مقالات

المواجهة الشاملة بقلم / فتحي عثمان

5-Mar-2015

عدوليس ـ ملبورن ـ

أجد نفسي في ظل تداعيات المقالين السابقين مرغما على بيان غرضي من الكتابة أولا؛ حيث أشار شخص إلى أني أكتب ” وكأني أمتلك الحقيقة”. أعترف بأني لا أملك حقيقة؛ ولا نزوع لدي لامتلاكها؛ ولو أكرمني الله ببعض منها لانصرفت – مفتقرا- إلى نفسي ومعرفتها عملا بقول أرسطو ” أس الحكمة معرفة الذات”. أكتب بحثا عنها في جهد أصبو إلى يكون تشاركيا يجمع ولا يقسم ويزيد ولا يطرح. أكتب وأسلوبي في الكتابة وهو “أسلوب تفكيك البنية” لهدم الأسس والأعمدة التي يستند عليها النظام. بأي أساس أبدا وكيف أهدم قد يكون- بلا شك- مبعث خلاف؛ ولكن ما دام الهدف واحدا؛ وما لم ننصرف لنهدم مخططنا قبل البدء فيه؛ وهو مبعث خوفي ودافعي للمزيد من الكتابة.

يعتمد التدخل الجراحي لمعالجة السرطان على اجتثاث منابت الورم عبر الإزالة والتنظيف ومن ثم استخدام العلاج الكيميائي كخطوة تالية لمنع معاودة المرض. والدك الذي نرومه لأسس الظلم في ارتريا يرتكز علي جهد مقارب، في توخي تام لاقتلاع جذور الظلم لمنع معاودة الديكتاتورية والشمولية والطائفية وكل الأمراض في بناء وطن المستقبل.أشرت في المقال الماضي إلى مشروع بناء الدولة والأمة والذي اعتمده اسياس أفورقي منذ بداية السبعينات ومضى عليه حتى اليوم. وأجد نفسي ملزما مرة أخرى ببيان الفرق بين مشروع حركة التحرر الوطني، ومشروع بناء الدولة، حيث تمت الإشارة إلى أن المشروع الوطني هو الذي حقق الاستقلال للبلاد.نعم أنٍ مشروع مرحلة التحرر الوطني والذي يختلف زمنا ورموزا وأهدافا ومؤسسات قد وصل في آخر المطاف إلى هدفه المتمثل في الدولة الارترية المستقلة ذات السيادة. أما مشروع بناء الدولة والأمة والذي أعتمده اسياس أفورقي، والذي أوصل البلاد إلى عنق الزجاجة الحالي فهو تال للمشروع الأول زمنيا ومختلف عنه رموزا وأهدافا ومؤسسات.على المستوى الزمني بدأ مشروع الحركة الوطنية والنضال السلمي بعد هزيمة ايطاليا في الحرب العظمى، وأعتمد على مرتكز الحق في تقرير المصير باعتبار أن القضية الارترية هي من قضايا تصفية الاستعمار وليست من قضايا الانفصال داخل الكيان الواحد. وهدفه الأسمى هو الحصول على دولة ارتريا المستقلة أسوة بدول العالم الأخرى، ورموز هذا المشروع الأوائل هم على سبيل المثال لا الحصر: الشهيد عبد القادر كبيري والقائدان إبراهيم سلطان وولد أب ولد ماريام ومحمد سعيد ناود وآخرون. تحول هذا المشروع في ظل التآمر الدولي على الحق الارتري المشروع إلى العنف الثوري باندلاع الثورة الارترية بقيادة الشهيد حامد إدريس عواتي وتغير مسار المشروع من النضال السلمي إلى الكفاح المسلح، في سعي مضمخ بالدم للوصول إلى ارتريا الحرة الكريمة. وتمثلت مؤسسات هذا المشروع في الأحزاب وحركة تحرير ارتريا في مرحلة لاحقة وجبهة التحرير الارترية وقوات التحرير الشعبية بأقسامها. وغني عن القول بأن النضال الارتري أعتمد في شرعيته على الحق الارتري الأصيل في التحرر والانعتاق والتفاف الشعب الارتري حول البندقية الارترية وصولا إلى الاستقلال.أما مشروع بناء الدولة ومرتكزاته الفكرية وممارساته اليومية فهي كانت لب المقال الماضي.وهنا أعيد التأكيد بأني لم أنف قطعيا طائفية النظام، بل أكدتها ضمن الأجندة الثقافية المتمثلة في فكرة الهوية الارترية الواحدة القائمة على الهيمنة الثقافية، ولكن أدرجتها ضمن البنود الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتي كانت عبارة عن مخطط لم يحيد اسياس أفورقي عنه خلال الثلاثين الماضية وعمل بصبر وتفان حتى أوصله إلى ما هو عليه، في جهد يتسم في جوهره بالطغيان المطلق والشمولية. وينبغي التذكير بأني أشرت من قبل إلى أن اسياس أفورقي يعتبر نفسه وبدون مواربة وباعتداد باطل بأن الثورة الارترية ابتدأت به وانتهت به، ولذلك ينظر إلى نفسه ضمن هذا المشروع بأنه واضع أسس الدولة الارترية الحديثة والتي تتعرض لمؤامرات لا حصر لها من وجهة نظره. ووصفنا للنظام بالديكتاتورية والشمولية وفي مرحلة لاحقة بالطائفية هو تقديم وتأخير أملته الأولويات التي أعتمدناها في الوصول إلى النتائج ونمضي الآن في بيانها، وعبر تحديد مواجهة النظام بأنه نظام ديكتاتوري شمولي- وهذه حسب رؤيتنا طبعة أصيلة راسخة فيه- فإننا نوسع مواعين المواجهة المعارضة للمشروع الراهن؛ وننقلها إلى مرحلة المواجهة الشاملة. إذ أن هدم البنى الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية والثقافية بقدر ما توسع المواجهة فإنها تقويها بكل أدوات المواجهة والتي تبدأ من الفكر وتنتهي بالممارسة العملية سواء كانت على مستوى الصراع السلمي أو المواجهة العنيفة. وبنفس المقدار الذي تكون فيه المواجهة شاملة فإنها تحتاج إلى أناس يتنكبون المخاطر ويتجشمون عناء الطريق وتحمل وعثاءه وكآبه منظره، وحتما مآلات منقلبه. وأجزم بأن وضع خارطة طريق ومشروع بناء مغاير عمل لا يتصدى له إلا من كانت له الوقادة الفكرية والإرادة الصلبة، لأن مشقة العمل المبني على فكر هي أساسه. أما الصراع الطائفي فما أسهله: فرموزه وأعدائه وأصدقائه واضحين، ولا يحتاج إلى إعمال فكر ورأي بقدر ما يحتاج إلى حماس يشتعل بالكراهية ويتحرك بالقسوة ولنا في كل الحروب الطائفية الوالغة في الدماء خير شاهد ودليل، حيث أن كل المواجهات المذهبية أو القومية ترتوي جذورها من بحور الكراهية وهذه لم تكن في يوما أساسا- حتى لو كتب لها النصر- لبناء صرح وطني يمضي فيه الناس في تعايش.من يكتفون بوسم النظام الطائفية- وهو واقع قائم- ويؤججون نيران مواجهته على أساسها يختارون الدرب الأقصر والسلاح الأمضى والمشاعر الأكثر عمى في صراع ننظر لعواقبه أكثر ما ننظر إلى التشفي من من تسببوا فيه، إذ أن الطاغية لا محالة غائر، ولكن الوطن أكثر ديمومة وبقاء. ويركن البعض في تخيره للمواجهة الطائفية إلى القول بأن اسياس هو من أجبرنا على ذلك وعليه تحمل عواقب لعبه بنار الطائفية. اسياس لم يكن يوما على حق؛ والحالة التي أوصل البلد إليها اليوم خير دليل على ذلك، فكيف يكون اليوم محقا في اختياره للطائفية كساحة للصراع. وهو الراضع من ثديي الطائفية والطغيان وإن اختلفا فهما في صدر واحد، لا نترك له تحديد أسباب المعركة، وسلاحها وميدانها وإلا فهو الرابح؛ انه عندما يستخدم الطائفية- وهو لا يربأ عن استخدامها- فإنه يتخير أفضل أسلحته، لسبب واحد جوهري وهو شق صف المواجهة، وهو مبتغاه. ولننظر إلى ما يثمنه اسياس أكثر من غيره حتى نرى أنه يستخدم الطائفية لغرض أكبر في نفسه. بعد التحرير قام اسياس وسط استنكار عالمي بالتنكيل بأعضاء طائفة جيهوفا أو شهود يهوه، وهذه كانت الخطوة الثانية بعد التنكيل مباشرة بالشيوخ والدعاة ومعلمي اللغة العربية بعد أقل من أثني عشر شهرا من تحرير البلاد، وقبل إعلان استقلالها الرسمي، ثم دخل بعد فترة في مواجهة مع أتباع المذاهب الدينية الجديدة- المعمدانية- المعروفة بالبنطي، حيث شردهم من البلاد وأصبحوا لاجئين في العالم، ومن بقى منهم في ارتريا أودعه السجون.ثم قام بمشاركة ملس زيناوي بالقضاء على حزب الاتحاد الإسلامي، والذي كان الشيخ ضاهر عويس أحد أقطابه. ثم انتقل خطوة أخرى لمواجهة ممولة من الخارج وباشتراك مع ملس مرة أخرى ضد السودان بغرض إسقاط حكومة الجبهة القومية بحجة الإرهاب. وقام مؤخرا بتصعيد المواجهة مع الكنيسة الأرثوذكسية حيث عمد إلى تنحية البابا انطونيوس وسط رفض تام من قبل القساوسة والرهبان والأتباع، وحجر عليه في منزله وعين البابا ديسقوريدس بديل له يأتمر بأوامر ونواه وسياسات الحكومة ولا يحظى بتأييد القساوسة والرهبان، ولم يكتف بذلك بل قام بتعيين أبن القسيس الشهير ديمطروس؛ وهو مقاتل قديم في صفوف الجيش الشعبي ومن أعضاء جهاز الأمن الحالي مشرفا عاما على شئون الكنيسة الأرثوذكسية، الأمر الذي اعترض عليه القساوسة علانية برسالة استنكار شجاعة ضد الحكومة وممارساتها ضد الكنيسة. وبعد عقود من تدمير حزب الاتحاد الإسلامي الذي كان ينشط في إثيوبيا في بداية التسعينات تحت توجيهات حسن ضاهر عويس، تغيرت المعطيات وأصبح حسن ضاهر عويس ضيفا على العاصمة اسمرا عندما كان قائدا للمحاكم الإسلامية في الصومال، وعندما برزت حركة الشباب المجاهدين- والتي لا يجمعها باسياس دين ولا دنيا- تلقفها اسياس أفورقي ودعمها بأموال بيع الموارد الارترية النفيسة؛ ووفر لقادتها جوازات السفر والحماية والتمويل والتدريب حتى وقع تحت طائلة العقوبات الأممية ضده.الآن وبعد بيان هذا التقلب الحربائي لأسياس ألا يتضح أنه دينه وأيمانه هو الكرسي الذي يجلس والصولجان والسوط اللذان يسوم بهما الشعب سوء العذاب. إننا وعبر بتوسيع مواعين المواجهة الشاملة وهدم البني التحتية التي يرتكز عليها النظام يمكن تحقيق هدفين: النجاح في إزالته وتجاوز كل ما وقع فيه من شرور وآثام مستقبلا، دونما تخير لأدوات نجر إليها جرا ولا نأمن عواقبها على مستقبل البلاد والعباد . وهذا ما كان بين ثنايا سطور المقالين السابقين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى