حامد الناظر : يكتب عن الدين والدولة في إريتريا واثيوبيا.
بقلم /حامد الناظر
هذا كتاب مهم في تقديري، وتكمن أهميته في أنه يفتح الضوء على مناطق معتمة في تاريخ الهضبة الحبشية وما حولها طوال الألف عام التي سبقت ميلاد المسيح والألف عام التي تلته كذلك، بدءًا من تحرير مدلولات الاسماء التي اتخذتها المنطقة الواسعة التي تبدأ من أدنى بلاد النوبة في شمال السودان وحتى المحيط الهندي وبحر العرب، مثل أثيوبيا، الحبشة، بلاد بونت، أرض البخور.. إلخ.. وليس انتهاء بمزاعم الدماء السليمانية التي تضمنتها سرديات ملوك أكسوم Axum وملوك شوا على مدى القرون السابقة.
لم تكن أكسوم سوى دولة مدينة، على غرار دول المدن في العالم القديم، هكذا يخلص الكاتب، وتمركزت في مدينة أكسوم في تجراي، وحمل ملوكها الأوائل ألقابًا يونانية وكتبوا مسلاتهم بالإغريقية، هل كان تقليدًا أم كانوا بطالمة انتقلوا إليها من عدولية البطلمية (عدوليس)؟ والاستفهام من عندي، أما الكاتب فيميل إلى أنهم سبئيون نزحوا من جنوب الجزيرة العربية في أواسط الألف الأخيرة ق. م وانتقلت إليهم السلطة بعد اضمحلال مملكة دعمت التي قامت في (مطرا) وما حولها خلال أكثر من عشرة قرون سبقت نشوء أكسوم.
أما ما حققته أكسوم من شهرة فكان بفضل أشهر ملكيْن تعاقبا على حكمها في فترات مختلفة (عيزانا- كالب) اللذين غزيا مناطق واسعة وصلت حدود مملكة مروي غربًا وظفار (حمير) شرقًا وأرض سيداما جنوبا، لكنها كانت حملات مؤقتة، دمرت حكم مروي والحمريين لكنها لم تستطع الاحتفاظ بنفوذها وبسلطتها في تلك المناطق الشاسعة لفترات طويلة على الرغم من ادعاءات عيزانا وكالب حول الشعوب التي خضعت لحكمهما، وسرعان ما عادت لتنكفيء على نفسها وينزح ملوكها ناحية (كعبر) حتى قضت عليها الملكة يوديت الحموية وهجمات الزنافج البجا من الشمال في القرن العاشر وحكم الأجو الذي استمر ثلاثة قرون من بعد أكسوم حتى مجيء (يوكون أملاك) في حوالي ١٢٧٠م ليحي من جديد ما وصف بإرث الأسرة السليمانية.
يسرد الكاتب (محمد عثمان علي دانيا) في هذا الكتاب الذي يقع في ٣٥٨ صفحة من القطع الكبير ونشرته دار النخبة في مصر ونهض على أكثر من ١٩٠ مرحعًا ودورية، يسرد نشوء مملكتي (دعمت) التي قامت في أجزاء من أراضي تجراي والمرتفعات الإرترية حوالي ٩٠٠ ق. م من قبل نزوح السبئيين إليها بعد الانهيار الأول لسد مأرب، و(عدولية) على ساحل البحر بعد الاحتلال البطلمي، وسبقتا أكسوم بقرون طويلة وكيف مهدتا لقيامها وانتقال مركز السلطة إليها في المنطقة ولم تكن خلال تلك القرون سوى محطة تجارية صغيرة، وبالتالي فإن سردية الدماء السليمانية (الأسرة الإسرائيلية) وتابوت العهد القديم ليست سوى محاولة من ملوك أكسوم المتأخرين لإضفاء القداسة الدينية على أصولهم والسلالات التي ينتمون إليها على عادة الملوك في تلك الفترة، على الرغم من أن مؤسسي أكسوم كانوا وثنيين، وأول من اعتنق المسيحية وفرضها على الدولة كان عيزانا، بعد نحو قرنين أو أكثر من نشوء أكسوم، وأشار الكاتب إلى الرهبان السوريين التسعة الذين لجأوا إلى أكسوم هربًا من بطش بيزنطة على وقع الخلافات المذهبية وبنوا الأديرة العظيمة في تجراي وكان لهم الفضل في ترجمة الإنجيل وكتب اللاهوت إلى الجئزية وما تزال مستخدمة إلى اليوم، ولولا دعم كنيسة الإسكندرية وإرسالها المطارنة المصريين لما يقرب من سبعة عشر قرنا إلى الكنيسة الأثيوبية وجهود هؤلاء الرهبان التسعة، والحرفيين والمعماريين القادمين من مصر وفلسطين وسوريا، لما ترسخت المسيحية في الحبشة على النحو القائم حاليًا.
من جانب آخر، يكشف الكتاب انحياز الكنيسة القبطية في الاسكندرية وكذلك المؤرخون الغربيون إلى الملوك الساميين المنحدرين من تجراي وأمهرا دون غيرهم من الأعراق الكوشية، سواء خلال فترة أكسوم أو شوا، وكيف أن كنيسة الاسكندرية رفضت ترسيم رؤساء مصريين للكنيسة الأثيوبية طوال فترة حكم (الأجو) الكوشيين التي امتدت لحوالي ثلاثة قرون، وشهدت بناء أعظم الكنائس والأديرة مثل كنيسة (لالبيلا) التي بناها الملك لالبيلا الأجوي ونحتها على الصخور، وهي الفترة التي انقطع فيها مجيء مطارنة أقباط مصريين للكنيسة الأثيوبية منذ تأسيسها في القرن الرابع وحتى العام ١٩٥٧، ولا يفسر هذا إلا بأنه موقف عنصري، فقط لأن الأجو قاوموا الاندماج الثقافي واللغوي الذي فرضته أكسوم عليهم، وتعرض تاريخهم للمحو والتدمير المتعمد لاحقًا، فضلًا عن الانحياز إلى تسمية (أثيوبيا) التي اتخذها ملوك شوا وتعميمها على المنطقة، على الرغم من أن التسمية أطلقها هوميروس وهيرودوت على المنطقة الواقعة إجمالا جنوب مصر (النوبة الحالية) ولم تطلق على أثيوبيا الحالية على التخصيص.
يتناول الكاتب في الصفحات الأخيرة من الكتاب، وباستعراض موجز ممالك البجا قبل وبعد الإسلام، ويستعرض شهادات بعض الرحالة العرب والمؤرخين في القرن العاشر حول الممالك البجاوية الخمسة التي نشأت في المنطقة الواقعة في الصحراء الشرقية لنهر النيل وحتى تخوم الهضبة الحبشية إلا أنه يقع في خلط غير مفهوم بشأن سكان هذه الممالك واللغات التي يتحدثونها وتفسير طبيعة الهجرات التي شهدتها وامتزاجها بالسكان المحليين وانتقال مراكز الحكم، فضلًا عن تعرضه للجدل حول تحديد موقع ميناء باضع التاريخي ضمن استعراضه لبعض الموانيء والجزر في المنطقة، ويميل إلى إنه ميناء مصوع الحالي.
(يقول اليعقوبي : إن بين سواكن وعيذاب ميناء سنجولة وهي جزيرة، والمسافة بين سنجولة وباضع إبحار يومين وإذا واصلنا الرحله نصل الي دهلك بعد أربعة ايّام) إذن فالمسافة بين دهلك وباضع أربعة ايّام وهذه مدة طويلة لقطع المسافة بين مصوع ودهلك التي لإتتجاوز ٣٠ ميلا!! وهذا يبين أن باضع ليست هي مصوع الحالية. ويقول اليعقوبي (باضع تقع علي مسيرة يوم من دلتا بركة) وهذه المسافة تقارب المسافة بين دلتا بركة وعقيق وجزيرة عيري ، إذ إن مصوع بعيدة من مصب خور بركة! وقد أشار ابن حوقل (باضع هي ميناء بركة وان بركة تقارب جزيرة باضع وبينهما يوم وتكون ثلاث مراحل، ووادي بركة يجري من بلد الحبشة يجتاز بازين آخذا الي ناحية البجا ويصب بين سواكن وباضع في بحر المالح) وما تقدم هو رأي الباحث عبده همد حول موقع ميناء باضع أوردته هنا للفائدة، ويقول إنها ميناء عقيق وليس مصوع بناء على رأي كروفورت الذي وجد أطلال ميناء قديم في عقيق واعتمد بدوره على وصف اليعقوبي. ويقول ابن قلاقس الاسكندري ١١٣٧-١١٧٢ م:
فنقا مشاتيري فصهريجي دسا// فخراب باضع وهي كالمعمورة
(ومشاتيري موضع قبالة جزيرة عيري أو جزيرة الريح.)
على أي حال، لا يمكن تلخيص هذا الكتاب في هذه الانطباعات السريعة، إلا أنه وثيقة مهمة، وكتب بلغة علمية رصينة وواضحة ربطت بين المصادر والآراء المختلفة ربطًا محكمًا، أوصلت إلينا معظم الأفكار التي أراد الكاتب إيصالها بصورة تخلو من اللبس أو التشويش، ووضعت المنطقة في دائرة الاهتمام التي تستحقها على الرغم من أنها ظلت على هامش اهتمامات المؤرخين التي انصبت على الصراع بين الامبراطوريات الكبرى، البيزنطية والفارسية الساسانية والرومانية والإسلامية وغيرها حول البحر الأحمر وباب المندب وطرق التجارة طوال قرون.