مقالات

قراءة أولية في كتاب الدكتور عند برهان ولدي جرجيس(1ـ 2) بقلم / محمد نور احمد

9-Feb-2015

عدوليس

قبل أن أبدأ ملاحظاتي أود أن أتقدم بالشكر الجزيل للأستاذ عبدالرازق كرار الذي بعث اليّ بنسخة من الكتاب لأطلّع عليه. كما أريد أن أؤكد علي أن هذه القراءة هي قراءة أولية لكتاب الدكتور عند برهان ولدي جرجيس Eritrea at a Crossroads: A Narrative of Triumph, Betrayal and Hope او (ارتريا في مفترق طرق: حديث عن النصر والخيانة والأمل) والذي يتكوّن من 650 صفحة , وأعتقد أن الأمر يتطلب مني اعادة القراءة للغوص في أغوار الكتاب والتمعن في أعماقه. وبالرغم من ذلك رأيت أن أسجل الملاحظات التي لفتت انتباهي. ويتعلّق بعض هذه الملاحظات بالتاريخ الإرتري في الفترة التي سبقت الاستعمار الايطالي , ثم في فترة الاستعمار الايطالي ذاته والظروف التي أتت به , ومن ثم الادارة العسكرية البريطانية , وأخيراً الاستعمار الأثيوبي والقوي الدولية التي مهدت له. ثم أعرج لمحاولة الجنرال أمان عندوم لإيجاد حل سلمي للمسألة الإرترية. وأتوقف عند مرحلة الاستقلال التي عاصرت عشر سنوات من أحداثها.

ومن خلال قراءتي هذه لمست في الكتاب أنه يزخر بأحداث لا يلم بها الكثير من أفراد الشعب الإرتري , وحبذا لو ترجم الي اللغة العربية لتمكين قرائها الإرتريين – وهم كثر – من الاطلاع عليه. وذلك لأن الكتاب يكشف طبيعة نظام اسياس أفورقي الشمولي وما يرتكبه من جرائم ضد الشعب الإرتري وتحويل البلد الي سجن كبير ليس بإمكان أحد مغادرته أو العيش فيه آمناً الا من كان موالياً للنظام , والذين دخلوا السجون لم يخرج منهم أحد حياً الا ما ندر ومنهم من أعلنوا موالاتهم للنظام أو لا يخشي منهم النظام ويستخدمهم مادة للدعاية أنه قد أفرج عن بعض المعتقلين لذر الرماد في العيون. والذين تمكنوا من الهروب من السجن (وأعني البلد بأكمله) فمآلهم صحراء سيناء لتباع أعضاءهم بواسطة عصابات تجارة الرقيق المكونة من عصابات الرشايدة وبعض عناصر أمن الحدود السودانية-الإرترية , ومنهم من مات ظمأً في صحراء ليبيا أو ابتلعته أمواج البحر الأبيض المتوسط بعد دفع الفدية لتلك العصابات البالغة بين ألفين الي ثلاثة آلاف دولار أمريكي عن طريق أسرهم وأقاربهم في المهجر. ملاحظاتي في الجانب التاريخي:أولاً: ينص الكتاب علي أن ارتريا لم تكن في يوم من الأيام جزءاً من اثيوبيا. وأنا أتفق معه في هذا الرأي , لكن الجدير بالإشارة هو أن ارتريا لم تكن موحدة كذلك. فقد كانت تنقسم الي أقاليم والتي كانت تدار من قبل واجهات إقليمية وقبلية وفقاً لأعرافها المتوارثة أجيالاً تلو أجيال. فلم يتمكن الأتراك والمصريين من توحيدها أو حتي الوصول الي جميع الأراضي التي هي ضمن ارتريا الحالية. فقد استقروا بشكل رئيسي علي شواطئ البحر الأحمر , وعند تقدمهم نحو المرتفعات أو المنخفضات الشمالية أو الغربية سرعان ما كانوا يعودون أدراجهم الي قواعدهم الثابتة وتحديداً الي مصوع ومحيطها. لكن ذلك لا ينفي صلة مرتفعات ارتريا بإقليم تجراي الاثيوبي المجاور بحكم الصلة الجغرافية من جهة ووحدة الدين واللغة لغالبية سكان المرتفعات الإرترية مع ذلك الاقليم , دون أن يكون هناك أي ولاء سياسي تجاه حكام تجراي بل كان هناك خلاف دائم معهم , لأنّ حكام اقليم تجراي كانوا يفرضون جبايات علي المرتفعات الإرترية عن طريق ممثليهم من أمثال الرأس أوبي والرأس ألولا , لا سيما في عهد الملك يوحانس (أو الامبراطور يوحانس لاحقاً بعد انتحار الامبراطور تيدروس عندما طوقته القوات البريطانية بقيادة القائد نابير NAPIER). والرأس ألولا هو الذي كان يتخذ تلة فورتو (المطلة علي مبني البلدية حالياً) كقاعدة ينطلق منها لجمع الجبايات من سكان اقليم حماسين , أما أوبي فكان مسؤولاً عن اقليم أكلي غوزاي. وكان سكان الاقليمين يقاومون سياسة الجبايات تلك بقيادة الرأس ولدي ميكائيل في حماسين وبهتا سغنيتي في أكلي غوزاي. وعندما استعصت عليهما المقاومة لجأ الأول (ولدي ميكائيل) الي أبناء عمومته بيت طوقي من البلين في حلحل فاحتضنوه , ولجأ بهتا سغنيتي الي أبناء عمومته كذلك بيت أسغدي من الحباب في الساحل الشمالي ومن هناك انتقل الي مصوع ولم يعد الي اقليمه الا مع تقدم القوات الايطالية الي المرتفعات الإرترية.ومن ناحية أخري لم تكن البلاد التي تعرف حالياً بدولة اثيوبيا تحمل نفس الاسم فقد كانت تسمي الحبشة Abyssinia , كما لم تكن موحدة بشكل كامل الا بعد اعتلاء الامبراطور منيليك الثاني العرش عقب تصفية الثورة المهدية للإمبراطور يوحانس في اقليم بغمدر. وبالمثل فانّ اسم ارتريا اطلق علي الأراضي التي سيطر عليها الايطاليون واعترف بحدودها الحالية بعد توقيع اتفاقيات الحدود بين كل من بريطانيا وإيطاليا والامبراطور منيليك الثاني وفرنسا في الأعوام 1900 , 1902 , و 1903.ثانياً: لم يذكر الدكتور عند برهان في كتابه من كان وراء الاحتلال الايطالي لإرتريا ولم يتطرق للأسباب والعوامل التي مكنتها من ذلك. وبالعودة الي تاريخ منطقتنا في الربع الأخير ممن القرن التاسع عشر نجد المنافسات التي كانت جارية بين بريطانيا وفرنسا. فعندما احتلت بريطانيا عدن في مدخل البحر الأحمر احتلت فرنسا جيبوتي في الشاطئ المقابل لكي لا تنفرد بريطانيا بذلك الموقع الاستراتيجي. وكانت بريطانيا تخطط وفق استراتيجية السيطرة من الاسكندرية في مصر الي مدينة الرأس (كيب تاون) في جنوب افريقيا , لكن اندلاع الثورة المهدية وقف عائقاً أمام تحقيق تلك الاستراتيجية حيث كان السودان المعبر لتحقيقها. وكانت قوات المهدية قد اجتاحت القوات الانغلو-مصرية وقتلت الجنرال غوردون في الخرطوم. كما اجتاحت شرق السودان وامتداده حتي مشارف مدينة كرن ونهر عنسبا. وجدير بالذكر أن المواطنين الإرتيريين الذين يعرفون بسودان طبّاب هم من بقايا تلك القوات المهدية. ومن ناحية أخري تغلغلت القوات المهدية الي اقليم بغمدر في الحبشة. وكانت لإيطاليا قوة عسكرية في جنوب مدينة عصب في قطعة أرض استأجرها قسيس ايطالي علي شاطئ البحر الأحمر من سلطان راحيتا , ولم تكن تلك القوات تستطيع التقدم لوجود القوات المصرية علي طول الشواطئ الإرترية. ونتيجة الضغط الذي واجهته بريطانيا من القوات المهدية السودانية , طلبت بريطانيا من القوات المصرية الانسحاب من مواقعها في الجنوب حتي ميناء مصوع والتوجه لمواجهة الثورة المهدية التي وصلت طلائعها الي ارتريا , ودعت بريطانيا القوات الايطالية للتقدم في العمق الإرتري واشارت الي الامبراطور يوحانس عدم عرقلة التقدم الايطالي الي المرتفعات الإرترية والتفرغ لمجابهة الثورة المهدية فهي عدوه الأساسي وليست القوات الايطالية. وكانت قوات يوحانس بقيادة الرأس ألولا قبل ذلك قد ألحقت خسائر كبيرة في صفوف القوات الايطالية في معركة دوغلي الواقعة بين مصوع وغندع وأجبرتها علي التراجع. وكان يوحانس يدين لبريطانيا بفضل تقديم السلاح والمعدات العسكرية التي جاء بها القائد نابير لمحاصرة الامبراطور تيدروس بسبب اعتقاله القنصل البريطاني في الحبشة ومحاولة فرض شروطه علي الملكة فيكتوريا. وكان يوحانس سمح بمرور القوات البريطانية لحصار تيدروس في غندر- عبر الأراضي التي يسيطر عليها في اقليم تجراي. وبطلب بريطاني أرسل يوحانس قواته بقيادة الرأي ألولا لقتال قوات الثورة المهدية جنباً الي جنب مع القوات الايطالية في معركة كوفيت في مغراييب وتم دحر القوات السودانية. الا أن القوات المهدية كانت قد قتلت الامبراطور يوحانس مفسحة المجال أمام الامبراطور منيليك الثاني.(ملاحظة : كثير من هذه الأحداث استرجعها من الذاكرة لقراءات قديمة دون الرجوع الي المراجع وسأكون ممتناً لمن يقوم بمراجعتها ويصلح مواضع الخطأ فيها لمصلحة القارئ).ثالثاً: لم يتطرق الكاتب لدور الولايات المتحدة الأمريكية في ربط ارتريا بإثيوبيا في اتحادٍ فيدرالي رغم استعراضه بشكل مختصر للمراحل التي مرت بها القضية الإرترية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية حتي وصلت الي الجمعية العامة للأمم المتحدة والتي اتخذت قرار الاتحاد الفيدرالي بين البلدين.كانت الولايات المتحدة هي اللاعب الرئيسي في القضية الإرترية , فقد اكتشفت في العلو الجغرافي للهضبة الإرترية في منطقة حماسين مكاناً مناسباً لإقامة قاعدة للاتصالات اللاسلكية. وسبق أن أقامت ايطاليا قاعدة اتصالات في اسمرا أطلقت عليها اسم راديو مارينايو Radio Marinaio لربط الاسطول البحري لحكومة موسيليني في البحر الأحمر. وبعد هزيمة ايطاليا سلمت بريطانيا تلك القاعدة للولايات المتحدة التي زودتها بمعدات حديثة متطورة وخبراء , فصارت القاعدة ترسل الرسائل عبر العالم دون تغير في الذبذبة , وتلتقط الرسائل وتعترضها. وقد تجلت أهمية القاعدة عندما التقطت برقية سفير امبراطور اليابان لدي حكومة هتلر يبلغ بلاده بمدي استعداد المانيا لاجتياح اوروبا علي أن تقوم اليابان بالاشتراك في عمل عسكري في نفس التوقيت في منطقتها ضد الحلفاء. وسرعان ما صدرت تعليمات الي الجنرال ايزنهاور الذي كانت ترابط قواته علي شواطئ نورماندي لمباغتة القوات الغازية مما أدي لهزيمة حلف المحور في الحرب كما هو معلوم. وهكذا تأكدت أهمية قاعدة الاتصالات في اسمرا والتي سميت فيما بعد باسم غانيو استيشن. وبعد نهاية الحرب أرسل الرئيس الأمريكي روزفلت طائرة خاصة للإمبراطور الاثيوبي هيلي سيلاسي في العام 1945م والتقاه علي ظهر باخرة حربية في ميناء السويس المصري في طريق عودته من اجتماعه مع الرئيس السوفيتي ستالين ورئيس وزراء بريطانيا تشرشل في يالطا. وفي لقاء روزفلت مع هيلي سيلاسي اتفق معه علي وضع ارتريا تحت سيطرة اثيوبيا وتكون قاعدة راديو مارينايو تحت تصرف الولايات المتحدة التي خرجت من الحرب العالمية الثانية قوة دولية عظمي. وقد تم توقيع اتفاقية بذلك في أديس أبابا في عام 1950م. والعهدة في هذه المعلومات للكاتبة مايكلا رونغ في كتابها المعنون I didn’t do it for you.رابعاً: فات علي الكاتب ذكر واقعة تاريخية أثناء الكفاح المسلح , وهي زيارة أمان عندوم رئيس وزراء اثيوبيا لإرتريا – بعد الانقلاب العسكري علي نظام الامبراطور هيلي سيلاسي- واطلاعه علي مآسي الشعب الإرتري التي ترتبت علي الحرب التي كانت تدور في البلاد , وذلك بعد مضي خمسة عشر عاماً علي اندلاع الثورة الإرترية من أجل الاستقلال الوطني وتعرض الشعب الإرتري الي الإبادات الجماعية واحراق القري وفق استراتيجية الأرض المحروقة التي اعتبرت الشعب الإرتري بمثابة البحر والثوار بمثابة السمك الذل يعيش عليه ومتي تم تجفيف البحر هلكت الأسماك.. ويبدو أنه أدرك صعوبة الحل العسكري للمسألة الإرترية , بل أن ذلك من شأنه أن يضاعف المأساة دون أن يؤدي لاستسلام الشعب الإرتري. كما أراد الرجل اخراج اثيوبيا من مأزق الحرب التي أدخلت نفسها فيها والتي لا نهاية لها.فقد حاول الجنرال أمان عندوم في العام 1975م إيجاد حل سلمي للمسألة الإرترية , غير أنّ الحل السلمي تطلب وجود وسيط محايد , وقد وجد ضالته في الرئيس السوداني جعفر النميري فعرض عليه الأمر. غير أن النميري اشترط ثلاثة شروط. كان أولها وقف اطلاق النار , وثانيها اطلاق سراح الأسرى والمعتقلين من الجانبين , وثالثها الجلوس علي مائدة المفاوضات دون شروط مسبقة.قبل أمان عندوم الشروط , لكن رفضها عضو المجلس العسكري منغستو هيلي ماريام. ودفع أمان عندوم حياته ثمناً لذلك الموقف اذ حاصره منغستو في بيته بقوة عسكرية وقتلته. وربما اتهمه بالخيانة والتواطؤ مع الثورة الإرترية أو التعاطف معها نتيجة لجذوره الإرترية.خامساً: يشير الدكتور عند برهان في كتابه الي أنّ اللغة العربية ليست لغة قومية في ارتريا انما هي لغة دين , ويقول أنّ لاستخدام الدين في السياسة مخاطر علي الوحدة الوطنية. ويضيف أن أنّ ثمة شعوب في العالم تستخدم لغاتها الخاصة لكنها تدين بنفس الديانة. لكنه يستدرك بأنّه يرى أن يترك الأمر في هذه المسألة للشعب الإرتري ليقرر فيها.انّني أتفق مع الكاتب في أنّ الأمر في المسألة يجب أن يترك للشعب الإرتري لأنّه حق ديمقراطي , وأنّ مسألة اللغة يجب ألا تفرض عليه من أعلى كما هو الحال الآن. وجدير بالذكر أن هذه المسألة (المشكلة)– اذا افترضنا أنها مشكلة- قد تم حلها في البرلمان الإرتري في عام 1952 عندما اعتمدت اللغة العربية كإحدى اللغتين الرسميتين لإرتريا الي جانب اللغة التجرينية. وقد استمر هذا الوضع حتي قامت الحكومة الاثيوبية بإلغاء اللغتين العربية والتجرينية وفرضت اللغة الأمهرية كلغة رسمية للبلاد عندما قامت بضم ارتريا عنوة اليها. لكن حركة التحرر الوطني الإرترية تمسكت برسمية اللغتين العربية والتجرينية بدءاً بحركة تحرير ارتريا مروراً بجبهة التحرير الإرترية فقوات التحرير الشعبية الإرترية. لكن انقسام هذه الأخيرة أدى الى اتخاذ اللجنة الادارية في الداخل لشعار عدم تبني لغة رسمية لإرتريا وأنّ جميع اللغات (متساوية) بينما ظلت البعثة الخارجية علي موقفها السابق برسمية اللغتين. ….. يتبع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى