مقالات

افورقي في الخرطوم .. الحنين الى الماضي !. بقلم / احمد ابو تيسير

15-Sep-2019

عدوليس

جاءت زيارة افورقي الى الخرطوم السبت الـ14 سبتمبر ولقاءه بالمسئولين السودانيين في محاولة يائسة للعودة الي دائرة التأثير في الساحة السياسية السودانية بعد أن كاد يفقد او بالأصح فقد كل أوراق المناورة في ملفات علاقاته بالقوى السياسية السودانية إثر التغييرات الاستراتيجية المتلاحقة في علاقات السودان الإقليمية والدولية نتيجة نجاح ثورة الشعب السوداني في اقتلاع اسوء نظام عرفته القارة الافريقية.

جاء افورقي الى الخرطوم هذه المرة باحثا عن حليف جديد في المنطقة بعد أكثر من شهر على توقيع اتفاقية المرحلة الانتقالية بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير، تلك الاتفاقية التي جرت مراسيم التوقيع عليها في الخرطوم بحضور دولي واقليمي كبير حيث شاركت كل الدول المجاورة للسودان في تلك المراسيم ولم يغب عنها الا افورقي الذي كان غيابه لافتا للأنظار ولا مبرر له على الإطلاق. صحيح أن افورقي لا يدعم فكرة التحول الديموقراطي في السودان وهو ضد ثورة الشعب السوداني من حيث المبدأ ولكن الأعراف الدبلوماسية ومتطلبات العلاقات العامة وضرورات الاستفادة من فرص المحافل الدولية في تحقيق غايات أخرى كان يقتضي حضور افورقي الى الخرطوم الشهر الماضي والمشاركة في مراسيم التوقيع.
المشكلة ان افورقي يدير ملفات العلاقات الإقليمية والدولية – كشأن الملفات الأخرى-لوحده ودون إشراك أحد بينما يلعب الآخرون من حوله من أمثال يماني قبرآب وعثمان صالح دور المراسلين المنفذين لأوامره. وحتى صفة المستشار التي تطلقها بعض وسائل الإعلام على يماني قبرآب هي صفة غير صحيحة لأنه لو كان هناك مستشار لأفورقي لأشار اليه بالتصرف الأمثل إزاء هذه التطورات. الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على سبيل المثال هو من أكثر المتشائمين بتطورات الثورة السودانية بل ومن أكثر الداعمين للمجلس العسكري في ضرب الثورة السلمية للشعب السوداني باستخدام العنف المفرط، ولكنه كان مضطرا للاستجابة الى الدعوة التي وجهت له لحضور مراسيم التوقيع على اتفاقية الوثيقة الدستورية فأرسل رئيس وزراءه لحضور تلك المناسبة نيابة عنه، اولم يكن في امكان افورقي ان يرسل أحد خدامه للحضور نيابة عنه على الأقل من باب المجاملة للمجلس العسكري؟!!
لا أدري كيف برر افورقي غيابه ذاك لمن يرجح انهم حلفاءه في المجلس العسكري ولكن يبدو ان فكرة متأخرة قد اختمرت في ذهنه فقرر زيارة الخرطوم هذه المرة على قاعدة أن تأتي متأخرا خير من ان لا تأتي ابدا. تقول الفكرة : -ان انعدام الامن في الخرطوم هو سبب غياب افورقي الشهر الماضي ولا يخفى على أحد بأن الخرطوم تعج بالمعارضين له من الارتريين والاثيوبيين وهم لا يتوانون في الانقضاض عليه إذا وجدوا الفرصة لذلك-فكرة رائعة لتبرير الغياب همس بها (يماني مانكي) على اذن عبد الفتاح البرهان في إطار لقاء لتمهيد الزيارة جرى الأسبوع الماضي. وبدا واضحا ان البرهان ابتلع الطعم ومعه العذر فهو مجرد عسكري حديث العهد بالألاعيب السياسية حيث وعد الـ (مانكي) بتنظيف الخرطوم ممن يشكلون خطرا على افورقي قبيل الزيارة المتوقعة فشنت السلطات الأمنية السودانية حملات مداهمات استهدفت الارتريين والاثيوبيين بشكل خاص وربما تم القبض أيضا على بعض المتسولين السوريين من باب التمويه حتى يبدو الامر وكأنه حملة شاملة لكل الأجانب. ومن المحتمل جدا ان تتوقف هذه الحملات بعد انتهاء زيارة افورقي للخرطوم، وان حدث ذلك فهذا يؤكد صحة ما ذهبنا اليه من قول.
ان فكرة توقيف واستهداف الارتريين والاثيوبيين في المدن السودانية من قبل السلطات الأمنية ليست جديدة بل ظلت تتكرر مع تقلبات السياسات العامة والأمزجة للنظم السياسية في دول المنطقة. ففي العام 1980 على سبيل المثال عندما اراد العقيد منقستو هيلي ماريام إعادة علاقاته مع نظام العقيد جعفر النميري وقرر زيارة الخرطوم اشترط على نظام النميري تنظيف المدن السودانية من الارتريين والاثيوبيين المعارضين فاستجابت السلطات السودانية واقامت معسكرات اعتقال جماعية في العديد من المدن السودانية حيث تم احتجاز مئات الألاف من اللاجئين حتى في المدن البعيدة مثل القضارف وكسلا وبورتسودان، في تلك المعسكرات على مدى أسبوع كامل حتى انتهاء زيارة العقيد منقستو هيلي ماريام للخرطوم وهي حادثة شكلت وصمة عار على جبين الضمير الإنساني ومن المؤسف ان تتكرر تلك الحادثة هذه المرة أيضا ولو كانت بشكل مختلف خاصة وان السودان يتلمس طريقه نحو غد مشرق.
من الواضح ان زيارة افورقي للخرطوم في هذا الوقت بالذات وما صاحب ذلك من تطورات في الجانب الأمني كما اشرنا سلفا تدل على ان المجلس العسكري وبقايا النظام القديم ما زالت تحكم وهي الممسكة بقواعد اللعبة حتى الآن وان قوى الحرية والتغيير أمامها مشوار طويل لأحكام قبضتها على الدولة العميقة والا لما جاء افورقي الى الخرطوم أصلا في هذا الوقت بالذات، فهو ما زال يحلم بعودة الأمور الى ما قبل التاسع عشر من ديسمبر 2018 من خلال البرهان وحميدتي اللذين ذهب كل منهما الى اسمرا واحدا اثر الآخر اثناء الثورة بمجرد ان طلب منهما افورقي مقابلته. ان كلمات مثل الحرية والتغيير والتحول الديموقراطي والدولية المؤسسية يبغضها افورقي شديد البغض ولذلك يخطئ من يعتقد ان افورقي يبحث عن حليف جديد من المعسكر الآخر.
بالعودة الى الملفات التي كان يناور بها افورقي على الساحة السودانية وفقدها، يأتي ملف دارفور في المقدمة ثم ملف الشرق كخيار بديل ثاني. وقبل الولوج الي ما يرمي اليه افورقي في السودان لا بد من الإشارة هنا الى ان المبدأ الذي يعتمد عليه النظام في اسمرا في رسم سياساته الاقليمية هو الاحتفاظ دائما بكروت الضغط على الأنظمة المجاورة حتى تظل في دائرة تأثيره من خلال احتضان جماعات المعارضة المسلحة وهو تكتيك قديم عفي عنه الزمن واستبدل بأساليب جديدة تعتمد على الهيمنة الاقتصادية وبناء العلاقات العامة في المحافل الدولية. غني عن القول بأن افورقي قد صرف أموال طائلة لدعم جماعات المعارضة الاثيوبية من خلال تسليحها ودعمها بالمؤن الغذائية واللوجستية على مدى سنوات طويلة وفجأة ذهبت تلك الاستثمارات غير المقدسة ادراج الرياح بعد ان نجح رئيس الوزراء الاثيوبي في تصفير الأزمات الداخلية وبناء الثقة بين حكومته وجماعات المعارضة المسلحة حيث عادت جل او كل تلك المجموعات الى اثيوبيا استجابة لدعوة الحوار السلمي تاركة افورقي حائرا نادما حانقا يدق صدره من شدة الغيظ.
في السودان أيضا يبدو ان التطورات تجري في اتجاه تصفير الازمات الداخلية والنزاعات المسلحة، فالرياح التي تهب من جوبا تبشر بأن اختراقا ما سيحدث في ملف ازمة دارفور ومناطق النزاعات الأخرى وكل المؤشرات والدلائل تبين بأن جميع الأطراف السودانية مدركة بأن السلام في مصلحتها والشرط الوحيد هو تثبيت ركائز التحول الديموقراطي وبناء الدولة القائمة على أسس المواطنة والحرية والمساواة وهو هدف تسعى اليه قوى الحرية والتغيير وتناضل من اجل تحقيقه. أما شركاء قوى الحرية والتغيير من العسكر وبصرف النظر عما يطمحون اليه فهم أيضا يسعون الى انهاء ملف ازمة دارفور والمناطق المهمشة الأخرى بأي ثمن كان، ولهم دوافعهم واسبابهم التي تجعلهم أكثر اهتماما من غيرهم. مشكلة العسكر انهم يتبعون نفس أساليب الإنقاذ في معالجة المشكلات الداخلية حيث ان التركيز ليس على معالجة أسباب النزاعات وجذورها بل على تقديم الاغراءات والتنازلات والمحاصصة بهدف التوصل الى اتفاق مع المجموعات المسلحة وهو أسلوب عقيم يؤدي الى افراز مجموعات مسلحة جديدة كما اثبتت تجربة الثلاثين عاما الماضية.
عندما استقبل عبد الفتاح البرهان او حميدتي ضيفهم القادم من اسمرا والذي حل في ضيافتهم على مدي يومين في الخرطوم فإنهما يفعلان ذلك عسى ان يسهم ذلك في كسب وده أو اتقاء شره او على الأقل تحييده في المستقبل المنظور حتى لا يؤثر بشكل او بآخر على سير المفاوضات مع المجموعات المسلحة في دارفور خاصة وان بعض المجموعات ما زالت تتخذ من ارتريا مقرا لها. أما افورقي فهو يعلم تمام العلم بأن في جعبته لا شيء البتة يمكن ان يلوح بها أمام مضيفه في الخرطوم ولذا يرجح بأنه اكتفي بتقديم بعض النصائح في طريقة التعامل مع قوى الحرية والتغيير وقال لهم ان أي تفريط في السلطة سيؤدي الى فوضى في السودان. اما اللقاء الذي جرى مع رئيس الوزراء حمدوك فهو لا يعدو كونه لقاء مجاملة فقط وفي غالب الظن أن افورقي سيتظاهر بأنه سعيد بتشكيل الحكومة الانتقالية وانه جاء مهنئا بهذه المناسبة.
وبعيد عن الأضواء لا ينسى افورقي ان يجد من يصبح حليفا له في المستقبل سواء كان من الأحزاب التقليدية او حتى لو كان من بقايا النظام السابق او بعض الإسلاميين الذي يرون انهم متضررون من التحولات الديموقراطية او يشعرون بأنهم يعانون من الاقصاء. خلاصة القول ان نجاح قوى التغيير السودانية في تثبيت دعائم الدولة السودانية من خلال إعادة بناء المؤسسات وتصفير النزاعات الداخلية سيسحب البساط من افورقي ومن على شاكلته من القوى الظلامية التي لا يمكن ان تعيش الا في أجواء الحروب والأزمات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى