مقالات

مرحباً بك في رواندا!

بقلم عبدالقادر محمد علي

     بهدوء كان بوريس جالساً في مقعده على الطائرة المتجهة إلى رواندا. ناظراً من خلال النافذة بدأ في تذكر اجتماع الحكومة لمناقشة صفقة ترحيل طالبي اللجوء من بريطانيا إلى رواندا، حيث ينتظرون هناك حتى اتخاذ القرار في كل “حالة”، إما بالموافقة وإما بالرفض.

 تملكت السعادة بوريس مع بلوغ الاجتماع نهايته، الآن يحق له أن يتوقع دعم القطاع الأعرض من اليمين المتطرف في الانتخابات القادمة. في ذلك المساء كان فخوراً في حفل استقبال بسماع ثناء الضيوف على “خطته الذكية!”

   “إنها رحلة لم أتخيل قط أنني سأكون ضمن ركابها!” قال بوريس في نفسه. “كيف لي أن أخمن، في تلك الأيام البعيدة، أن يتحول اليمين المتطرف إلى التيار السائد في البلاد، ويفوز في الانتخابات، ثم يغير الكثير من القوانين بشكل جذري.. آه كيف لي!؟”

 يتذكر بوريس الدهشة التي أصابته عندما علم أن حزب “أبناء إنجلترا” قد أعاد صياغة قانون الجنسية مستفيداً من الحكومة التي شكلها وأغلبيته في البرلمان، حيث أصبح الاعتراف بقانونية الجنسية البريطانية معتمداً على الصفاء العرقي فقط، وهكذا فمن الواجب على أي مواطن أن يثبت أن جده الأكبر كان إنجليزياً للسماح له بالاحتفاظ بجنسيته.

 أي أيام مروعة تلك كانت لبوريس حين قامت الحكومة بأثر رجعي بتجريده من جنسيته البريطانية لكونه من سلالة تركية! أشبع جده التركي شتماً واعترض على القرار، فاتخذت وزارة الداخلية الإجراء المناسب وفقاً “لخطته الذكية”،  وها هو الآن بوريس جونسون، رئيس وزراء المملكة المتحدة الأسبق، في طريقه إلى مخيم اللاجئين في غرب رواندا، بانتظار مراجعة ملفه.. “من كان يتوقع ذلك؟!” قالها لنفسه بحزن.

رائحة نفاذة كريهة هي كل ما شعر به بمجرد دخول غرفته في المخيم. كانت الغرفة ضيقة، وبها سريران معدنيان، والفراشان المهترئان  تغطيهما ملاءات يبدو أنها كانت ملونة بتقاطعات زرقاء وحمراء يوماً ما. كان قادراً على تمييز شعار الحكومة البريطانية على حافاتها، فابتسم بمرارة من السخرية التي يمكن للأيام أن تصنعها!

 كان زميله في الغرفة، جون، جالساً يدخن على حافة أحد السريرين، وفجأة خاطبه قائلاً: “القاعدة الأولى يا بوريس؛ لا توجد “سمكة كبيرة” هنا”. 

تمتم بوريس متذمراً من عدد المرات التي أُسمع فيها هذه القاعدة اليوم، ثم رفع صوته هدوء: “لقد تم إخباري بهذه المعلومة القيمة في مدخل المخيم!”. على كل حال يبدو أن هذا لم يكن كافياً لجون الذي بدأ مرة أخرى “أتعلم يا بوريس.. أنت تذكرني بأسطورة قرأتها في لندن. لا ترفع حاجبيك هكذا! فقراراتك هي التي جلبتني إلى هذا المكان البائس. المهم.. إنها أسطورة تيبتية، وقد قررت أن أحكيها لك!”.

 أراد بوريس التملص من “العرض” قائلاً “جميل حقاً.. لكنني متع” ، قاطعه جون “أعلم أنك متحمس لسماعها”، وبنظرة حادة في عيني بوريس أكمل ببطء: “لا تنس.. لا توجد “سمكة كبيرة” هنا!”. فهم بوريس وبابتسامة متكلفة قال “نعم بالطبع.. لا سمكة كبيرة”.

بدأ جون في الحكي مبتسماً بخبث “كان يا ما كان شخصية مهمة. فلنقل إنه كان ملكاً. كان متهوراً قصير النظر لا يتيصر بعواقب قراراته و”، لسبب ما لم يترح بوريس لهذه البداية فقاطعه ببرود “مفهوم.. ثم ماذا؟”.

“نعم نعم. بينما كان هذا الملك يأكل مع مستشاره العسل مع الأرز المنفوش، انحنيا من نافذة القصر وشاهدا الشارع في الأسفل. وفجأة سقطت قطرة من العسل على حافة النافذة. فسارع المستشار طالباً الإذن لمسحها فقال الملك “دعك منها. إنها ليست مشكلتنا!””. 

وتسلسلت الأحداث، وكلما أحجم أحد شخصيات الأسطورة عن فعل ما يجب عليه متبعاً قاعدة الملك “دعك منها.. إنها ليست مشكلتنا” ازدادت المشاكل تفاقماً حتى استحالت إلى حرب أهلية ضروس أطاحت بالملك نفسه!

     “أليست جميلة هذه القصة؟” قال جون قبل أن يضيف بصوت ذي معنى “أتمنى أن تكون قد أدركت مغزاها!”. أراد بوريس أن يقول “لا”، ولكن لتجنب التورط في أي معارك جانبية تظاهر بالفهم، واستباقاً لأي حكاية أخرى من شريكه في الغرفة سارع إلى القول: “بالطبع. ولكنني الآن أرغب في بعض الراحة فقد كان يومي مرهِقاً للغاية”. وما إن هز جون رأسه استلقى بوريس ماداً ساقيه.

مغمضاً عينيه وقبل أن ينام بدأ يتأمل.. لماذا أخبرني جون بهذه القصة. تدريجياً تبادرت إلى ذهنه فكرة.. أنه لو كانت الطبقة السياسية والمجتمع البريطاني قد تفاعلا بشكل مختلف مع اليمين العنصري من البداية؛ وأنه لو حاول السياسيون أن يعزلوا هذا التيار بدلاً من السعي وراء الحصول على الدعم من قواعده الشعبية، لو تم ذلك فربما.. ربما ما كان ليجلس مع جون في هذه الغرفة، وربما كان مستقبل كوكبنا أقل ظلمة دون أن تحكمه هذه الموجات المتزايدة من العنصرية والعنصرية المضادة التي تتزايد في كل جزء من عالم يرقص بجنون على حافة الهاوية!

الشعور بالندم بدأ ببطء يؤلم بوريس في منامه، تدريجياً كان الوجع يتزايد في صدره، وفجأة استيقظ صارخاً. العتمة المحيطة به كانت مماثلة تماماً للإظلام التام الذي يُحب دوماً أن يُغرق فيه غرفة نومه في لندن، بل شعر أنه فيها بالفعل  فصرخ بانشراح طاغٍ “الحمد لله! لقد كان مجرد كابوس!”. لكن كلمات جون المتذمرة “نم ودعني أنام.. وإلا!” أعادته إلى الواقع.. مرحباً بك في رواندا!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى