها ووارداتها بما يدر دخلاً وفيراً للخزانة الجيبوتية ولذلك فمن مصلحة جيبوتي استمرار هذه العلاقة بينما ترى إرتريا إن الضغط على جيبوتي ربما يثير حفيظة إثيوبيا وتعيش حالة من التوتر .رأس دوميره .. استراتيجية المكانالمنطقة التي شهدت اندلاع النيران هي تل رأس دميره المطل على باب المندب وجزيرة دميرة ويسمى أيضاً جبل جبلا ، وهو رأس صخري بطول كيلومتر وعرض 500 متر بين البلدين يتوغل بمسافة سبعة كيلو مترات داخل العمق الجيبوتي وتنبع أهميته الاستراتيجية من إطلالته على باب المندب وقربه من مثلث الحدود بين بين الدول الثلاث ( ارتريا ، جيبوتي إثيوبيا ) .وتكمن المعضلة الرئيسة في أن الحدود لم يتم ترسيمها على الأرض بصورة نهائية والمرجع في ذلك معاهدة 1900-1901م بين فرنسا وإيطاليا حيث اقتصر الاتفاق بينهما على أنه لايمكن لقوى ثالثة إدعاء ملكية المنطقة بينما يتمسك الجانب الجيبوتي بالمعاهدة التي تمت بين إثيوبيا وفرنسا بتاريخ1897م وآلت راس دوميره بموجبها إلى فرنسا .جذور الأزمةتعود الأزمة بجذورها إلى عام 1996م عندما اتهمت جيبوتي إرتريا بالتوغل داخل أراضيها في رأس دميرة مما أدى بالدولتين إلى تبادل سحب السفراء ، وفي عام 1999م اتهمت جيبوتي إرتريا بدعم المعارضة الجيبوتية فيما اتهمت إرتريا جيبوتي بالإنحياز إلى اثيوبيا في في الحرب التي اشتعل أوراها بين البلدين ،ثم أخذت العلاقات الجيبوتية الإرترية في التطور ووُقعت اتفاقيات التعاون بينهما في عدد من المجالات الصحية والتعليمية .في يناير 2008م طلبت إرتريا من جيبوتي السماح لجنودها للتوغل إلى الأراضي الجيبوتي في منطقة رأس دميرة بغرض جلب الرمل لاستخدامه في بناء الطرق ، وفي 16 أبريل أعلنت جيبوتي أن القوات الإرترية توغلت داخل أراضيها وأخذت في حفر الخنادق فيما أعلنت إرتريا عن صدمتها للإتهامات الجيبوتية وشُكلت لجتنة للحوار بين البلدين أختتمت أعمالها بإجتماع الرئيسين حيث اتفقا على حل جميع الخلافات بالحوار وشكلت الجامعة العربية لجنة لتقصي الحقائق إلا أن الرفض الإرتري لاستقبال اللجنة حال دون استكمال مهمتها .الأزمة الحالية ذكر البيان الصادر عن وزارة الدفاع الجيبوتية بتاريخ 10 يونيو أن الاشتباك بدأ بعد فرار جنود إريتريون إلى الجانب الجيبوتي وإطلاق النار عليه من قبل جنود إريترين، في حين ردت القوات الجيبوتية على النار بالمثل.وقال البيان إن مسؤولين إريتريين متمركزين على جبل جبلا “حددوا مهلة للمسؤولين العسكريين الجيبوتيين لتسليمهم مجمل المنشقين الإريتريين (30 عسكريا) وإلا اضطروا لاستخدام القوة”. وخلفت الحرب 9 قتيلاً و10 جرحى في حالة خطيرة و78 من أصحاب الجروح الطفيفة من الجانب الجيبوتي ،إرتريا كعادتها لم تعلن عن خسائرها إلا أن مصادر إعلامية إرترية ذكرت أن عدد القتلى في صفوف الجيش الإرتري يتراوح بين 25 – 30 قتيلاً بالإضافة إلى ما ذكرته جيبوتي من أسرها لمائة جندي إرتري.ضربني وبكىبعد صمت امتد لاسبوعين اضطرت إرتريا أمام الضخ الإعلامي الجيبوتي الكثيف لمخاطبة مجلس الأمن في جلسته يوم 24 يونيو حيث تركزت دفوعات البعثة الإرترية الدائمة في الأمم المتحدة على الآتي :•أن جيبوتي هي التي بدأت بالإعتداء على القوات الإرترية يوم 10 يونيو وأسرعت بالشكوى عملاً بالمثل الشائع( ضربني وبكى سبقني واشتكى ).•تزامن الحادث مع رئاسة الولايات المتحدة لمجلس الأمن له دلالات واضحة يوحي بترتيب مسبق للحادث وتأتي الأدانة المتعجلة من الأمم المتحدة لإرتريا بعد ساعات من المواجهات في هذا السياق .•تصريحات مساعدة وزير الخارجية للشئون الإفريقية كانت قد أشارت بتاريخ 12 مايو – حسب بيان البعثة الإرترية- إلى أن إرتريا توغلت داخل الأراضي الجيبوتية.•إنشاء إثيوبيا معسكر في جبل موسى علي على المثلث الحدودي بين إرتريا وجيبوتي وإثيوبيا بتاريخ 22 أبريل وزودته بكافة أنواع الأسلحة الثقيلة والخفيفة وذلك في مخالفةً صريحة لقرار لجنة ترسيم الحدود بين إرتريا وإثيوبيا .وخلصت إرتريا إلى أن هذا الحادث يأتي في إطارحملة منظمة لصرف إرتريا من هدفها الأساسي وهو تنفيذ قرار ترسيم الحدود بين إرتريا وإثيوبيا ومحاولة لإظهارها بمظهر الدولة المشاكسة . رسائل متعددة وبقراءة كلية لتطورات الأوضاع في المنطقة نستطيع القول بأن إرتريا أرادت توجيه رسائل متعددة من خلال الهجوم، الرسالة الأولى موجهة إلى جيبوتي بسبب استضافتها للمحادثات بين الفرقاء الصوماليين التي توجت باتفاق بما سيفقد إرتريا إحدى الأوراق المهمة التي تستخدمها في صراعها مع إثيوبيا كما أن تصريحات رئيس تحالف المعارضة الصومالية شيخ شريف شيخ أحمد المنتقدة للتدخل الإرتري في شئون المعارضة الصومالية والتي دعا فيها لأن تكون جيبوتي مقراً لانعقاد مؤتمر التحالف القادم بدلاً عن إرتريا قد أُطلقت من منصة جيبوتي فالرسالة الموجهة إلى جيبوتي مفادها إن عليها الإبتعاد من الملف الصومالي . والرسالة الثانية موجهة أيضاً إلى جيبوتي تأتي في نفس السياق وتهدف للضغط على جيبوتي لإبعادها عن المحور الإثيوبي الأمريكي .أما الرسالة الثالثة فموجهة إلى إثيوبيا وذلك بالتهديد بقطع طريق صادراتها ووارداتها عبر الموانئ الجيبوتية ويبدو أن اثيوبيا قد التقطت الرسالة بشكل جيد حيث ذكر رئيس الوزراء الإثيوبي بتاريخ 15 مايو الماضي إن التدخل الإرتري في الأراضي الجيبوتي يهدد الأمن والسلام في منطقة القرن الإفريقي وحذر من المساس بحركة صادراتها عبر الموانئ الجيبوتية مبيناً أنهم سيتدخلون عسكريا إذا لزم الأمر للحفاظ على مصالحهم .انتصار دبلوماسياستطاعت جيبوتي تحقيق انتصار دبلوماسي مقدر في معركتها مع إرتريا حيث تمددت جيبوتي في الفراغ الذي خلفته أسمرا في المنظمات الإقليمية و استفادت و حضورها الدائب في الإتحاد الإفريقي والإيقاد ( ارتريا لا تحضر إجتماعات الأول بسبب انعقادها في أديس أبابا وجمدت عضويتها في الأخير بسبب موقفه من الأزمة الصومالية) والجامعة العربية والمؤتمر الإسلامي التي تحظى جيبوتي بعضويتها بعكس إرتريا هذا بالإضافة إلى وجود حلفاءها كأعضاء دائمين بمجلس الأمن ( فرنسا وأمريكا ) مما أسهم في تجيير الرأي العام العالمي والعربي والإفريقي لصالحها ،ولم يتوقف الدور الفرنسي والأمريكي عند هذا الحد وإنما تجاوزه -خاصة الدور الفرنسي – إلى المساندة الفعلية عبر الدعم اللوجيستي والمعلوماتي والمؤن العسكرية ونشر القوات ، وفي العموم فإن جيبوتي تحتضن قواعد عسكرية أمريكية وفرنسية مما يجعل البلدان على أهبة الأستعداد للدفاع عنها .وعلى الصعيد العربي تمكنت جيبوتي عبر وفودها التي جابت عدد من الدول العربية من حشد الرأي العام العربي الرسمي والشعبي لمناصرتها مستفيدة من سجلها الخالي من العدائيات مع دول الجوار،واصبحت الصحافة العربية تغدق على إرتريا بالنعوت والأوصاف السالبة من شاكلة ( الدولة المحاربة والمشاكسة) وغيرها بعد أن كانت ناصرتها ردحاً من الزمن في أزمتها الحدودية مع إثيوبيا ودورها في المشكل الصومالي .حادث عرضيورغم عدم انسحاب القوات الإرترية إلا أن عدد من المحللين استبعدوا اتساع دائرة المواجهات لظروف خاصة بالدولتين ولوجود القواعد الأمريكية والفرنسية في الأراضي الجيبوتي بما لايسمح لإرتريا بأي اعتداءات مستقبلية على جيبوتي وحسب ديفيد شين السفير الأمريكي السابق بأديس أبابا فإن الحادث الحالي عرضي ولايرقى إلى درجة الأزمة المعقدة رغم توقعاته بتكرار مثل هذه المواجهات المحدودة لأسباب مختلفة منها بقاء الجيوش في مواجهة بعضها البعض وأضاف إن هنالك مشكلات أكثر تعقيداً من الأزمة بين إرتريا وجيبوتي ينبغي التركيز عليها والإهتمام بها .مهما يكن من أمر فإن الدوافع والمسببات الحقيقية لاندلاع المواجهات بين البلدين مازالت حبيسة الصدور مما جعل الأمم المتحدة والإتحاد الإفريقي يشكلان لجان لتقصي الحقائق فهل ستكمل هذه اللجان مهامها أم سترتطم بعقبة الرفض الإرتري كما حدث مع لجنة الجامعة العربية في مايو الماضي ؟abdu974@hotmail.com* نشر في صحيفة الصحافة السودانية 11/7/2008م

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى