مقالات

أصداء الإستقلال وذكريات التحرير … ( 120 ساعة قبل الفجر ) بقلم/ خالد محمد طه *

23-May-2017

عدوليس ـ نقلا عن إرشيف صحيفة إريتريا الحديثة الحكومية

الشهداء يضيئون كالشمس ، كان من الطبيعي أن أبتدر مساهمتي بهذه الجملة ، الأمانه ، وأن اسجل حروف عرفان لشهدائنا ، ونحن نحتفل بذكرى الاستقلال الذي أرسى الشهداء قاعدته حجرا فوق حجر ، وعمدوه بدمائهم قطرةً تلو قطرة ، فالتحية لهم . في الأسطر التالية أتناول ذكريات التحرير من زاوية سرد وقائع المعركة الفاصلة 19 – 24 مايو 1991م ، وسبب إختيار زاوية التناول هذه ، مقصود بها إكبار بطولات اؤلائك الشباب الذين بذلوا أرواحهم وهم غاب قوسين أو ادنى من نهاية المطاف . وللرد على الأصوات التي دفعتها مصالحها لأن تصور دخول الجيش الشعبي لتحرير ارتريا على أنه كان محض ( إستسلام ثم تسلم ) ومنهم من يرى أن تحرير ارتريا كان رهين بتدخل قوى أو دوائر أجنبية . وأتت هذه الكتابة لتأكيد أن الإرادة وحدها كانت عمادنا في كل المراحل ، فدخول اسمرا وإن كان حلم كل إرتري وطني ، إلا أنه لم يكن مفاجئا لنا .. لأننا وببساطة أكثر من يعلم كيف حققنا هذا الانتصار .. وأكثر من يشعر بحجم التضحيات التي قدمت من أجل هذا البلد الواعد . في مثل هذه الايام بالذات قبل ثلاث عشرة سنه بدأ العد التنازلي لما كان يعرف بـ ( الجيش الثوري الثاني )ذلك الجيش الذي ضم 127 ألف جندي موفر لهم كامل التجهيزات العسكرية وخدمات الإمداد والتموين والنقل والرعاية الطبية ، وتساندهم أعداد

مماثلة من المليشيات والقوات النظامية الاخرى ، بجانب قوات الإسناد الاخرى من طيران ومدرعات ومدفعية وهندسة وبحرية ، كل هذه المعطيات جعلت حكام إثيوبيا يعتبرون – الجيش الثوري الثاني – العمود الفقري للقوات الإثيوبية التي كانت تحارب في أكثر من جبهة في ذلك الوقت . الشاهد ان هذا الجيش تحول إلى فلول لا رابط لها ، وطارت قياداته إلى منافي بعيده بفضل المروحيات التي اُعدت مسبقا لهذا الغرض ، في زمن قياسي بلغ 120 ساعة فقط ، هي الخمسة ايام الاخيرة من عمر ( الجيش الثوري الثاني ) والليالي الخمس الاخيرة التي سبقت بزوغ الفجر الإرتري .. وهي تضم أحداثا كثيرة قطعا .. لكننا سنقصر سردناعلى وقائع المعركة الحاسمة دون الخوض في التفاصيل . اليوم الاول ، الاحد 19 مايو 1991 : شن الجيش الشعبي لتحرير إرتريا هجوما مباغتا ومكثفا على المحور الأيمن لجبهة دقمحري ، الممتد من منخفض ( عكرور ) وجبل ( سسب ) شمالي مدينة ( سقنيتي ) المحررة في ذلك الوقت ، وتتواصل متاريس الجيش الشعبي تاركة بلدة ( أفا لبا ) خلفها حتى رأبية ( حرت إندأ دقو ) وصولا إلى ( عدي هِرم ) مرورا ببلدة ( قُرع ) إلى ( ماي عداقة ) ثم ( وطوح ) و ( كِلي عوتا ) لتنتهي تلك المتاريس في منطقة ( معيا ) لترسم شكل قوس دفاعي يحمي مديمة دقمحري والطرق المؤدية الى مدينة ( مندفرا ). بدأ الهجوم على طول هذا المحور في وقت واحد ، بعد أن تسللت طلائع الجيش الشعبي وأمضت ليلتها جوار متاريس العدو ، وكانت مهمتها إلقاء قنابل يدوية في تمام الساعة العاشرة صباحا ، لتمير نقاط الحراسة المتقدمة ، وكانت هذه الخطوة هي ساعة الصفر بالنسبة لبقية وحدات الجيش الشعبي . وقامت وحدات المدفعية بدك تحصينات العدو مع تنفيذ المشاة لخطة الإقتحام الجريئة وتخطت حقول الالغام بإقل خسائر ممكنة ، ولأن هذا الإقتحام تم بعد دراسة متأنية ودقيقة ،جاء التنفيذ بسرعة وفي وقت وجيز ، وأسهم إختيار التةقيت في تحقيق عنصر المفاجأة . وإستمرت المعركة في ضراوة متزايدة بعد أن إستعاد العدو ترتيب صفوفه ودعم نيرانه بأسلحة إسناد جوي وبري ، لكن مع غروب شمس ذلك اليوم المشهود إخذت قوات العدو في التراجع الذي إستمر طوال الليل . اليوم الثاني ، الاثنين 20 مايو 1991م : اضطر العدو إلى تحريك قوات إسعاف من ( جبهة قندع ) التي كانت إحدى جبهاته الاساسية بعد سقوط مدينة مصوع في يد الجيش الشعبي في فبراير 1990م ، كما حرك قوات اخرى من ( مندفرا ) وضواحيها ، وزج ايضا بوحدات الإحتياطي التي كانت مرابطة في أسمرا في اتون المعركة الاّخذة في الإستعار ، لكن وقبل أن تأخذ قوات الإسعاف مواقعها في خارطة الميدان فؤجئت بهجوم كاسح من قبل الجيش الشعبي في الخامسة من صباح الاثنين وأضحت قوات الإسعاف في حاجة إلى إسعاف ! . ففي قطاع ( قُرع وعدي هِرم ) سُحقت قوات العدو تماما في منطقة ( أرار ) ،ودحرت القوات الإثيوبية القطاع الايمن بين ( دقمحري ) و ( أفا لبا ) وحُوصرت في مضيق ( مظالو ) وبذا تمكنت قواتنا من مواصلة تقدمها وربط وحداتها على جميع المحاور المكونة لجبهة دقمحري ، ومضت ليلة اخرى اكثر توهجا ، بدأت بمساء دامي ، وإنتهت بمحاولة هجوم مضاد صباحي ! . اليوم الثالث ، الثلاثاء 21 مايو 1991 : في الساعة 5:45 صباحا إشتدت كثافة النيران التي ردت عليها مدفعيتنا بكثافة أكبر مكنت قواتنا من التقدم قبل أن يبدأ العدو هجوما مضاد ، معم بعشرون دبابة ، تصدى لها مقاتلينا بمضادات دروع محمولة ، في منطقة سهول ( حِمس ) وبعد بلاء مضني سيطرت قواتنا على الموقع قبل الاخير الذي يحمي مدينة دقمحري . ثم تواصل الإشتباك نقطة بعد الخرى حتى تمت السيطرة على اخر مواقع الحماية للمدينة التي كانت مفرا للقيادة الجنوبية للجيش الثوري الثاني ، وبقليل من التقدم أصبحت دقمحري تحت مرمى نيران الجيش الشعبي ، بعد ان استولى مقاتلينا على منطقة ( تخول ) وتلال ( صوقارو ) حينها بدأت قوات العدو في إخلاء المدينه . هكذا تم تحرير مدينة دقمحري في الحادية عشر من صباح الثلاثاء 21 مايو 1991م . وانتهى ذلك النهار وقد تحول العقيد / منغستو هيلي ماريام من رئيس دولة إلى لأجئ لم يسنقر المقام بعد بطائرته الرئاسية التي طاف بها أجواء اثيوبيا – في السابق – داعيا للحرب ومحطما لزجاجات الدم ليلهب حماسة جيشه البائس . ( سنواصل ) مضى ذلك النهار وقد اخذت قطع البحرية الاثيوبية تمخر عباب البحر الاحمر متجهة الى ميناء عصب ، بعد أن قامت بإخلاء كامل جزر ارخابيل دهلك ، في خطوة اولى من حلقات الهروب الذي رمى بهم إلى مرأفئ جيبوتي واليمن في يوم 26 مايو بعد أن إنفرط عقد قوات مشاة البحرية في معارك تحرير عصب وضواحيها ( وهي ملاحم بطولية اخرى لم يتم تناولها في هذا السرد ) . اليوم الرابع ، الاربعاء 22 مايو 1991م : واصل أفراد الجيش الاثيوبي في التداعي والإنهيار ، وفقدان البوصلة ، بعد أن قامت قواتنا التي كانت مرابطة في جبهة ( عدي روسو) بمهاجمة قوات العدو وأرغمتها على الإنسحاب الغير منظم ناحية مرتفعات ( بيزين ) في الطريق المؤدي إلى اسمرا ، وبهذه الخطوة إنهارت جبهة قندع ، وتعددت وجهات الجيش المنهار ، فبينما أتجه جزء منه الى ( وقرتي ) وجبال ( إنقب) ، توجه جزء اخر صوب ( دامبا ، وعدي ارعدوم وعدي أحدروم ، وعدي حوشا ) على مشارف اسمرا ، واخذ جزء ثالث منهم وجهة مختلفة ناحية ( ترأإمني) اّملاً في الوصول لمندفرا ثم الإفلات صوب الحدود الإثيوبية . لكن ، قامت قواتنا بقطع طريق اسمرا / مندفرا في موقعين هامين هما ( شِكيتي ) و ( ترأ إمني ) وضربت حصارها على بلدة ( دباروبا ) الواقعة في منتصف المسافة بين اسمرا ومندفرا ، وكانت قد تجمعت بها أعداد من فلول جيش العدو ، وسدت الطريق المؤدي إلى بلدة ( حلحلي ) لزيادة إحكام الحصار . ثم في السادسة من مساء ذلك اليوم سيطرت على بلدة ( دباروا ، وأسرت من كان فيها من جتود العدو ، وفي العاشرة من ذات المساء سيطرت على بلدة ( ترأ إمني ) . اليوم الخامس ، الخميس 23 مايو 1991م : حاول من تبقى من جنرالات منغستو تنفيذ خطة تؤمن لهم وصول قواتهم للحدود الإثيوبية ، وشرعت القوات التي اُخرجت من ( ترأ إمني ) في السعي لمجرى نهر ( مرب ) ، لكن وبعد أن اُغلق الطريق أمامها اُجبرت على الرجوع الى مدينة ( عدي خوالا ) حيث أعلنت إستسلامها هناك – كانوا حوالي 20 ألف جندي بكامل عتادهم الحربي ، برفقة مئة ناقلة جنود وسبع دبابات – . أما القوات الإثيوبية التي كانت محاصرة بين ( حلحلي ) و ( ترأ إمني ) فقد حاولت فتح طريق لها بالقوة لكن تعامل أفراد الكمين الذي اُعد لها أجبرها على الإستسلام بعد أن خسرت دبابة القيادة ! . الساعات الاخيرة من يوم الخميس 23مايو 1991م شهدت هروب الجنرال / حسين أحمد قائد الجيش الثوري الثاني ( وهو ثاني هروب له أمام قوات الجيش الشعبي لتحرير إرتريا ، فقد كان الهروب الاول للجنرال في عام 1984م عندما كان قائدا لقيادة منطقة شمال شرق الساحل ) , اضطر الجيش الاثيوبي لإعلان قيادة بديلة وبدأت إذأعة اسمرا في بث أناشيد داعية للسلام ووقف الحرب !. تمكنت قواتنا من تمشيط سهول ( عالا ) ومرتفعات ( بيزين ) وجمعت فلول الجيش الثوري الثاني في منطقة ( ماي حبار ) وأصبحت دائرة الإقتراب من أسمرا تضيق ساعة بعد اخرى . الجمعة 24 مايو : قطعت إذأعة أسمرا بثها للأناشيد والمارشات العسكرية ، لتوجه نداء إلى قيادة ومقاتلي الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا ، ترجوا فيه السماح لمن تبقى من أفراد الجيش الثوري بالخروج من ارتريا بسلام ، وتعهدت في الاعلان بعدم التعرض او تسبيب ألاذى لأي شخص يصادفونه في طريقهم . في تمام العاشرة من صباح ذلك اليوم المنتظر ، وبينما كانت اسمرا تستقبل مقاتلي الجيش الشعبي لتحرير إرتريا بصخب رائع عبر عن رغبة هذا الشعب في الحرية والإنعتاق ، كانت طوابير الجيش الجيش الثوري المندحر تغادرها عبر بوابة اُخرى دون أن تعير إلتفاتا لرفاق لهم عجزوا عن السير ! . في هذه الاثناء كانت وحدات اخرى من الجيش الشعبي لتحرير إرتريا تخوض معارك ضارية في سهول دنكاليا ، تكللت بدخول ميناء عصب في يوم الأحد 26 مايو 1991م ، بينما دخلت وحدات اخرى من الجيش الشعبي لتحرير إرتريا العاصمة الإثيوبية أديس أبابا . هكذا تم تحرير إرتريا ، وعلى ارض الميدان .. ولايمكن أن ينكر ذلك إلا مكابر ، فاليتفق أو يختلف البعض حول كيفية إدارة واقع هذا البلد ، او الرؤية المستقبلية . لكن لايمكن أن يؤدي بنا ذلك إلي التشكيك في كيفية تحرير هذا البلد الذي ظل يقدم الشهداء حتى بعد الإستقلال.
( المقال المنشور في صحيفة ارتريا الحديثة عدد الاربعاء 19 مايو 2004 ).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى