مقالات

الإشارات والمؤشرات… !!. بقلم / فتحي عثمان.

23-Jun-2018

عدوليس ـ ملبورن

المتابع لخطابات افورقي ومقابلته التلفزيونية المطولة يستطيع تلمس نقاط قوة وضعف في إدائه التواصلي. لنبدأ بنقاط الضعف ثم ننتقل لنقاط القوى والتي ستحيلنا إلى آخر خطاب له يوم الأربعاء الماضي. أولا نقطة الضعف الأولى في كل مقابلاته هو عدم المامه بالاقتصاد وتعقيداته والأوضاع المالية العالمية؛ لذلك تجده قلما يتحدث بإسهاب حول الاقتصاد، وإن فعل فإن حديثه سيكون سطحيا ولا يخرج عن تناول آثار العولمة وارتباطها بسياسات القوى العظمى وذلك مرتبط بنقاط القوة في ادائه التواصلي. نقاط القوة وهي التي يسهب في تناول مواضيعها وبإسهاب ممل ومضجر هي : النظام العالمي وسياسات القوى والمؤامرات الدولية ضد الدول الضعيفة بما فيها ارتريا، والتاريخ السياسي لكل من ارتريا واثيوبيا: فعن الأخيرة يمتلك الرجل ذخيرة بحكم الدراسة فيها والقراءة والمتابعة والجمع الاستخباري الذي توفره له اجهزته الاستخباراتية المتعددة.

إدراكه لواقع ارتريا يمكنه من احكام السيطرة على مفاصل البلاد وبتنويعات سياسية مختلفة. أما معرفته بالنظام الدولي فهي نابعة اساسا من ثلاث مفكرين استراتيجيين امريكان وهم من رواد المدرسة الواقعية السياسية في السياسة الخارجية للولايات المتحدة، ومن الذين تركوا أثرا لا يمحى في سياسات الولايات المتحدة كدولة عظمى، وهم : هنري كسينجر، مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية في عهد الرئيس نيكسون، وصامويل هنتنغون الاستاذ السابق بجامعة هارفارد وصاحب كتاب صراع الحضارات واخيرا المؤلف الذي يستمد منه اسياس كل نظرته للولايات المتحدة وسياستها الخارجية وهو البروفيسور زبغنيو برزينسكي مستشار الأمن القوي السابق في عهد الرئيس جيمي كارتر والاستاذ في العلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز في واشنطن. لهذا الرجل كتاب صادر في عام 2011 تحت عنوان: رؤية استراتيجية : الولايات المتحدة وأزمة القوى العالمية، وهو كتاب يحدد ما على الولايات المتحدة عمله حتى العام 2025 في ظل متغيرات هي : بروز عالم متعدد الاقطاب وبروز الصين كلاعب دولي كبير وظهور قضايا تهم العالم بشكل مشترك: قضايا البيئة ، والتسلح والاقتصاد وما يترابط معه. لا يخفي افورقي اعجابه بالرجل أو بالكتاب، إذ أن الكتاب انجيل اسياس لفهم امريكا وسياستها العالمية ( انظر صورة الغلاف)،( في مرة تحدث عن هذا الكتاب في مقابلة كاملة لأكثر من نصف ساعة) والمعروف أن افورقي نهم في القراءة ( يرسل قوائم بالكتب التي صدرت حديثا لسفارتي ارتريا في واشنطن ولندن لتحضر له على جناح السرعة) ويحصل على آخر انتاج المطابع العالمية، وهذا ما يمنحه تميزا في محيطه شبه الأمي.
هذه المقدمة كان لا بد منها لأن الخطاب الأخير اشتمل على موضوعيه الاثيرين الأول النظام العالمي واخيرا اثيوبيا وسياساتها واخيرا تفجيره لقنبلة ارسال وفد إلى اديس ابابا.
عن الولايات المتحدة قال ( وهو موضوع يتناوله بحصافة وإدراك، وربما تلذذ): ” ان ثلاث إدارات امريكية متعاقبة ( إدارة كلنتون وبوش الابن وأوباما) الحقت خسائرا بالولايات المتحدة تقدر بتريليونات الدولارات خلال الخمس وعشرين سنة الماضية، وإن هذه الإدارة أدت إلى تراجع القوى التي تمتعت بها امريكا؛ وأن قدوم إدارة ترامب هو محصلة لذلك الفشل المتلاحق، وأنه من الصعب الحكم على أداء الادارة الحالية خلال عام ونصف من عملها وقال ولأول مرة ومنذ فترة طويلة ” سوف نظل نعمل مع شركائنا دونما تحفظات أو أحكام مسبقة بغرض مساعدة الإدارة الامريكية الحالية علي تصحيح اخطاء الماضي”.
أعتقد أن الرسالة واضحة خاصة للولايات المتحدة بعد عقدين من العداء العميق والذي تمخض في عامي 2009 و2011 عن فرض عقوبات أممية على اسمرا بدعم امريكي من إدارة الرئيس اوباما.بالانتقال إلى اثيوبيا أكد افورقي بأن الخطوة الاثيوبية الأخيرة والتي عبر عنها رئيس الوزراء الاثيوبي هي ( تعبير عن إرادة شعبية في اثيوبيا) ولكأن الإرادات الشعبية تحدث في كل دول الجوار إلا ارتريا. والإشارة هنا واضحة وهي أن (الوياني) كما يحلو له تسميتها الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي هي التي كانت تقمع الإرادة الشعبية في اثيوبيا؛ وأنها وجدت طريقها إلى الخروج. افورقي دائم الانتقاد لسياسات (وياني) في اثيوبيا ولا تخلو مقابلة له من انتقادات سياسيات الحكم القومي في اثيوبيا، والتي اشار إلى انها هي السبب في عدم الاستقرار في اثيوبيا. وهذه النقطة تمثل ايضا نقطة قوة نسبية يستمتع باستعراضها في كل خطاب ومقابلة.إذا نقاط القوى التي يحب الحديث عنها تجلت في الخطاب الأخير والذي اعلن فيه رغبته ارسال وفد إلى اديس ابابا في بادرة مفاجئة وغير متوقعة : فلماذا جاءت بهذا الشكل؟
متن ثان:
المتوقع في اوساط المتابعين والمراقبين كان هو الصمت وتجاهل المبادرة الاثيوبية أو التصريح بالقول بأن اسمرا ” تتابع ما يجري في اثيوبيا وسوف تقوم بالرد عليه في أوانه” لكن المفاجئ كان هو القفز عدة خطوات نحو الأمام بالقول بأن اسمرا سترسل وفدا إلى اديس ابابا.مصادر دبلوماسية عليمة وموثوقة وبعد خطاب افورقي أكدت بأن لقاءات ارترية اثيوبية تمت منذ فترة رئيس الوزراء السابق هيلي مريام ديسالن في نيروبي وعواصم اخرى. ارتريا اعتبرت اللقاءات “جس نبض” لرؤية ما يمكن التوصل اليه، ولكنها وبعد اندلاع اعمال العنف التي دفعت ديسالن إلى الاستقالة تراجعت وصرحت، حسب أحد المصادر الموثوقة بأن الرجل ” ذا مان كانوط ديليفر” أي أن الرجل لا يستطيع أن يقدم شيئا، لأن مراكز القوى التابعة للوياني لا تسمح له وهو ” شخص ضعيف”. وتوقفت محاولات جس النبض بقناعة ارتريا بأن الرجل في اديس لا يمسك بكل الخيوط ومن غير المجدي إضاعة الوقت معه.
الخطوة الثانية كانت اللقاءات مع رئيس الوزراء الجديد والتي تمت نتيجة ضغوط ونوايا حسنة وجولات دبلوماسية مكوكية معلنة وخفية ( آخرها زيارة دان ياماماتو إلى اسمرا واديس) هنا أدركت اسمرا بأنها تتعامل مع شخص مختلف في اديس ولكنها كانت في انتظار إشارة واضحة وحاسمة لأن الرجل فعلا يعيش معركة داخل بلاده وهي معركة اصلاح البيت من الداخل وهو الأمر الذي اقنع الوسيط الامريكي اسمرا بعدم عرقلته لأن خسارة أبي احمد خسارة لارتريا على المدى البعيد خاصة في ظل وجود صقور الوياني في مركز القرار الأمني والعسكري. الخطوة التي أراحت ارتريا وأثبتت لها بأن أبي احمد ليس هو ديسالن هي قيامه بهدم مراكز قوى الوياني وذلك بإقالة سامورا يونس ( مهندس العدائيات العسكرية ضد ارتريا) ورئيس جهاز الاستخبارات جيتاشو اسفها ( الذي يشرف على عمل الجهات المعارضة لارتريا في اثيوبيا). هذه الخطوة أكدت لأسمرا بأن الرجل جاد في مسعاه، وهو ما أكده الشركاء الذين اشار اليهم اسياس، وهناك لاعبين اقليميين كان لهما دورا فاعلا وهما القاهرة وابوظبي، وإن زيارة أبي الأخيرة للقاهرة كانت هي بمثابة فتح أخر باب موصد في اسمرا.
أخيرا:
توصلت اسمرا إلى قناعة بأن أبي احمد لا يشترك مع ” زمرة الوياني” في حقده على الشعبية وليس لديه رغبات انتقامية، وأن تفكيره يختلف عن الوياني. فحرب الحدود بين ارتريا واثيوبيا كانت حرب حياة أو موت بالنسبة لارتريا؛ بينما كانت بالنسبة لمن يعيش في اديس ابابا أو جنوب اثيوبيا عبارة عن ” حرب أو مجرد صراع حدود”، فبينما أججت حالة العداء بين الوياني والشعبية من حدة الصراع كان بالنسبة لباقي القوميات الاثيوبية صراع “يمكن حله” إذا توفرت النوايا الصادقة. وكان الأمر كذلك لأبي أحمد. وما دفع اسمرا للقفز إلى الامام هو ايمانها بأن ” ذا غيم إز أوفر” بالنسبة للوياني كما قال افورقي.
وهذا ما حدث: إذ أن أبي احمد يري، حسب تصريحاته المتوالية بأن هذا الصراع هو نزاع يمكن حله لأنه لا يملك “الحقد” التاريخي ضد ارتريا؛ إن جاز التعبير، وإن مساعدته على تغيير موازين السلطة وأركانها داخل اثيوبيا هو ما ترمي إليه اسمرا، ولربما تساعده عليه كما ساعدت من قبل ملس زيناوي على دخول اديس ابابا.
الاحتمالات القادمة تبقي في أرحام التفاعلات المنتظرة ولكن أسوأها هو ” أن يفقد أبي أحمد حياته نتيجة سياساته الحالية، وفي هذه الحالة لن ينقذه شركائه المقربون حتى لو كانوا في اسمرا.”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى