مقالات

المر المسبوك..الإرتريات وحصاد ما بعد الاستقلال !

عبد القادر محمد علي.

فاجأني منذ أيام فيديو قديم يوثق زيارة هيلاري كلينتون، حين كانت السيدة الأمريكية الأولى، لإرتريا، وافتتاحها مستوصفاً صحياً هناك، كانت الوزيرة السابقة تهبط على درج الطائرة بابتسامتها العريضة وقبعتها الأنيقة، وخلفها ابنتها تشيلسي تشاركها الزيارة. 

بدا لي المشهد غريباً مليئاً بالمفارقات التي تداعت مع وصول كلينتون أسفل سلم الطائرة، حيث كان ينتظرها ثلاثة: رجلان تتوسطهما امرأة، صافحت كلينتون الرجلين ثم صافحت المرأة، كان الأمر عفوياً بالتأكيد، لكنه أثار في نفسي التساؤل المرير عن التجاهل المذهل لحال المرأة الإرترية ومعاناتها متعددة الأوجه والأبعاد. 

ربما تكون هيلاري من أبرز نتاجات حركة تحرر المرأة ثم حراك طلاب جامعات الستينات في أمريكا، اللذين تركا أعمق الأثر هناك وعبدا الطريق أمام المرأة حتى بلغت درجة الترشح لرئاسة أقوى دول العالم، ومن اللافت للانتباه أنه في نفس تلك الستينات كانت ثورة أخرى تواجه الاستعمار الإثيوبي في طرف آخر من العالم، وشكلت أول بروز للمرأة داخل المجال العام لإرتريا، بعد أن كانت جزءاً من حياة نستطيع تخيلها في مجتمع تقليدي محافظ. 

كانت تلك الثورة نقلة في حياة المرأة، ودورها مشهود في الثورة بجناحيها العسكري والمدني، وفي مقابل حالة كلينتون ألا يحق لنا أن نسأل ما الذي جنته المرأة في إرتريا بعد استقلال كانت جزءاً أصيلاً من صانعيه؟ 

ستجيبنا زينب التي انضمت مقاتلة إلى صفوف الجبهة الشعبية الحاكمة التي ملأت الدنيا ضجيجاً بشعاراتها وطروحاتها عن تحرر المجتمع وتحرر المرأة، وبعد التحرير مباشرة تخلت عن المقاتلات وتركتهن وحدهن في مواجهة مجتمع محافظ، لم يتقبل فكرة خروج الفتاة إلى ساحات القتال. وفي غياب شبكة دعم الدولة مادياً ومعنوياً وفي غياب شهادات التعليم لم تجد زينب، وفي انكسار حاد لرمزية المقاتل، إلا أن تعمل خادمة، وخرجت أفواج من مثيلات زينب خادمات في أرض الله الواسعة. 

ستجيبنا سابا التي كانت تخطط لإكمال تعليمها والحصول على منحة تدريبية في الخارج بعد ذلك، ثم استدعيت لخدمة العلم التي امتدت سنوات طوالاً مليئة بآلام جسدية ونفسية، ولم تجد ملاذاً لإنهاء ماسأتها إلا الحمل لأن الأم تُعفى من الخدمة، فاقترنت بشاب تعرفت عليه في المعسكر، رفضه أهلها لكنها تزوجته، فقوطعت من عائلتها، وألقت بطموحاتها كلها في سلة المهملات، لترضى بحياة زوجية لم تكن “تحلم” بها. 

ستجيبنا حليمة زوجة الراعي علي الذي استُدعي للخدمة الوطنية تاركاً زوجته وابنتيهما دون معيل، وحين تعمد التأخر في إحدى الإجازات لكسب قليل من المال لعائلته اعتُقل وطالت الغيبة، وعضُّ الجوع بأنيابه كلها الأسرة الضعيفة، فانتقلت حليمة إلى مدينة مصوع، وأشيع أنها تعمل عاهرة هناك، قُتل زوجها وهو يحاول الهرب من البلاد، ونبذها مجتمعها، وعاشت المسكينة الفقر المزري مع ابنتيها. 

ستجيبنا نصيحة فتاة لصديقة سألتها عن ألزم ما تحمله في رحلة اللجوء غير الشرعي إلى أوروبا، فنصحتها بحبوب منع الحمل. فالوحوش التي يسمونها مهربي البشر تتعدى مطالبهم المال عادة.. 

ستجيبنا نوال في مطالع العشرين من العمر التقيتها في الخرطوم، تعمل طوال اليوم نادلة في مقهى هناك، رأيت في تقاطيعها ملامحنا، أخبرتها أنني من إرتريا، وسألتها من أين أنت؟ أجابتني من كرن، احتبست الغصة في حلقي والدمعة في عيني، ودون أن أسألها علمت أنها هاربة من إرتريا، وأنها تعمل إما لتعول أهلها، وإما لتجمع مالاً تخوض به المخاطر إلى أوروبا. 

ستجيبنا تلك العجوز المتسولة التي توفي زوجها وغاب عنها ولدها المعيل في الخدمة، فتضطر وهي العجوز إلى سفح ماء وجهها وهي تسأل الكريم واللئيم كفاف يومها، وهذه ظاهرة غدت شائعة في البلاد في السنوات الأخيرة. 

ستجيبنا عيون تلك الشابة التي التقيتها في سجن تركي، بعد أن قُبض عليها في محاولة تهريب مخفقة، رأيتها وقد تكورت على نفسها من الخوف داخل الزنزانة، وحينما أخبرتها أنني إرتري كادت تبكي دموعاً ملؤها القهر. 

ستجيبنا صورة تلك الأم التي تضم صغيرها إلى صدرها، وهي تعبر به أمواج البحر في مغامرة لا تدري نهايتها، تاركة لنا ترف التأمل في معنى ما يسمونه الوطن. 

سيجيبنا الآباء والأمهات الذين يزوجون بناتهن مبكراً كجسر نجاة من خدمة العلم، التي تعاني آمنة فيها العمل الشاق في لهيب شمس الصحراء؛ عقوبة لأنها رفضت التجاوب مع التحرشات الجنسية للضابط المسؤول عنها. 

ستجيبنا تلك التي أكل الجوع والمرض وجور الأيام شبابها، فأحالها عجوزاً في الأربعين تصطف في طابور طويل للحصول على كرتونة أغذية متواضعة، تقيها وعائلتها مؤقتاً غوائل الجوع.. الضيف الملازم لأكواخ اللاجئين المتهالكة في شرقي السودان. 

ستجيبنا معتقلات الضمير وأستير يوهنس وسهام علي عبده وغيرهن من اللواتي يعتقلهن النظام الدنيء لمعاقبة أقاربهن الذين عارضوه أو انشقوا عنه. 

وأخيراً سيجيبنا الخبر الذي قرأته مرة عن انتحار بعض الفتيات هرباً من الالتحاق بخدمة العلم. 

وإذا استبعدنا المواد الدعائية التي يستخدمها الإعلام الحكومي، فكل هذه التفصيلات تشكل مجتمعة صورة لحال الوطن بمعنى واسع، ولحال المرأة البائس في ظل نظام أفلح في تحقيق المساواة بين الجنسين في التحطيم والتشويه الجسدي والنفسي. 

ومن السخف العجيب ما “تتحفنا” به بعض المؤسسات المعنية بشؤون المرأة من التركيز على منع ختان الإناث باعتباره انتهاكاً لأجسادهن، في حين أن المرأة نفسها مستباحة جسداً وروحاً حاضراً ومستقبلاً في إرتريا! 

اليوم وبعد أكثر من 20 عاماً من الزيارة ولجت فيها هيلاري الكونغرس، ثم وزارة الخارجية، ثم ارتقت أخيراً إلى المنافسة على رئاسة البلاد، لم يزد حال المرأة الإرترية إلا انحداراً، كتمثيل واضح لا لحال نصف المجتمع، بل لحال مجتمع كامل يعاني الاستبداد. 

ولا أريد المقارنة في النهاية بين تشيلسي والممرضة التي ظهرت في الفيديو، لكن الحقيقة أن مثل هذه الزيارة تدفعنا إلى التفكر حول المطلوب منا كمجتمع إرتري داخل البلاد وخارجها أولاً، ومن المؤسسات والمنظمات المعنية بالمرأة ثانياً، إزاء حالها المتردي، والتساؤل إن كانت المظاهر الاحتفالية وابتسامة كلينتون وإعلانها السعادة بالترحيب الدافئ، ثم رحيلها بعد دقائق، يمثل حقاً منتهى ما يستطيع كبار عالمنا التخفيف عنها به؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى