مقالات

الصراع الإثيوبي حقائق الواقع ومقاربات الحل

بقلم عبدالرازق كرار.

لم يكن دخول الجبهة الشعبية لتحرير تغراي (الوياني) الى عاصمة اقليم التغراى مقلي أمراً مستغرباً في حد ذاته، وإن كان مفاجئاً في توقيته وتفاصيل أحداثه، فمصير مشابه لحزب (الخمير الحمر) في كمبوديا لم يطف إلا بذهن قلة من المتمنين، ذلك أنه لا طبيعة تنظيم الوياني وحاضنته الإجتماعية، ولا التاريخ السياسي الحديث لاثيوبيا يمكن أن يقود الى مصير مشابه لتنظيم الخمير الحمر، وعليه فإن عودتهم الى مسرح الأحداث كانت فقط مسألة وقت ليس إلا. 

· عدم استغراب عودتهم يكمن في الاستراتيجية التي اتبعها كل من طرفىَ الصراع في إثيوبيا، فبينما اعتمدت الحكومة الفيدرالية وحليفها الرئيس الإرتري أسياس أفورقي استراتيجية الحسم السريع خلال اسابيع مستفيدة من الغطاء الذي وفرته لهم حكومة الرئيس ترامب وحلفائه الاقليمين في أيام حكومته الأخيرة، ومعتمدة على عزل الاقليم وقطع خطوط الامداد اللوجستي المحتمل من خلال قطع الطرق التي تربطه بالعالم خاصة المنفذ الخارجي (السودان) وقطع شبكات الاتصالات، بالمقابل أعتمدت الوياني استراتيجية حرب الاستنزاف طويلة الأمد ولهذا لم تدخل في مواجهات مباشرة في أغلب الجبهات وفضلت الانسحاب الى خارج المدن مؤثرة الاحتفاظ بأغلب قواتها وعتادتها القابل للحركة ، والعودة الى معاقلها المألوفة أثناء فترة النضال ضد نظام الدرق في الفترة 1975-1991م. 

قيادات الجبهة الشعبية لتحرير تغراي

· داخلياً عولت الحكومة الفيدرالية الاثيوبية على النقمة الشعبية الكبيرة لمعظم المكونات الاثنية الاثيوبية تجاه الوياني، والدعم الإرتري الكبير، والرغبة الجامعة لنخب الأمحرا للعودة الى واجهة المشهد السياسي بعد غياب طويل، ولمليشياتهم في استعادة الأراضي المتنازع عليها بين التغراي والأمحرا، والاعتقاد بأن قاعدة التغراى الشعبية ليست بهذه الاتساع والولاء والتماسك، وأنه بالامكان خلق قيادة بديلة للوياني تكون متصالحة مع الاطروحات المقدمة من الحكومة الفيدرالية على الأقل أن لم تكون موالية لها، اعتماداً على الخلافات السياسية أو المناطقية بين نخب التغراي. 

· الوياني بالمقابل اعتمدت على استراتيجية الاستنزاف طويل الأمد، والذي يجعل استمرار الحكومة الفيدرالية في مسار الحل الأمني/العسكري باهظ الكلفة سياسياً واقتصادياً، وأن تطاول مداه يسهم في توسيع دائرة الخلافات بين مراكز القوى في الحكومة الفيدرالية وحلفائها، كما أنها استفادت من الاهتمام الدولي بإثيوبيا والتصور الراسخ في العقلية الغربية (الولايات المتحدة وأوروبا) في الحفاظ على إثيوبيا الموحدة لاسباب تاريخية، واستراتيجية وانسانية. 

· لم يكن التصور الغربي للحفاظ على أثيوبيا كدولة موحدة غائباً عن تصور الحكومة الفيدرالية وحليفها أسياس أفورقي أيضاً، ولهذا حاولوا مراراً التأكيد على أن مساعيهم 

بما فيها الحرب في تغراى هو في سبيل الحفاظ على إثيوبيا، وأن الوياني تمثل خطر حقيقي لابد من إستئصاله للحفاظ على إثيوبيا الموحدة، وهى مقاربة لم تتفق فيها معهم دوائر صنع القرار في المجتمع الغربي، حيث رجحت دوائر صنع القرار في الغرب الحوار وتقديم التنازلات والتوافق كمعادلة تحفظ وحدة إثيوبيا، إذ أن الحفاظ على وحدة إثيوبيا بالقوة في ظل وجود الطموحات القومية لكل من التغراى والأرومو هو أمر يكاد يكون مستحيلاً على المديين المتوسط والبعيد. 

· دخول الجيش الإرتري ومليشات الامحرا في الصراع، وعدم قدرة الحكومة الفيدرالية على السيطرة الكاملة على هذه القوات، خلق وضعاً مواتياً لحدوث محتمل لانتهاكات جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية، وقد حفلت تقارير المنظمات الانسانية وكالات الانباء الغربية بهذه الجرائم المحتملة، وهو ما جعل تدخل الامم المتحدة ولاحقاً الاتحاد الافريقي أمراً لا مناص منه للتحقيق في هذه الإدعاءات، لكن هذا البعد زاد من وتيرة الضغط على الحكومة الفيدرالية الاثيوبية لاستبعاد الخيار العسكري/ الأمني الحالي وتبنى مقاربة أخرى تعتمد على الحوار. 

· عدم تقبل الغرب المقاربة الفيدرالية للحفاظ على وحدة وتماسك إثيوبيا من خلال الحلول العسكرية في التغراى أو الحلول الأمنية المتمثلة في الاعتقالات للقيادات الفيدرالية فقط لم يكن بسبب عدم تتوافق والتصور الأمريكي فقط ولكن أيضاً لأن أحد مهندسي هذه المقاربة هو أسياس أفورقي والذي لا تثق فيه دوائر صنع القرار الغربي ولا تعتبره طرفاً يمكن أن يسهم إيجاباً في استقرار المنطقة، ولهذا لم تؤخذ مبادرته للأمن والتعاون في القرن الأفريقي والبحر الأحمر مأخذ الجد في هذه الدوائر، وهو ذات التصور الذي أساسه تم استثناءه من جائزة نوبل للسلام والتي جرت العادة أن تعطى مناصفة بين طرفي إتفاقيات السلام. 

· من خلال المعلومات المهولة المتاحة للإدارة الامريكية في الشأن الإثيوبي والخبرات المتراكمة لمبعوثي الحكومة الأمريكية لشأن القرن الأفريقي، خاصة السفير السابق جيفري فليتمان المعروف بقدراته التفاوضية الكبيرة، فقد اعتمدت الإدارة الامريكية إستراتيجية تحفيزية لأطراف الصراع الأساسين وهم رئيس الوزراء الإثيوبي آبي احمد والوياني ، وهو ما يسهم في إيقاف ماكينة الحرب من جهة وتحييد وعزل الأطراف التي يعتبرها المجتمع الدولي غير بناءة في مسار الاستراتيجية الامريكية للحفاظ على وحدة وتماسك إثيوبيا وتحديداً الرئيس الإرتري وصقور الأمحرا من جهة أخرى. 

· كان سهلاً للخبرات الامريكية أن تحدد ما يحفز رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد لتقديم تنازلات، ذلك أنه جعل مسألة استمراره في السلطة محدداً رئيساً لسلوكه وسياساته، وشكواه من عدم وجود الشرعية الكافية له لمواجهة الضغوطات من الأطراف الاثيوبية المختلفة التي تتبنى الخيار العسكري والأمني، وآبي أحمد يدرك جيداً أن استمراره في السلطة مرهون الى حد كبير بالاعتراف الغربي بشكل عام والامريكي على وجه الخصوص، وايضا يدرك أن إثيوبيا لا يمكنها أن تتحمل الضغوطات السياسية والاقتصادية والآلة الاعلامية الغربية لفترة طويلة، ولهذا فإن 

أمريكا وإن ابدت تحفظاتها على طريقة الاعداد للانتخابات العامة، وموعدها لكنها ضمن هذه المقاربة أعطت الضوء الأخضر للانتخابات وهى تدرك أن نتائجها تكاد تكون معروفة سلفاً حيث تكون الغالبية فيها لحزب الازدهار وبالتالي تجديد الثقة في رئيس الوزراء للاستمرار في موقعه، ومقابل الاعتراف بالواقع الذي سوف تخلقه الانتخابات، على آبي أحمد أن يختط سياسات مختلفة في مرحلة ما بعد الانتخابات يكون عنوانها الانسحاب من التغراى وفتح المسارات الانسانية والاتصالات وتبنى حوار شامل للمكونات السياسية والاثنية الاثيوبية. 

· الحوافز المقدمة للوياني بالمقابل هو الاعتراف بهم كسلطة أمر واقع في اقليمهم (التغراى) وتوقف الحرب وفتح نافذه لحوار وطني شامل لمعالجة الخلافات مع الحكومة الفيدرالية، ومقابل هذا على التغراى التراجع عن الخطاب القومي الرافض للتعايش ضمن إثيوبيا الموحدة، وأن تكون الحلول ضمن هذا المحدد الرئيسي. 

· الواضح أن المقاربة الأمريكية قامت على تعهدات الأطراف كل على حدة وليس وفق حوار مباشر بينهم، يضاف الى ذلك فأن أمريكا تتحرك وفق محدد رئيسي وهو وحدة وسلامة أثيوبيا ولا تسيطر على التفاصيل، ذلك أن العامل الخارجي بشكل عام مهما كانت قوته فإن تأثيره ليس حاسماً، وبالتالي تكتيكات أطراف الصراع (العوامل الداخلية) مهمة في تحديد اتجاهات ومآلات الأوضاع. 

رئيس الوزراء ابي احمد

· الوياني التي أدركت جيّداً ان رئيس الوزراء سوف يطرح مبادرته وملخصها (الانسحاب من التغراي) عقب اعلان نتائج الانتخابات التي أجريت في الحادي والعشرين من يونيو المنصرم، وبالتالي تكون له اليد العليا في تحديد مسار الأحداث، قررت حرمانه من ذلك من خلال ترتيب قواتها وخوض المعارك فيما عرف بحملة (ألولا( واستطاعت من خلالها تحييد قدرات الجيش الفيدرالي الى حد كبير وأصبح الطريق سالكاً للوصول الى عاصمة الأقليم مقلي، معتقدين أن دخولهم مقلي سيجعل موقفهم التفاوضي أقوى بكثير مما كان عليه قبل ذلك 

· نجاح حملة ألولا العسكرية وما تلى ذلك من انسحاب الجيش الفيدرالي من مقلي ودخول الوياني دون معارك حقيقية ذات بال، يعود الى الخلافات بين آبي أحمد واسياس من جهة والذي قرر على أثره سحب الجيش الإرتري المتواجد في تغراى أما الى إرتريا أو خارج مسرح العمليات، ومن جهة أخرى عدم رضى صقور الأمحرا عن التوجه الجديد لرئيس الوزراء نحو تبنى مبادرة الحوار وهو ما يعني تلقائياً عودة الوياني الى مسرح الأحداث السياسية في إثيوبيا، وبالتالي فإن الاحجام الإرتري من جهة وعدم الرضى لصقور الأمحرا أضعف من القدرات والروح المعنوية للجيش الفيدرالي. 

· أمام هذه الواقع لم يكن أمام رئيس الوزراء آبي احمد سوى اعلان مبادرته من طرف واحد وهى الانسحاب من تغراى ووقف العمليات العسكرية في الإقليم، في محاولة منه لجعل التغراى في موقع المسئولية في حال فشل الجهود المحلية والدولية في تلافي المجاعة المتوقعه نتيجة للحرب، وتوقف عمليات الزراعة في الاقليم وتعذر وصول المساعدات. 

· في ظل الحقائق الحالية على الأرض، فإن آبي احمد وحكومته المرتقبة أمام تحدي حقيقي لإدارة حوار شامل يخرج إثيوبيا من أزمتها، في ظل أنعدام الثقة بين الأطراف الفاعلة على المسرح السياسي الإثيوبي، والتحدي أمام الوياني بالمقابل هو إدارة الإقليم وتحمل المسئولية في ظل ما تعرض له الإقليم من تدمير للبنية التحتية وسيطرة الحكومة الفيدرالية على المنافذ الخارجية للاقليم، ولكن يظل التحدي الأكبر في مقدرة قيادة الوياني في السيطرة على الخلافات الداخلية والتي سوف تتفاقم نتيجة لموافقة القيادة على المقاربة الأمريكية التي تقوم على وحدة وسلامة الأراضي الإثيوبية، وهو مقاربة ستجد مواجهة كبيرة وسط التيارات القومية التي تنامت بشكل كبير نتيجة للعمل المنظم خلال السنوات الخمسة الماضية، وفاقمتها الحرب الأخيرة والتي يصعب معها تصور ان يعيش شعب التغراى في ظل الحكومة الفيدرالية الحالية. 

· بالمقابل سوف يواجه آبي أحمد حتى ولو وجد الشرعية الدستورية من خلال الانتخابات الأخيرة تحدي حقيقي من حلفائها الحاليين (الأمحرا) وأيضاً المتاعب التي يمكن أن يسببها له أسياس أفورقي في حال تبنى بشكل جدى المقاربة الأمريكية وسعى لإدماج الوياني في الحياة السياسية الإثيوبية. 

· حديث التغراى (غيتاشوا ردا) عن تأمين اقليم التغراى حتى لو أستدعى ذلك التوغل في أقليم الأمحرا، أو في الأراضي الإرترية لا يعدو أن يكون تصريحات تكتيكية لتطمين الذات أكثر منها تهديد الآخر، ولكن يبقى المهدد الأبرز لهذه المقاربة الهشة هو الصراع حول المناطق المتنازع عليها بين أقليمي التغراي والأمحرا، خاصة مايربط منها الاقليم بالعالم الخارجي (السودان). 

· إن إزمة الثقة العميقة بين القوى الفاعلة في إثيوبيا، تجعل امكانية استمرار اثيوبيا وفق التصور الغربي أمراً عسيراً للغاية، فالصراع بين الأمحرا والتغراى ليس حول المناطق المتنازع عليها وحسب بل له أبعاد تاريخية رسمت المسار السياسي الإثيوبي الحديث، ولا تزال حاضرة في تشكيل الخارطة. 

· أيضا فإن التزام الوياني بالبحث عن الحلول داخل أثيوبيا الموحدة سيكون صعباً للغاية في ظل الروح القومية الواضحة وسط شعب التغراي، وسيكون موقفها أضعف إذا لم تجد صفقة تحتوي على ضمانات كافية لاستقلالية الاقليم ضمن النظام الفيدرالي، وأرجح الظن أنها سوف تطرح (الاستفتاء) لشعب تغراى سواء كان ذلك ضمن ما يكفله الدستور الاثيوبي في مادته التاسعة والثلاثون، أو خارجه بعد مدة زمنية معقولة في حالة شبيهة لما حدث في جنوب السودان فيما عرفت بمقاربة (الوحدة الجاذبة) والتي أدت للانفصال فى نهاية المطاف. 

· إذ لم يستطع اسياس أفورقي تفهم ظروف حليفه آبي أحمد، وأعتبر ذلك طعنة في الظهر فإن العلاقات الإرترية الاثيوبية قد تعود الى التوتر أو الجمود في أحسن الأحوال، وما يرجح هذه الاحتمالية هو إذا تم إدماج التغراى في المعادلة السياسية واصبح لهم وجود في القرار الفيدرالي للدولة الاثيوبية. 

· ومع كل هذا تظل هنالك حقيقة لا تقبل الجدل، وهى أن الوياني أثبتت انها تنظيم عصى على الاقتلاع، وانها تمتلك شعبية كبيرة وسط التغراى، خدمها في ذلك ليس تاريخها السياسي وفترة وجودها في السلطة المختلف عليه، ولكن طبيعة السياسة الاثيوبية القائمة على الاثنية وبالتالي يكون الانتماء الى التنظيم جزء من الهوية وليس خياراً سياسياً وحسب، مضافاً الى ذلك النقمة تجاه الآخر المعتدي وصمود القيادة في الميدان وسط شعبها وجنودها، وهى حقائق ما كانت المقاربة الأمريكية سوف تطرح لو لم تدرك هذا الوجود الحقيقي الغير قابل للتجاوز في مصير أثيوبيا وفق التصور الأمريكي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى