مقالات

هشيم الذاكرة…ترّقـي يطارد ويصطاد المعارضين الاثيوبيين ويلقي بجثثهم في الخرطوم

بقلم/ عمر جعفر السوري

    بعد فضيحة الصحافي أحمد طيفور التي أتت بنتائج نقيض ما كانت تشتهيه السلطات الاستعمارية الاثيوبية ومخلبها الدامي في العاصمة السودانية، الكولونيل ترّقي، ورغم مطاردته بضراوة للصحافيين والمثقفين السودانيين الذين يؤيدون الثورة الارترية ويقفون مع الشعب الارتري ويدينون الاحتلال الاثيوبي، ظهر لإثيوبيا تحدٍ آخر لم يكن في الحسبان أخذهم على حين غرة. تمثل هذا الخطر في تبرعم معارضة إثيوبية بدأت تنمو وتتشكل وجاءت طلائعها الى السودان. فقد وصلت أعداد منهم الى القلابات والقضارف ثم الخرطوم ومناطق أخرى من الحدود السودانية – الاثيوبية أو في مدن قريبة من الحدود هرباً من الظلم والقمع والتنكيل. غير أن وصول المعارض الإثيوبي البارز كَبَدي تسمًّا الى العاصمة السودانية اقلق الحكومة الإثيوبية فطلبت من ملحقها العسكري تركيز جهوده على محاصرة هذا الخطر الجديد المتنامي وازاحته عن الطريق. كان لكًّبدي نشاط ملحوظ في أوساط الإثيوبيين بمختلف انتماءاتهم القومية حيث حظي بالاحترام والتقدير والقبول في معظم الاحيان، كما أصبحت له صلات بالقوى السياسية السودانية والنقابات والمنظمات الجماهيرية والسفارات الأجنبية المعتمدة في البلاد الى جانب المنظمات الاممية. كان كبدي تسما وأعوانه نشيطين في مختلف الاتجاهات مما سلط الضوء على بشاعة النظام الامبراطوري وعلى معاناة الاثيوبيين في جميع انحاء البلاد.

    أقام ترقي شبكة واسعة من العملاء والعميلات والمخبرين والمخبرات كان عمودها الفقري المومسات وبنات الهوى. كان أركان تلك الشبكة مرتبطين بتلك العاهرات وبنات الليل المنتشرات في أماكن مخصوصة من العاصمة المثلثة ومعروفة أو في منتديات سرية بالقرب أو حول محطة الغالي في الديوم الشرقية وفي بعض شوارع حي العمارات فكانت بيوتهن مراكز لجمع المعلومات والتجنيد وكشف تحركات المعارضين، وقد شمل ذلك اثيوبيين وسودانيين وأجانب درجوا على ارتياد تلك الاوكار والاستمتاع باللذة المحرمة. في بعض الأحيان كانت الكاميرات حاضرة لأخذ صور اللحظات الحميمة واستعمال الصور في ابتزاز “أبطالها”.  

    كان المطلوب من ترّقي اختراق مجموعة تسمًّا وتصفيته جسديا مع بعض مساعديه الأكثر نشاطاً في أسرع وقت متاح. لم ترغب اثيوبيا في وجود معارضة خارجية فاعلة بعيدة عن قبضة يدها، لا سيما بعد أن قضت على انقلاب الشقيقين “قرماي ومنقستو نواي” الدامي في العام 1960، ثم التخلص فيما بعد مما كان يشكل خطراً داهماً وتهديداً للنظام وسمعة الامبراطور. كان هذا الخطر عماده قوى نظامية ارترية تتمثل في قوات الشرطة فقامت باغتيال تللا عقبيت، قائد الشرطة الارترية في مكتبه وبمسدس ذهبي أهداه له الامبراطور حينما هبطت طائرته في اسمرا عائداً من زيارة للبرازيل وجمايكا ليقمع الانقلاب ويسترد عرشه. صمم الإمبراطور على العودة الى بلاده، رغم نصائح حلفائه الأمريكان والأوربيين وخصوصا الألمان الذين رحبوا به ضيفا عزيزا مكرما عندهم. نصحوه بالبقاء بعيدا عن أديس أببا أو التريث حتى يستبين الأمر ظهر الغد. اختار الإمبراطور لعودته طريق السودان الذي كان يحكمه الفريق إبراهيم عبود و “صحبه الكرام”. كذلك كان لإرتريا موعد مع الحظ العاثر وسوء التدبير. إذ اتصل منقسمو نواي هاتفيا بالجنرال تلاّ عقبيت، مدير الشرطة الإرترية (وهي القوة العسكرية الوحيدة الضاربة في البلاد يومئذ) يطلب منه تأمين الحدود بين البلدين، إذ إن اللجنة العسكرية التي يرأسها قررت منح ارتريا استقلالها والاعتراف بذلك. ولكن الجنرال الإرتري أبى العرض وفضل استقبال الإمبراطور في اسمرا قادما من السودان وتسهيل عودته الى العرش. بعد وصوله اسمرا بأسبوع، اشتدت المعارك بين الانقلابين والموالين. أحبطت القوات الموالية للإمبراطور محاولة التغيير التي لقيت تعاطفا من بعض أفراد الأسرة الحاكمة المتنورين.

    تحقق هدف التصفية الجسدية سريعا إذ وجدت جثث كبدي تسما وأعوانه في الخلاء الواقع بين منطقة برّي والمطار. جاءت هذه الجريمة البشعة النكراء كرسالة دامية وجهها ترّقْي الى المعارضين الإثيوبيين بالدرجة الأولى، وبالدرجة الثانية الى الحكومة السودانية وأجهزة الأمن بأنه قادر على كل شيء بيدين نظيفتين ودون مستمسك يؤخذ عليه، وأنه سيفعل ما يشاء، فقد آن أوان العمل الجاد، وأنه سيضرب بيد من حديد؛ أما الرسالة الثانية فقد كانت موجهة الى الثورة الإرترية بان هذا ما سينتظر قياداتها وكوادرها كما سينال كذلك من عناصرها الناشطة، والرسالة الثالثة الى السياسيين والمثقفين السودانيين بان يد أثيوبيا طويلة وستلحق الأذى بكل من يحاول المس بها. 

    أتى رد الإرتريين سريعا ومباغتا فقد تركوا له رسائل مكتوبة في سيارته وبيته في أوقات مختلفة بعضها كانت تحتوي على طلقات رصاص أو قنابل يدوية. قالوا في رسائلهم إنهم قادرون على النيل منه في أي وقت وفي أي مكان، لكن حرصهم على أمن وسلامة البلد المضيف يمنعهم من المبادرة. فارعوى.


    أحدث مقتل كبدي تسما وأعوانه غليانا في الشارع السوداني وتذمرا لدى القوى السياسية المحافظة وسورة عند النخبة وثورة شملت القوى الوطنية واليسارية. ارتفعت الأصوات تطالب بوقف الملحق العسكري الإثيوبي عند حده والكشف عن الجناة وجر القتلة الى ساحات القضاء لينالوا عقابهم الرادع. بل ذهب البعض الى المطالبة بقطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين وإغلاق الحدود وتقديم العون السياسي والدبلوماسي والعسكري للمعارضة الإثيوبية وللثورة الارترية. بلغت حدة رد الفعل أوجها في جلسة صاخبة للجمعية التأسيسية (البرلمان) وقفت الحكومة أثناء تلك الجلسة موقفا لم تشهده حكومة من قبل. كانت عاجزة عن الرد ومسلوبة الإرادة، مهزوزة، لا تدري ما تقول. وحينما أرادت أن تدافع عن نفسها لم تجد غير دعوة وزير المالية ووزير الخارجية بالإنابة وقتذاك، إبراهيم المفتي، الى أول مؤتمر صحافي نادر يبثه التلفزيون السوداني بثا مباشرا. لبت القيادات الصحافية قاطبة الدعوة، ولم تترك الأمر لمحرريها. قرأ وزير الخارجية بيانا قصيرا يشير الى إجراءات ستتخذها الحكومة لحفظ الأمن في البلاد. ثم انهمرت مداخلات وأسئلة رؤساء تحرير الصحف بدءً من نقيب الصحافة حينئذ، بشير محمد سعيد، رئيس تحرير جريدة الأيام وأحد أصحابها. كان حظ إبراهيم المفتي عاثراً وموقفه في غاية السوء. فالرجل، كما عرفته، دمث الأخلاق، هادئ الطبع، يبتعد عن الصدام قدر المستطاع وعن الاضواء، فوضعته المقادير في موقف لا قبل له به وذلك لغياب وزير الخارجية الأصيل في زيارة خارجية. كان المفتي في ذلك المؤتمر الصحافي مثيرا للرثاء، يدعو الى الشفقة، والصحافيون يجلدونه جلد غرائب الإبل. كان السودان كله يشهد ذلك عبر أجهزة التلفاز في البيوت والمقاهي والنوادي والحدائق العامة.

.
    ردود الفعل على جريمة قتل المعارضين الإثيوبيين، ومن قبلها ردود الفعل على كتاب نُسب الى أحمد طيفور، ومن بعد ذلك محاكمة واعترافات الجاسوس الرفاعي -الذي جنده ترّقي -في المحكمة الكبرى التي رأسها القاضي عبد العزيز شدو وعملت الصحف على تغطيتها بإسهاب، ثم ادانته والحكم عليه بالسجن سنتين، عملت على وصم اثيوبيا بالدولة الفاشية المجرمة وسلطت الضوء على طبيعة نظام الامبراطور هيلي سيلاسي ففقد التعاطف الذي كان يلقاه من قبل باعتباره كبير أفريقيا وبطل الحرب على الفاشية الإيطالية، كما عملت على تقييد حركة الملحق العسكري الإثيوبي وزبانيته وعربدتهم الى حد ما، حتى مجيء انقلاب 25 مايو/أيار 1969 الذي قاده العقيد جعفر محمد نميري. هل يذكرنا ما حدث في تلك الأيام بممارسات شبيهة؟

.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى