مقالات

الفن حين ينحاز لإرادة المظلومين : د.جلال الدين محمد صالح

26-Jan-2009

المركز

ما أروع الفن حين ينحاز لإرادة المظلومين، ويتغنى بآلامهم وآمالهم، أو يعبر عن أحلامهم وآهاتهم، مبرزا صور معاناتهم عبر لحن غنائي، أو رسم تشكيلي، يثير الأشجان، ويوقظ الضمائر الحية، أو يبعث الروح في قلوب ماتت وتلاشت، أو كادت أن تموت بعد أن صدأت.

وما أقبح الفن حين يمجد الطغاة، ويعزف على قيثارة طغيانهم، ويكون أداة ملهية ومضللة للشعوب، يقتل فيها روح التحرر، وقهر الظلم، ويحبب إليها الخنوع، وينتزع منها مشاعر الإباء، وعزيمة الرفض والمقاومة، ويستنزف كيسها لمجرد تكريس وجود الطغيان القمعي الاستعلائي، وسطوته الظالمة، في جولات فنية خالية من أدنى الأحاسيس الوطنية.وما أكثر الفن الهابط المنفلت عن قيم الفضيلة، والمنجرف وراء الخلاعة والميوعة، الداعي إلى كل رزيلة، والغارق في كل فاحشة، المفتون بالرقص الماجن، والمنهمك في إغواء الجماهير وتخديرها.وبالمقابل ما أجمل الفن الملتزم، حين يجعل من القيم الإنسانية رسالته النبيلة، وحين يسخر موهبته في صياغة الكلمة الرفيعة، والأنشودة الحميدة، أو الأغنية الرقيقة، ذات المعاني الثائرة، والنغمة الإنسانية الهادفة. أغنية الفنان المبدع الثائر حسين محمد علي، فنان التجري المخضرم ( مِّـرِإِيكَ؟ تُـمْ، مَـنْ سَـمْـعَـكَ؟ تُـمْ) هي أحد النماذج الحية في أدب التجري لهذا النوع من الفن المنحاز لمعاناة المظلومين وتوجعاتهم، فقد جاءت هذه الأغنية الجميلة حاملة معاني غاية في السمو الإنساني، حين صورت لنا الحالة السياسية البائسة لشعبنا الأبي، حالة استخباراتية حادة، تبني بقاءها ووجودها على التنصت والتجسس (مِـرِإِيكْ؟ تُـمْ، مَـنْ سَـمْـعَـكَ؟ تُـمْ ) ( مِـنْ تِـتْـهَـاجِـي أَفُـوكَ إِنْـلَـجِـمْ ).حالة لا تسمح أبدا بالكلام ولو همسا، فضلا من أن تمنح الكلمة قيمتها النفيسة، وتتوعد كل من يتكلم بأشد ما يمكن أن يقاسيه الإنسان من صنوف الإهانات حين يفتح فاه ليتكلم ( مِـنْ تِـتْـهَـاجِـي أَفُـوكَ إِنْـلَـجِـمْ ).ما أبدع هذا التصوير البلاغي لهذه الحالة المشؤومة، فقد أجمل فناننا البارع حسين محمد علي كل مظاهر الإهانات الإنسانية التي يعانيها شعبنا واختزلها لنا في هذا المقطع من أغنيته الرائعة، (لجم الأفواه) (أَفُـوكَ إِنْـلَـجِـمْ ) وكأن حسين يريد أن يقول لنا: إن الإنسان الإرتري في ظل هذا النظام أشبه ما يكون ببغل، أو حمار، أو فرس، في فمه لجام، يكتم صوته، ويمكن منه الطاغية ليركبه إلى مطامعه ومطامحه غير المشروعة، ويتحكم في حركته، يمينا ويسارا، وليس له من خيار سوى أن يسكت، ويتابع سيره وفق ضربات السوط، وحركة اللجام (مِـرِإِيكْ؟ تُـمْ، مَـنْ سَـمْـعَـكَ؟ تُـمْ مِـنْ تِـتْـهَـاجِـي أَفُـوكَ إِنْـلَـجِـمْ ). يستنكر الفنان حسين هذه الحالة البائسة، ويتأسى على إدراكه لها، ويتلوى ألما من قسوتها، بوصفها حالة في منتهى الانحطاط والمرارة، ليس للقانون فيها كلمة، ولا للعدالة سلطان، ويستنهض ذوي الهمم الشامخة، وحملة الكبرياء الإرتري لمقاومتها، لكونها فترة زمنية أسوأ ما تكون في حياة الإنسان الإرتري، وأشد إلحاحا على المقاومة والاستنكار ( زَمَـنْ أُكُـويْ عَـرَّيـْنَـا وفِـتِـحْ أِلَـبُـو حُـكُـمْ… وَعَـبَّـايْـتَ إِلَّ يَـهَـوْ إِيـتَـأَتْـأَزِمْ ) إنها لكبيرة تستحق منا الإنكار عار علينا أن نسكت وننام ملء جفوننا وهي جاثمة على صدورنا!!.ثم بنبرة واثقة من إرادتها الحرة، وعزيمتها القوية، يتحدى الفنان حسين محمد علي في محاولة منه لشحذ الهمم إرادة الطغيان بكل ما تملك من سجون، وقيود، وسلاسل، ولجام، ليعلن أنه لن يسكت أبدا، ولن يخنع دهرا، بل سيمضي في طريقه، ليفك عن فمه لجام الطاغية، ويطرحه عنه بعيدا، ليتكلم كما يشاء، إلى أن تتحق للشعب مقاصده التحررية، وتطلعاته الاستقلالية ( أنـأ لاَ تُـو إي أزِّم، وَأَفُـوي إِيـلَجِّـمْ … إَبَـاسِـرْ وَأَطَّـاجِـمْ، نِـيَـتْ شَـعَـبْ جِـتِّـتْـمَـمْ ).وهو هنا يعود بنا إلى أغنيته العربية التي طالما شنف بها أسماعنا، وخاطب بها مكمن العز في نفوسنا، كلما لامس فينا ميلا نحو الاستكانة والرضا بالمهانة (صامدون ما ركعنا ولن نركع ) يذكرنا بها هنا مرة ثانية عبر هذه الأغنية البديعة، وفعلا ها هو حسين نراه قد ألقى عنه اللجام، وانطلق يحرض الآخرين على كسره، وما هذه الأغنية إلا مظهر من مظاهر هذا الانعتاق والتحريض تتكامل كل التكامل، وتتناغم كل التناغم مع أغنيته بالتجري التي يقول فيها: (أَنَـا جِـدِمْ فَـرَّرْكُـو وَإِثَّـوْرَتِـي تَـحَـابَـرْكُـو إِمْـيِ تَـعَـلِّـلْ وَتِـدْحِـرْ فَـارْحَـتْ هَـلِّـيـتْ مِـنْ لِـبـَّا ). ولا يتردد حسين وهو يتحدى إرادة الطغيان في أغنيته هذه أن يعيب على أولئك الصامتين صمتهم، كالموتى في القبور، والشعب من حولهم مكبل بالأغلال، وموطوءة بالأحذية الغليظة رقابه، مطلقا عليهم وصف الذلة، والمسكنة، وانعدام المروءة، والتجرد من قيم الرجولة ( قِـيُـورْ جَـبِّءْ وَحَـوَانْ لَـلَأَزِّمْ… قَـبِـيـلُ دِيـبْ حَـمِّـمْ ).ثم ينتقل بنا حسين إلى بعض مشاهد تلك الحالة البائسة، ومعالمها البارزة، حيث يساق الشعب إلى خنادق الموت في حروب ليس له فيها رأي، وإنما يحشد إليها حشد النعاج في مذابحها، ليدينها أولا، مبينا أنها مجرد تجارب ديكتاتورية، لا تستحق منا أكثر من الرفض، والصراخ في وجه مؤججيها ( كفى كفى) لسنا على استعداد لنكون وقود حروب عبثية، لا قرار لنا فيها ( مِـنْ حَـرِبْ دِيـبْ حَـرِبْ، كَـفِّـيـنَـا كَـفِّـيـنِـا، يِـئِـنْـجَـبِّءْ تَـجَـارِبْ ).ولا ينسى حسين هنا بموهبته الفنية الفذة أن يلفت أنظارنا إلى مشهد آخر استله من بين كثير من المشاهد المقرفة وهو مشهد الظلم المخيم على أرجاء الوطن لما له من علاقة وطيدة بمشهد هذه الحروب الهمجية، فمع أن المواطن يدفع إلى أتونها دفعا ليسحق بدباباتها، ويستنشق سمومها بحجة حماية الوطن من العدوان، يجد الطغمة المتنفذة في هذا الوطن ذاته والمتحكمة فيه لا تبالي بهمومه، بل تعمق مظلوميته، فحقوقه مهضومة، وإرادته مسلوبة، ومعيشته ضنكا، كلما أشرق فجر يوم جديد اتسعت أمامه رقعة الظلم، لتبدد فيه كل آمال الفرج، وأحلام اليقظة، ولتضطره أن يقول لظالميه ( كفى كفي) من هذا الظلم المقيت، (كفى كفى) من هذا الإجحاف الأثيم، كما قال لها من قبل ( كفى كفى) من هذه الحروب العبثية ( مِـنْ ظِـلِـمْ دِيـبْ ظِـلِـمْ كَـفِّـيـنَـا كَـفِّـيـنِـا، يِـئِـنْـجَـبِّءْ دِيـبْ حِـلِـمْ).ولأن اللهث خلف المقاعد القيادية، والتمسك بها مهما كانت المآلات والنتائج الكارثية، هو وراء كل هذه المآسي والمعاناة لشعبنا، فإن قريحة حسين الفنية تلح وتصر على استهجان هذا الدافع بشدة، مؤكدة ضرورة تهشيم الكراسي على رؤوس المتطلعين إليها والمتشبثين بها وعلى رؤوس أولئك المتزلفين أيضا والمتملقين من الفنانين الذين رهنوا فنهم الغنائي برضا الطغيان وبغيه، وبالمكاسب النفعية الزائلة المرجوة من هذا التزلف الرخيص لهذا الطاغية أو ذاك، على حساب رفاهية الشعب وأمنه، وسعادته، (سُـوبُـورْ لِـجْـبَـأْ لَـكَـرَاسِـي وَدَلاَ جِـلْ كُـرْسِـي حَـلِّ).وحسين هنا يدعو إلى حترف الفن هدفا للتحرر، وليس وسيلة للإسترزاق، ويجعل منه رسالة محايدة، يقاوم الظلم لذاته، بغض النظر عن الجهة التي تمارسه، فهو وإن كان يستنفر الجمهور للتنديد بظلم النظام، لا يسكت أيضا عن ظلم المعارضة، متى بدا له ذلك، وشم رائحته، فقد أقسم ألا يركع، كما أقسم أن لا يسكت (أنـأ لاَ تُـو إي أزِّم، وَأَفُـوي إِيـلَجِّـمْ …).ويحذر حسين كل الأعناق المشرئبة نحو مقاعد الحكم، والمتمسكة بها، بأن الشعب مهما بدا ضعيفا مهانا لا بد أن يزأر يوما زئير الأسود ليحطم على رؤوسهم عروشهم التي يعلونها، او يحلمون بها، ويكشف خياناتهم له، وتآمرهم عليه (سِـمِـيـتُـو إِنْـكَـرِّي قَـبِـيـلْـنَـا لَـظَـلِـمْ إِرِتْـرِيـِا لِـطَـلِّـمْ ). وفي المقطع التالي من هذه الأغنية الرائعة ينبه حسين هؤلاء الطغاة الظالمين إلى ما هم عنه غافلون، عسى أن يكفوا عن غيهم وظلمهم، ويعودوا إلى رشدهم الإنساني، فيتصالحوا مع شعبهم، فالنار دائما تشتعل من مستصغر الشرر، وهو هذا الشعب المستضعف المسكين، الذي بدأ يتململ ويتبرم، وها هو الآن يتحرك من سباته مصمما على ألا يسكت حتى ينتزع حقه من بين براثن هذه الوحوش الكاسرة، من المستأسدين عليه، والمتنمرين، كما يراه حسين رأي العين، ( شَـعَـبَـنَـا بَـجَّـسَتْـبَـجَّـسَـا حَـقُـو إِلَّ إِي أَزِّمْ ).فقد أخذ هذا الشعب على نفسه ـ طبقا لقراءات حسين الفنية ـ أن يعمل بكل ما هو متاح له ليسترد مجده الضائع (حَـقُّـو بـَادِي جِـلْ لِـبْـلَـسْ وَدّي هَـلَّ لِـطَّـاجَـمْ ) .وإزاء هذا التحرك الشعبي، والتململ الجماهيري، والصحوة الوطنية، يحدد حسين محمد علي المطلوب فعله من النظام، مشخصا إياه في (العدالة) العدالة وحدها، وبناء دولة القانون، والاتعاذ بكل التجارب السابقة، تجارب الأمبراطور، تجارب الدرق، تجارب كل الديكتاتوريين في العالم، الذين مضوا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا، ولم تغن عنهم عروشهم، ولا جيوشهم، ولا أجهزة استخباراتهم، من غضبة الشعب، ومقت الرب، وعاقبة الظلم، فكم قتلوا، وكم ظلموا، ولكنهم في النهاية اختفوا عن الوجود تلاحقهم لعنات المستضعفين المظلومين، والعاقل من وعظ بغيره (فِـتِـحْ لِـيـدِي وَعِـدَالَـتْ مِـنَّ حَـلْـفَـتْ لِـتْعَـلَّـمْ ).ولا داعي لسياسات الإقصاء والتهميش، فإرتريا تسع الجميع، وقد آن الأوان ألا نتظالم (إرتـريـا كَـفِّـيـنـَا، كَـفِّـيـنـَا، كَـفِّـي أَدْحِـدْ إِي نِـظْـلِـمْ ).لتنتهي وتنتفي الملاحقات الأمنية، والاختطافات الليلية، ومظاهر الإرهاب اليومية إلى الأبد، والْيُعْطِى الشعب حريته المخطوفة، ليفعل كما يود، وليقود ذاته بذاته، ويحفظ وحدته ويحرسها بنفسه وإرادته، وبكل مسؤولياته الوطنية، معمقة بالقانون، مبنية على الشورى (لَـتْـمَـقَـارِحْ) ومحمية بالعدالة ( إَنْـدِ تَـرْفَـى مَـتْـكَـارَافْ، وَإِنْـدِ تَـرْفَـى أَتْـفَـارَاهْ، شَـعَـبْ لِـيـدِي نَـيِـتُـو، فِـتِـحْ لِـيـدِي وَلِـمْـرِحْ، وُحْـدَتْ نُـوسُـو لَـعَـقِـبَّـا، وَشَـعْـبُـو لَـتْـمَـقَـارِحْ). وفي الختام من الأغنية يستحث حسين الضمير الإرتري بأجمعه، نظاما ومعارضة حاكما ومحكوما، راعيا ورعية، دون أي تفريق بين هذا الجنس وذاك، ويبن تلك الجهة وهذه الجهة، أو هذا الحزب وذاك، على العمل من أجل الأحسن (سـنـيـت) بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، حتى لا يشمت بنا العدو ( إِجِـلْ سَـنِـيـتْ نِـتْـعَـنْـدَقْ، نِـتْـعَـنْـدَقْ، يَـهَـوْ أَبِـايْ إِيـلِـفْـرَحْ ).وإذا كانت الأغنية تُقَيَّمُ في نظر نقاد الفن الغنائي من خلال أركان ثلاثة: المضمون، اللحن، الأداء، فإن أغنية حسين هذه جاءت مستوفية كل هذه الأركان في أجمل مايكون، فهنيئا لحسين في رقي كلماته، وهنيئا له في حسن لحنه، وهنيئا له في روعة أدائه الغنائي، وأخيرا هنيئا له في انحيازه الدائم لإرادة المظلومين، وهنيئا لكل الفنانين الإرتريين، ممن هم على شاكلة حسين محمد علي، الذين انحازوا إلى ما انحاز إليه حسين، بعد أن شاهدوا الظلم والقمع، ورفضوا أن يكونوا أداة تقوية له وبوق دعاية زائفة، وطمس للحقيقة المقهورة، من الذين يقبعون في السجون من غير محاكمة عادلة كما هو حال الفنان إدريس محمد علي أو حال الذين هجروا الديار مفضلين اللجوء إلي بلاد الحرية، خوفا من أن تكون ملكاتهم الفنية، وقدراتهم الغنائية سلعة تباع وتشترى، وتستغل في سوق الديكتاتورية، ومهرجانتها التضليلية، من أمثال الفنان عثمان عبد الرحيم، والفنان الشعبي عبي عبد الله، المقيم بكسلا، والكوكبة التي أبت العودة إلى حضن النظام، وآثرت اللجوء إلى إستراليا.شكرا لحسين محمد علي ولهؤلاء جميعا، وشكرا لكل الفنانيين الذين استشهدوا وهم يؤدون واجبهم الوطني من أمثال الشهيد المرحوم الفنان إدريس محمد عبد الله الملقب بـ(عجت حنا) وكل الذين تغنوا بالحقوق المسلوبة، واستنهضوا همم الشعب الإرتري وعلى رأسهم الفنان القدير فنان الثورة الأول المرحوم محمد باعيسى الذي تغنى في الستينات يقول: (يُـومَـتِـي سِـكَـابْ بَـدَا، خَـلاِصْ جِـهَـادْ مَـطَـا، هَـرُّوسُ لَـتَـهَـرْجَـتَـا). هنيئا لهؤلاء جميعا في الخالدين وهنيئا للفنان حسين محمد علي، ومزيدا من الإبداع الفني خدمة للمسحوقين، وكشفا لمكائد الظالمين، ودحرا للفن المطبل، وإلى لقاء آخر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى