مقالات

هل كان حمل التجراي وزن الريشة؟ بقلم / علي محمد محمود

2-Dec-2020

عدوليس

إثيوبيا دولة عريقة باسمها القديم الحبشة، او باسمها بعد منيلك اثيوبيا، ولا احد ينكر أن التجراي يمثلون جزءا من هذا التاريخ العريق، والأهم من ذلك هم بناة اثيوبيا الحديثة منذ 1991م حيث أصبحت دولة نموذجية في القرن الإفريقي، هذا دون إغفال مآخذ المعارضة الإثيوبية والمنظمات الحقوقية المحلية والدولية، بأن الدولة تحت قيادة التجراي منذ انتخابات 2005 تبنت نهجا سلطويا دكتاتوريا قمعيا، حيث تقلصت مساحة الحريات في التجمع والتعبير، وحظرت معظم منظمات المجتمع المدني، وامتلأت السجون بالمعارضين السياسيين والصحفيين، وتعرض العديد من الأبرياء للتعذيب الوحشي والنفي،ومارست سياسة الاحتواء لكل الأقاليم الإثيوبية عبر مظلتها السياسية الجبهة الديمقراطية الثورية للشعوب الإثيوبية “اهودق”، بل دفعها خيالها وطموحها أيضا لتطبيقها تجاه الصومال وارتريا تحت مبررات محاربة الارهاب، ومع عدد من دول الجوار الأخرى، بل وتجاوزتها الى المنظمات الإقليمية مثل لاتحاد الافريقي والايغاد. وتوسعت في حربها السياسية على إرتريا بأن أذاقتها الأمرين من خلال عزلها دوليا، وحصار شعبها اقتصاديا، ودفعه اضطرارا للجوء بأعداد هائلة.

أما مآخذ السياسيين والمفكرين على التجراي فإنها في رأيهم لم تبن نظاما راسخا، ولم تؤسس قيما مشتركة، ولم تعتمد منهجا تصالحيا توافقيا، ويعتقد المراقبون إن ما أغراها للاستمرار كل هذه السنين في هذا السلوك الجالب للعداوات، هو نظرة المجتمع الدولي لها كحليف موثوق عند الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الامريكية في حربها ضد الإرهاب، واستفادت الحكومة الإثيوبية بقيادة التجراي تحت هذا المبرر من الدعم الدولي السخي، وهو ما مكنها من بناء جهاز عسكري واستخباراتي ضخم، عمل على اخضاع جميع المعارضين والمنتقدين، وهذا أدى بدوره إلى إطالة حكمها غير الشفاف عبر الديمقراطية المنتقصة.
ولكن هناك سؤال ملح لماذا تبنت جبهة تحرير تجراي خوض معركة عسكرية ضد الحكومة الفدرالية بدلا من الاكتفاء بالمعركة القانونية والسياسية؟
يقول العقل افتراضا أن الحرب هي الخيار الأخير، وندخلها اضطرارا بعد أن نستنفذ الوسائل الأخرى، ونبذل الجهد لتلافيها ما أمكننا ذلك، لأن المنتصر فيها أيضا خاسر، فلا يمكن ان نتصور كسب الحرب الا على اشلاء بشر وتدمير حياة. يبرر المقربون من جبهة تحرير التجراي بأنها خاضت الحرب الأخيرة مضطرة، لأن ابي احمد لم يترك لها خيارا في ظل الحصار الخانق، والقرارات المتتالية التي تؤدي الى عزلها، بل تشويه تاريخها وإنهاء وجودها، من خلال المساءلات والمحاكمات تحت مبررات مختلفة، فحاولت إيقاف مسلسل الذبح البطيء، عبر خوض هذه الحرب، وهيأت نفسها للمعركة الفاصلة. ولكن الأسئلة المنطقية في ذهن المتابع لنتائج المعركة، لماذا انهارت جبهة تحرير التجراي بهذا الشكل المتسارع وهي من بدأ المعركة بتجريد الجيش الفدرالي، وهي في تاريخها القريب من خبر الحرب في فترة الثورة والدولة؟ ثم أين علاقاتها وتحالفاتها مع الأقاليم الأخرى التي تحققت لها الفدرالية الإثنية بكل امتيازاتها بفضل حكم التجراي، بعد طول حرمان عنها طوال حكم الأمهرا؟ وأين علاقتها مع الدول وكيف تخلت عنها بالكلية حتى بالرأي والنصيحة؟ أين علاقتها بالمنظمات الإقليمية والدولية، التي تعاملت معها سنين عددا؟ أين خبرتها بمعرفة الدولة الإثيوبية؟ مكامن قوتها وضعفها بحيث تقدر قوة الخصم؟ وأين تقديرها لذاتها من حيث المعنويات والتماسك الداخلي؟
ولعل تحليل د. ادريس جميل في مقاله المنشور في عربي 21 واقعي بأن جبهة تحرير تجراي بنت توقعاتها لكسب المعركة ـ 1/ على التدويل بدخول ارتريا المعركة 2/ وتوقع انتفاضة الأقاليم حسب الاحتقانات التي كانت قبل المعركة 3/توقع عدم تخلي المجتمع الدولي عن تجراي خشية انهيار الدول الاثيوبية ــ وأضيف من جانبي 4/ توقع تحييد وشل قدرات الجيش الفدرالي من خلال الاستيلاء على نصف قوته المتمركزة في المنطقة الشمالية بحيث يحدث له انهيار، وبالتالي يكون مزان القوة لصالح التجراي / الوعد بتلقي المدد من العتاد والمؤن من بعض الدول الإقليمية، وذلك عبر إشارات إيجابية سابقة كانت تصلهم قبل بدء المعركة، “لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ”َ ولكن لسان حال هذه الدول أثناء المعركة “إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَىٰ مَا لَا تَرَوْنَ ” 6/ توقع رفض إقليم العفر إغلاق الطريق المؤدي للتجراي بناء على رفضهم السابق محاصرة التجراي. ولكن من الواضح أن كل تلك التوقعات كانت سرابا.
أم كل هذا ناتج من استسهال قيادة الجبهة لما يبذل من دماء التجراويين في سبيل تحقيق هدف “تقاسم السلطة والافلات من المحاسبة وتأمين الحصانة لقيادة جبهة تحرير تجراي ” كما يقول هيلي ماريام ديسالين رئيس وزراء اثيوبيا السابق.
والسؤال لايزال قائما ما الذي جعل المعركة تحسم بهذه السرعة؟ هل دخول سلاح لم تتحسب له جبهة تحرير التجراي مثل ما يقال عن الطائرات المسيرة؟ أم أنه حدث تخذيل واختراق واضح من العدو ــ ابي احمد واسياس افورقي ــ داخل الصف وهما لا يعدمان الأدوات بحكم التداخل؟ أم أن جبهة التجراي آثرت الانسحاب لتُبْقي على شعبها من الفناء، وتحافظ على مدنها من التدمير؟ أم أنها كانت تنفخ وحملها ريش فانكشف الغطاء في أول لقاء؟. صحيح أن هذه ليست نهاية الحرب وإن كانت تشبه نهاية المعركة الأولى، فلا أتوقع أن يترك التجراي ابي احمد ولا اسياس افورقي لينعما بهذا الانتصار، ويمسحا برديهما يتحدثان في القنوات بكل غرور، فلعل ما بقي من قوة جبهة تحرير تجراي وهو بالتأكيد كثير، يمكن أن توظفه لإنهاء وجود الرئيسين أو أحدهما، وعندها ستخلط الأوراق، ولها من الأدوات داخل كل نظام ما يمكنها من القيام بذلك.
هل هناك إمكانية لمواصلة حرب العصابات؟ :
ممكن لجبهة التجراي العودة لحرب العصابات من أجل اجبار ابي احمد على التفاوض، وهذا أمر وارد ومنتهى أملها، وهو ما سيحدث في الغالب، ولكن لا يمكن ان نتوقع استمرارها في حرب العصابات، فلا يمكن ان تنجح ثورة، ولا معارضة غير مدعومة من قوى دولية كبيرة، فنحن لسنا في عهد السبعينيات والثمانينيات أيام الحرب الباردة، الا أن تكون جبهة تجراي على عقيدة الدواعش والقاعدة وهي عقيدة فردية وليست جماعية، بمعنى أن كل من ينتمي لهؤلاء هدفه ليس تحقيق العدالة والرخاء والامن الاجتماعي للمجتمعات، وإنما أن ينكأ الأمريكان، أو ينال في نفسه الشهادة ثم يدخل الجنة. لا يتوقع في ظل انحياز أمريكا وإسرائيل الواضح لخيارهم المفضل أبي أحمد، أن يدعموا التجراي الثورة بعد أن اسقطوها دولة، ولا يمكن ان تتجاوزهم دولة بما فيها الصين فتحاول دعم التجراي، فالموقف الأمريكي والإسرائيلي هو ما جعل طائرات الدرونز الإماراتية تشارك الى جانب ابي احمد دون إدانة، وهو نفس الموقف الذي كفف ايدي المصريين عن دعم التجراي.
عودا على بدء:
الإمكانيات الاقتصادية الكامنة في إثيوبيا، تكفي لجميع السكان لو أحسن استغلالها، وتمت إدارتها بصورة عادلة، والسلطة كانت ستنتظم ويقل انحرافها لو أصبحت تداولا ديمقراطيا شفافا. ماذا كان يضير التجراي لو أشركوا كل القوميات كل حسب ثقله السكاني؟ لماذا تم تقليص نصيب الصوماليين والعفر في السلطة وهم يقاربون في احصائياتهم السكانية التجراي؟ لماذا لم يقوموا بترسيم حدود القوميات كل هذه الفترة؟ ما ذا كان يضيرهم لو حاولوا تطبيق فدرالية وطنية بدل من الفدرالية الإثنية مادام هناك صعوبة تعريف القومية كما في الدستور الاثيوبي؟ وصعوبة وجود مقياس واحد فمثلا هناك 45 جماعة إثنية في الجنوب لا احد منها يشكل أغلبية لتنطبق عليه الفدرالية الاثنية، ولذا صنفوا على غير مثال (شعوب الجنوب) فالفدرالية الوطنية كانت مناسبة مادام النظام الانتخابي الذي تواضع عليه الجميع كان نظاما فرديا حسب الدستور؟ماذا كان يضير جبهة تحرير تجراي لو سايرت ابي احمد قليلا واشتركت معه في حزب الازدهار ثم قوضته من الداخل؟ وماذا كان يضيرها لو تقبلت الهزيمة وتركت ابي احمد يواجه القوميات الأخرى وعلى رأسها أهله الارمو؟.
الدرس المستفاد لمن أراد ان يتذكر :
1.نحن في ارتريا سلطة ومعارضة ونشطاء بحاجة الى الاستفادة من تجربة التجراي في السلطة، فهي تجربة ثرة ومفيدة فيها الكثير من الاشراقات، كما فيها الكثير من الإخفاقات، ولأنها قريبة منا نحتاج ان ندرسها بعناية. التجراي ردوا الجميل لإرتريا عندما وقفوا مع استقلالها، فالثورة الارترية كانت داعما أساسيا لجبهة تجراي في نسختيْها، كما أن الجبهة الشعبية لتحرير ارتريا هي من مكن زيناوي للاستيلاء على السلطة، واعانته لتثبيت اركان الدولة، حيث وضعت تحت إمرته عشرة آلاف مقاتل ارتري عند دخوله اديس ابابا.
2.من الواضح أن الذين عملت جبهة تجراي على احتوائهم يوما ما ردوا لها الصاع فقفوا ضدها عندما حانت الفرصة، مثل ما نراه في غالبية الأقاليم الإثيوبية، ودولتي الصومال وارتريا، وصمتت المنظمات الإقليمية التي دجنوها، وهكذا أصبحت جبهة التجراي لا بواكي لها.
3.صحيح أن الحكومة الإثيوبية بقيادة الجبهة الشعبية لتحرير تجراي استفزت ارتريا حتى جرتها للحرب عام 1998م ولكن بالمقابل ما ذا كان يضير ارتريا لو تجنبت الحرب وبحثت الحل بالسبل القانونية، وبخاصة في تلك الفترة التي كانت فيها علاقات إرتريا بأمريكا وإسرائيل مميزة؟
4.نتساءل لماذا كان كل هذا الحقد من التجراي تجاه الشعب الارتري الذي كان موجودا في إثيوبيا ابان حرب 98 حيث تم تشريده بطريقة مهينة وظالمة، الم يكن من الأوفق ان تحتفظ إثيوبيا بهؤلاء لتكسبهم ضد النظام، كما فعلت أخيرا، حيث استضافت المعارضة واللاجئين، ولكن في الوقت الضائع.
5.لماذا لم تدعم حكومة التجراي وهي في قمة السلطة المعارضة الإرترية بصورة فاعلة بحيث تصبح البديل المناسب في الوقت المناسب؟ أم أن فقدان البوصلة صاحبها منذ وقت مبكر؟ 6.لماذا لم يفكر التجراي بعقلية التكامل بدلا من عقلية الاحتواء بعد اتفاقية الجزائر، أم هو الغرور؟ بكثرة السكان، وسعة العلاقات؟ الم يسمعوا بالمثل “إن البعوضة تدمي مقلة الأسد”.
7.لماذا تدخلت ارتريا في الحرب الأخيرة وهي حرب داخلية، الم تستوعب بأن التجراي أقرب جيراننا نسبا وتواصلا، وإن هذه الحرب ستجدد العداوات وستترك مرارات للأجيال القادمة بعد ان كاد الجرح السابق يندمل بالتقادم.
حِكَم لا يجهلها أحد:
1.يمكنك ان تستحمر الشعب لفترة، ولكن لا يمكن ان تستغفله للأبد وهو ما حدث للتجراي ويتوقع ان يحدث للجبهة الشعبية في ارتريا.2.الدكتاتورية والطغيان سرطان قديم وجد مع السلطة، وخطورته بعد ان يقضي على الأعداء الاباعد، يبدأ في قضم من رفعوه على الاكتاف، وهي حالة اسياس افورقي مع اقرانه الذين استعان بهم في القضاء على المناوئين له، ثم رجع إليهم ليلقنهم درس الثور الأبيض.
3.هناك المشفقون على سيادة ارتريا خوفا عليها من الخارج، ولكن لا خوف على سيادتها قانونيا وقد أصبحت دولة في مصاف الدول في الأمم المتحدة، ولا خوف عليها من بيع اسياس لها فهذا لا اتوقعه فهو منافح عن سيادتها، وإن كنا لا ننفي عنه تدمير مستقبلها عبر تشريد أبنائها ووضعها في ذيل القائمة دوليا بسبب تعطيل التنمية وادمان الحروب، إنما الخوف على سيادتها إذا فشلنا في صياغة المشروع الوطني، والنظام السياسي العادل للدولة، وقصرنا في وضع معايير المشاركة الواسعة. الخوف على سيادتها من شعبها وسياسييها ومثقفيها، عندما لا يتحمل بعضهم بعضا، وعندما يتجاهل خطأه، ويرى خطأ أخيه جبلا، وعندما يرى كل واحد منهم أنه الوطني الوحيد، أو أن امتداده خارج الحدود أهم من لحمته الوطنية، هذه الثغرة في رأيي هي التي يمكن ان ينفذ منها الساعي للقضاء على السيادة الارترية. حفظ الله وطننا وشعبنا ومنحه العز والاستقرار في ارضه.
1 ديسمبر 2020م

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى