بين السودان واريتريا
17-May-2005
الإتحاد
محمـد أبـو الفضـل:الإتحاد الظبيانية
كان الدور السوداني التاريخي في دعم الثورة الاريترية يشي بالتفاؤل حيال بروز علاقات وطيدة بين الخرطوم وأسمرة ،وأن هناك سلسلة من التفاهمات السياسية يمكن أن ترسي قواعد متينة للانطلاق نحو مستقبل مشرق ، يقوم على أساس التعاون وربما التحالف في التعامل مع القضايا المصيرية ،
لكن التطورات مشت في اتجاه مخالف ، وجاءت الرياح محملة بما لا يشتهي الطرفان ، وسارت العلاقات بين البلدين من سيئ الى أسوأ ، لعبت جملة من العوامل الداخلية والاقليمية والدولية دورا مؤثرا ، ساعد في تغذية النواحي السلبية ، حتى أصبح المشهد العام ينطوي على مجموعة كبيرة من علامات التشاؤم وملامح التغافل عن كثير من الثوابت الاستراتيجية والضوابط السياسية ، ويبدو أن المستقبل القريب يحمل في رحمه دلالات أكثر قتامة ، عقب تصاعد الكلام حول دور اريتريا القوي في مشكلات السودان في الشرق ، بما يتجاوز حدود الدعم المعنوي لقبائل البجا والأسود الحرة ، وتسرب معلومات تؤكد أن أسمرة أضحت أهم قنوات توصيل السلاح الاسرائيلي للمتمردين في دارفور ، ناهيك عن استمرار العلاقة المتميزة بين أسمرة وغالبية قيادات التجمع الوطني السوداني المعارض، التي مكثت طوال الفترة الماضية في الأراضي الاريترية ، وعقدت عددا من أهم اجتماعاتها عليها•وبرغم حالة الشد المتواصل ومؤشرات الاحتقان الظاهرة ، إلا أن بعض المسؤولين في أسمرة أكدوا في لقاء خاص حضرته ‘ الاتحاد’ حرصهم على استقرار وأمن السودان ، ونفوا أي تدخلات عسكرية ، وأن اهتمامهم السياسي بالشأن السوداني يأتي بغرض الحفاظ على أمن بلادهم القومي ، وليس رغبة في هز أركان نظام الخرطوم ، كما تتصور بعض الدوائر السودانية ، بدليل أن وزير الخارجية علي سيد عبد الله ومستشار الرئيس أسياسي أفورقي عضـو المكتب السياسي للجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة الحاكمة عبد الله جابر حضرا الى القاهرة قبل ايام لدراسة آليات التعاون ووسائل التنسيق مع مصر لوضع حد للانفلات الحاصل في السودان ، ومع أن الزيارة كانت لها أهداف ثنائية ، غير أن الملف السوداني احتل مساحة كبيرة من المناقشات ، وبدا كلام علي سيد وعبد الله جابر في اللقاء الذي نظمه مركز البحوث العربية والافريقية بالقاهرة أخيرا وحضره نخبة من المهتمين بالقرن الافريقي منصبا على اتهام الخرطوم بتحمل مسؤولية التدهور الحالي في العلاقات بين الجانبين ، وموضحا رغبة أسمرة في التوصل لقواعد لإذابة الجليد تقوم على احترام خصوصية كل دولة والتعاون المباشر لتصفية الملفات الشائكة •حرب من التصريحاتلا يمكن تجاهل أن هناك أسباباً للتوتر بين السودان واريتريا ، أفضت حصيلتها الى الانزلاق في أتون حرب طويلة من التصريحات والتراشقات ، بعضها له دوافعه الحقيقية التى من الممكن تفهم منطلقاتها ، والبعض الآخر يعود الى الشكوك المتراكمة من تصرفات كل طرف إزاء الثاني ، الأمر الذى يجري تضخيمه من قبل بعض الأوساط السياسية ، بهدف الحرص على استمرار حالة التوتر التي تخدم مصالح جهات معينة في الداخل والخارج ، وترتكن الى أدوات زاعقة تجهض أي بوادر أمل في تصفية الاجواء ، ولأن المناخ معبأ بالحساسيات المبررة وغير المبررة أضحى كل تعليق يصدر من هنا أو هناك يحدث الكثير من ردود الأفعال التى تبتعد أحيانا عن التقاليد والأعراف الدبلوماسية ، وأصبح التوتر سمة رئيسية عند الاشارة للعلاقة بين البلدين ، بصورة توحي بصعوبة تنقيتها من الشوائب التي تضاعفت في الآونة الأخيرة ، والمشكلة أن هذه النتيجة ترمي بأثقالها القاتمة على الأوضاع السياسية في المنطقة المليئة بالتوترات والصراعات وتخلط أوراقها الإقليمية •والواقع يشير الى وجود ثلاثة أسباب جوهرية قادت الى تجذر الخلاف بين السودان واريتريا ، أولها احتضان كل دولة معظم معارضي النظام الآخر ،وتكريس الاهتمام بهم بشكل خلق حساسيات عميقة ، ومع أن هذه الورقـة جزء من أدبيات القرن الافريقي ، إلا أنها فى الحالة السودانية – الاريترية بلغت حد المكايدة السياسية فالخرطوم التي كانت لا تحبذ دعم المعارضة الاريترية علانية اصبحت حريصة على تثبيت الأواصر معها ، ردا على العلاقة الوطيدة التي تربط أسمرة بمعظم معارضي الخرطوم وكل المنشقين عنها ، وثانيها تجاوز وسائل الدعم البعد السياسي ، فقد أشارت تصريحات سودانية متعددة الى اتهام اريتريا بتقديم أنواع متباينة من الدعم المادى والعسكرى، وآخر هذه السلسلة ما يتردد على نطاق واسع بشأن دعم متمردي دارفور بالسلاح ، والحرص على جعل جبهتهم مفتوحة بالتزامن مع الجبهة الشرقية المتاخمة للحدود الاريترية ، وهو ما أدى إلى زيادة جرعات التصعيد والمساهمة فى تفشيل محاولات اللجوء الى الحوار عن طريق أطراف إقليمية ، وثالثها اثيوبيا كدولة تمتلك شبكة جيدة من العلاقات المتنوعة مع السودان ولا تزال في حالة صراع مع اريتريا ، وتعتقد اسمرة أن القواسم المشتركة التى خلقتها الخرطوم وأديس ابابا موجهة أساسا ضدها ، ومن هنا كلما ازداد التوتر بين السودان واريتريا كلما اتجهت العلاقات السودانية – الاثيوبية الى مزيد من السخونة ، وقد أدت هذه النتيجة الى تكريس الهواجس الاريترية من النظام السوداني ، فالخلاف مع اثيوبيا يتجاوز النزاع الحدودي الذى حسمته محكمة العدل الدولية لصالح أسمرة ، ليصل الى حد الصراع المصيري الذى تتقطع على أوتاره كثير من المصالح الاستراتيجية •علاقات محسوبة مع اسرائيل .والشاهد أن هذه العوامل تجذرت فى الوجدان الرسمى والشعبي وقادت الى الصورة الراهنة المسكونة بالشك ، لكن المنطلقات الاريترية التى سمعتها مباشرة من وزير الخارجية ومستشار الرئيس أفورقي تكشف جوانب أخرى ، ربما تكون خافية على كثير من المراقبين ، فالحركة الاسلامية السودانية التي وقفت الى جوار اريتريا الى درجة أن أحد الصحفيين ( سيد أحمد خليفة ) تساءل هل أسلم أفورقى أم كفر الترابي ؟ خرجت عن هذا السياق الآن واصبحت تكن عداء كبيرا لأسمرة ، وأكد علي سيد وعبد الله جابر أن المأزق الذى يعيشه السودان حاليا تتحمل الحكومة وحدها مسؤوليته ، فقد قدمت اريتريا مبادرات جادة لاحتواء الأزمات المركبة في السودان ، سواء مع الجنوب أو التجمع الوطني ، وقبلت بما هو أدنى في نيفاشا ، ولا تزال اريتريا تصر على صعوبة السلام في السودان من دون مشاركة كل القوى المعارضة ، فمن الضروري افساح المجال لادخالها في منظومة الحل الشامل ، بينما خطوات الرئيس عمر البشير تسير في اتجاه تفضيل المنابر والتلاعب بالمسارات السياسية لصالح حسابات ضيقة ، وهذه السياسة تسببت في إقصاء قوى مؤثرة •ونفى عبد الله جابر الاتهامات المتكررة بتقديم دعم عسكري لمتمردي دارفور ، موضحا استحالة توصيل سلاح اليهم من اسرائيل عن طريق اريتريا ، أولا لبعد المسافة التي تتجاوز ثلاثة آلاف كيلومترا ، وثانيا لأن اسرائيل لو أرادت تقديم السلاح فيمكنها أن تقوم بهذه الخطوة مباشرة أو من خلال جهات أخرى أكثر قربا ، ثالثا أن السلاح الخفيف أصبح منتشرا في السودان بفضل الحرب الأهلية الطويلة وتسريح الآلاف من الميشليات السودانية من دون جمع سلاحها ، وفي هذا السياق لم ينكر جابر وعلي سيد أن بلدهما يمتلك علاقات جيدة باسرائيل ، مؤكدين على ثلاثة ثوابت ، الأولى عدم تسخير هذه العلاقة ضد الدول العربية ، والثانية تخفيف وطأة الضغوط الأمريكية والاسرائيلية على اريتريا لصالح اثيوبيا ، والثالثة عدم وجود قواعد عسكرية أجنبية في الاراضى أو الشواطئ والجزر الارتيرية •وكشف المسؤولان الاريتريان ‘ أن هناك مشاورات مع كل من هولندا والنرويج لانقاذ اتفاق نيفاشا الذي يتعرض للخطر ، بسبب استمرار حلقات التوتر في الشرق والغرب ، وأحد أهداف زيارتهما الأخيرة للقاهرة انصب حول هذا الغرض ، والمشكلة في نظرهما تكمن في التباين الظاهر مع القاهرة ، التي ترى ضرورة دعم النظام السوداني ، في حين ترى اريتريا أن هذا الاتجاه يخل بالتوازنات المطلوبة ، لذلك من الأجدى دعم الأطراف المعارضة ، حتى يمكن التوصل الى معادلة تساهم في الحفاظ على وحدة السودان ، وفي كل الاحوال تبدو العلاقات بين السودان واريتريا في نفق مظلم ، فاما أن يدرك الطرفان خطأ توجهاتهما الحالية ومحاولة فتح صفحة بيضاء ، أو تحمل النتائج التى يمكن أن تنجم عن التصرفات والتصورات السلبية ، فكل بلد لديه كثير من المشكلات الداخلية التي لا تؤثر فقط على نظامه السياسي، بل تنال من وحدة ترابه .