ربع قرن من التصدي لآمال الشعب وطموحاته ..(2)
26-May-2016
عدوليس ـبالتعاون مع إذاعة المنتدى
الهقدف والميثاق الوطني – الجزء الثانيالآن وبحلول شهر مايو، يكون قد انقضى ربع قرن من السنوات العجاف، حدثت خلالها الكثير والعديد من الوقائع المحزنة التي دفعت ارتريا فيها وبسببها الثمنَ مضاعفًا من خيرةِ أبنائها وبناتها، ومن فرصها في التنمية والتطور، ومن حق مواطنيها في العيش بسلامٍ وأمان. ويلاحظ المتتبعُ لوسائل الإعلام الإرترية الرسمية، في هذه الأيام، مضاعفة جرعات التزييف، وتكرار التشدق بمقولات تدعو للتمسك بأمانة الشهداء، وضرورة الحفاظ على الإرث النضالي، والدور التأريخي المستدام والمتجدد للجهد الفكري والكِتابي وكل ما يعرف بأدبيات الجبهة الشعبية (القديمة)، كأساس لما عرف الآن با الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة. هكذا إختاروا ان يكون اسلوبهم في الإحتفال هو مزيد من الكذب والتضليل.
مواصلة للقراءة المقارنة لوثيقة (الميثاق الوطني الإرتري) الصادرة عن المؤتمر الثالث والأخير، للجبهة الشعبية لتحرير ارتريا، والمؤتمر التأسيسي للجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة (هقدف)، نجد ان الرؤية المستقبلية التي حوتها تلك الوثيقة تتلخص في ستة نقاط اساسية، لو اُخضعت لقياس الواقع الفعلي لكانت النتيجة إنه ليس هنالك أية رؤية راهنة او مستقبلية لما يسمى بالجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة، فقد تخلّت عن كل الرؤى والأهداف التي إستخدمتها كعنصر جذب للموالين فقط. فمسألة الوطنية، على سبيل المثال، وفق تفسير الوثيقة تقول: (أن يعيش الشعب الإرتري معتزًا بإرتريته في سلام ووئام وإستقرار، دون أي تمييز قومي أو قبلي أو لغوي أو ديني أو جنسي أو طبقي).لكن، وبالنظر للواقع الحالي نجد إنحسارًا في مساحات المواطنة كأرضية أساسية للحقوق والواجبات في مقابل أن كل أنواع التمييز المذكورة موجودة وتمارس بأبشع صورها في كل المستويات وبأغطية رسمية في معظم الأوقات، ونلاحظ، أيضًا، أن الفقرة أسقطت الحديث عن التمييز الجهوي والمناطقي أو الإقليمي وهو معطى مهم في وقائع الفعل التمكيني القبيح الذي يرتكب في إرتريا الآن. ثانيًا، يكفل الميثاق: الديمقراطية السياسية، ويوجز ذلك في ( أن تحترم حقوق الشعب الإرتري، بالقانون والفعل، وتُضمن مشاركته الكاملة في إدارة وتسيير شؤون بلاده وحياته، في كافة المجالات والمستويات)، لكن الثابت أنه ليس هنالك حكم دكتاتوري يكفل الديمقراطية السياسية. عليه، تصبح هذه النقطة ساقطة أيضًا. لننتقل منها لنقطة ثالثة هي: التنمية الإقتصادية والإجتماعية، ويصوغها الميثاق على أن ( تنمو وتتطور إرتريا إقتصاديًا وفي الخدمات الإجتماعية كالتعليم ، والتقنية ، ومستوي الحياة المعيشية). المؤسف أنه لم يحدث في هذا الجانب ايضًا أي تطور، بل حدث تدهور في الإقتصاد ومستوى الخدمات، وتخلفت البلاد عن ركب التطور التقني والإستفادة من أبسط خدماته مثل إستخدامات شبكة المعلومات الدولية (الإنتر نيت)، كما تم تفكيك جامعة اسمرا إحدى منارات العلم في ارتريا فقط لأن رأس النظام أراد في إطار حربه ضد القوى المستنيرة والحديثة، ألَّا يكون هنالك أي موقع يمكن أن يصبح حاضنة للقوى الحديثة أو رمز لوجودها. رابع تلك النقاط كان العدالة الاجتماعية، بحيث: (يضمن التوزيع العادل للثروة والخدمات والفرص لكل المواطنين، وأن تُولى الرعاية الخاصة للفئات المستضعفة). أولى الملاحظات التي نوردها هنا ، انه لم يتم الحديث عن التوزيع العادل للسلطة بوصفه من أهم حقوق المواطنة، وأحد مصدات وموانع الإحساس بالقهر والغبن والتسلط، بل على العكس اصبح غياب تلك النقطة ذريعة لأن ينتشر من عينتهم الهقدف كإداريين وحُكّام في كل الأقاليم الإرترية، ليتحول المجتمع إلى مجتمعين متناقضين مكوّن من سٌكّان محلّيين و حُكّام وافدين. أمّا الملاحظة الثانية هي أنه لم يتم إتباع نهج (الإنحياز الإيجابي) لتطوير المناطق الأكثر تخلفًا، أو المتضررة أكثر من غيرها جرّاء كونها كانت مناطق للعمليات العسكرية لسنوات طويلة، ونُسِيت تمامًا الفئاتُ المستضعفة حتى اصبح لايتم تمثيلها إلّا في مواسم الإحتفالات أو المهرجانات، وفي هذه أيضًا فرّخت الهقدف من يقومون بالتمثيل بدلًا عنهم، والشاهد أن قوميات بكاملها نزحت إلى بعض دول الجوار القريب.في النقطة الخامسة المسماة بالبعث الثقافي، وضع ميثاق الهقدف السمات الواجب توفرها في الثقافة الإرترية الجديدة، لكن أنتجت حِقبة حُكم الهقدف عكس تلك السمات التي حددتها في (حب الوطن، وإحترام الإنسان، والتضامن المبني على المساواة بين الرجل والمرأة والتمسك بالحق والعدل)، لأنه لم تنفذ الحكومة أي من تلك القيم والموروثات ولم تمهد الطريق لها، كما لم تحافظ على أية مكونات من الإرث الثقافي المجتمعي الأصيل، بل حاربت القيم السمحة وعملت على تحجيم دور الأديان والمعتقدات، وسعت إلى إنشاء مجتمع بلا قيم، ليس لديه مقدرات ولا تحكمه إلَّا أهواء الدكتاتور وخنوع طغمته الضالة. أما النقطة السادسة فقد كانت التعاون الإقليمي والدولي، على أن: (تعيش إرتريا بوفاق وتعاون مع جيرانها، وأن تسهم بقدر إمكاناتها في تعزيز السلام والأمن والتنمية الإقليمية والعالمية). بكل تأكيد لا تحتاج هذه الفقرة إلى تعليق، أكثر من قولنا: أن إرتريا وفي ظل دبلوماسية الهقدف المِعوجة وسياساتها العرجاء، فشلت في أن تصبح عضوًا مقدرًا في الأسرة الدولية كما جاء في الميثاق الطموح بدرجة لامست الخيال، وجعلت الواقع أكثر بشاعة عند مقارنته بما يجب أن يكون. النقاط الستة المكونة للرؤية المستقبلية وِفق ما جاء في ميثاق الهقدف قبل 22 عامًا، لازمتها ستة ركائز أخرى، هي: (تعميق الوحدة الوطنية، تحقيق المشاركة النشطة للشعب، والدور الحاسم للإنسان، وملاءمة النضال الوطني والإجتماعي، والإعتماد على الذات، والإلتحام العضوي بين الشعب والقيادة). وبالطبع لم يتحقق أي من تلك الأوهام، ليس فقط لأن النوايا لم تكن صافية ومخلصة، لكن لأنّها كانت اُطروحة مجربة أثبتت الأيام حجم الخداع الذي تم تمريره من تحت تلك الشعارات الجوفاء. أما القسم الخاص بالبرنامج السياسي الذي حواه ميثاق الهقدف ذاته، فقد إشتمل على ما يمكن إعتماده كوثيقة إدانة لنظام الهقدف، وحكومته التي ظلت مؤقتة لمدة ربع قرن كامل. فبعد أن طرح الميثاق أسئلة وأجوبة فلسفية، عن ماهية النظام السياسي المثالي، وما شكل الحكومة التي يجب إقامتها، توصل إلى أنه: (لا بد من قيام نظام سياسي دستوري في إرتريا، نظامًا مؤسسًا على سيادة الوطن، والشعب، والمبادئ والأساليب الديمقراطية، كالمحاسبة والشفافية، والتعددية والتحمّل. ولا بد من وجود مؤسسات دستورية تطبق الدستور وتفرض إحترامه، ويجب أن يحظى الدستور لدى كل قطاعات المجتمع، وكل المؤسسات الحكومية بالإلتزام والإحترام كقانون أساسي يُحتكم إليه). بالرغم من كل هذا العرض الرائع، نجد أن الوعي الدستوري إنتشر بين كل مكونات الشعب الارتري، لكن صادف ذلك ضمور في الثقافة الدستورية عند الحكومة ورئيسها، أدى إلى تعطيل الدستور قبل الشروع في تنفيذه، ثم الإعلان عن وضع دستور جديد، ثم تم نسيان الأمر برمته إلى حين إخطار آخر، أو أخطار اُخرى قد ترغم رأس النظام على طرح الموضوع بشكل جديد. الفقرات اللاحقة في البرنامج السياسي، مثيرة للدهشة فعلًا، ولا يمكن أن يتصور المستمع أو القارئ لها، إطلاقًا، بأنّها صادرة عن الهقدف إلّا بعد أن يوقن بأن حالة فصام مرضي أصابت تلك الجبهة المنكوبة، أو يضع في الإعتبار شروط ومعطيات المرحلة التي كٌتِبت فيها، فهي تتحدث عن (بناء حكومة وطنية ونظام يحترم حقوق مواطنيه، مبرأ من الفساد، يعطي الأولوية للمصالح الوطنية، يصون الإستقلال، وينمّي الإجماع العام). وبناءً على الدستور: (يسعى لإحترام وتطوير حرية العقيدة، والصحافة والكتابة، والتعبير عن الرأي، والتنظيم السياسي، والإجتماع والتظاهر، والإعلام والعمل والتعليم، والتحرر من الخوف والإضطهاد، والمساواة أمام القانون). ليس هذا فحسب، بل يتحدث ما عرف بالميثاق الوطني، أيضًا عن: (ضرورة التأكد من أن النظام السياسي، نظام تعددي مشارك، مبني من الأدنى إلى الأعلى على أساس اللامركزية في السلطة، نظام يضمن فرص التنافس الديمقراطي السليم بين الأحزاب السياسية الوطنية). ثم ولتأكيد مدى إنحسار مساحات الحريات في فكر وممارسة الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة، نستند على الفقرة الخاصة بالعمل على وجود قضاء قوي ومستقل، وقيام منظمات المجتمع المدني، الفئوية والنوعية والنقابية والمؤسسات غير الحكومية، والمنابر الإعلامية الحرة والنزيهة، الناقدة والمسئولة، وغيرها من المؤسسات الديمقراطية. عليه تصبح مساحات الإنحسار واسعةً جدًا، ومساحات الحسرة أوسع. مما يجعل العزلة التي تعيشها عصبة الهقدف، وتوالي أفواج الخارجين عنها عملية طبيعية ومبررة ومحمودة جدًا، لأن الهقدف لم تدع مجالًا إلَّا وصنعت فيه فجيعة أو دست فيه خديعة. إذن فالخارجين من طوقها أو المنشقين عنها لم تنتابهم صحوة مباغتة جعلتهم يقفزون من المركب الموشك على الغرق كما يتصور البعض، بل كانت نتاج لتفاعلات ظلت تعتمل في النفوس لسنوات طويلة، وبالطبع أن حملة تلك الآراء التصحيحية في الداخل الآن هم أكثر بكثير من رفاقهم بالخارج. عليه ليس هنالك منطق يبرر لنا الإعتقاد بأن كل من بداخل الوطن الآن هو موالي لطغمة الهقدف، تمامًا كما أن ليس كل من بخارج الوطن هم معارضون للهقدف، لأن الحقيقية الخالصة هي أن معظم مكونات الشعب الإرتري وأينما كانت تقف في موقف الرفض لسياسات وممارسات عصبة الهقدف الآثمة، وذلك لأنه شعب كريم، شعب إن أعطيته شكر وإن منعته صبر، ولكن للصبر حدود. (ونواصل)