مقالات

القرن الافريقى: الى اين ؟ – الحلقة ( 3 ) : عمر جابر عمر .. ملبورن .. استراليا

23-May-2006

المركز

اثيوبيا :
اثيوبيا الحديثة قامت على التوسع على حساب جيرانها وضم الشعوب المستضعفة.لم تكن لها حدود ثابتة ومعروفة – بل كانت تتوقف عندما تجد مقاومة او تدخل خارجى كما حدث بالنسبة لارتريا بعد الاحتلال الايطالى.

كان ملوك الحبشة يستخدمون امراء الحرب والاقطاعيين فى الاقاليم الاخرى لتوسيع مملكتهم (رأس الولا) ولكن الهدف النهائى كان بسط سيطرة الاسرة الحاكمة وتحقيق هيمنة قومية (الامهرا).الامبراطور (هيلاسلاسى ) كان يحتفل فى شهر مايو بعيد التحرير (1941) عندما هزمت ايطاليا بدعم من بريطانيا , ونظام (منقستو) العسكرى كان يحتفل بعيد الثورة فى 12/9/1974 بعد سقوط (هيلى سلاسى ) والنظام الحالى يحتفل بسقوط (منقستو).ليس هناك عيد للاستقلال – والسبب : يقول الاثيوبيون انهم الشعب الافريقى الوحيد الذى لم يقع تحت الاستعمار ! ايطاليا احتلت اثيوبيا بين اعوام 1938-1933 تاريخ اثيوبيا ملىء بالاساطير والخرافات وكلها وضعت لتبرير حكم هذا الملك او ذاك والمسالة المركزية هى : الملوك والاباطرة تم اختيارهم من قبل السماء وبالتالى فان طاعتهم والولاء لهم مسالة جوهرية ومركزية فى تركيبة الدولة الاثيوبية.وفى قمة ذلك الهرم كانت قومية (الامهرا) هى التى تحكم وتفرض ثقافتها (لغة وممارسة ) وبقية القوميات (تقراى – ارومو – عفر- الخ ) مضهدة وتعامل كادوات لخدمة السادة الحكام.وعندما حاول شعب تقراى التمرد عام 1948 تم ضرب الاقليم بالطائرات وتم تدمير المدن وتشريد عشرات الالوف.الاستعلاء فى اثيوبيا كان منهجيا وجزءا من ثقافة وممارسة (الامهرا ) وكان الامبراطور (هيلاسلاسى) يستعين باوربا واخيرا امريكا لتوسيع مملكته واخضاع الشعوب المجاورة.ربما كان اللون الفاتح والتقاطيع الغير زنجية هى ما استند اليه الامهرا لتاكيد تميزهم وانهم لا يحسبون على الافريقيين السود.يحكى ان طلبة جامعة( اديس ابابا) قاموا فى عهد (هيلى سلاسى ) باضراب واعتصام طالبوا فيه بتحسين اوضاع السكن ومرافق الجامعة الاخرى.وعندما علم الامبراطور بذلك طلب استدعاء ممثلين عن الطلاب لمناقشتهم.وبدأ ا لطلاب يشرحون موقفهم ويضربون امثلة بجامعات افريقية فى اوغندا والسنغال وكيف انها توفر لطلابها خدمات ممتازة .وفى النهاية قال لهم الامبراطور :(من حقكم ان تطالبوا بما تريدون ولكن يؤسفنى انكم تقارنون اثيوبيا بهؤلاء العبيد !! الامبراطور وصل مرحلة اصبح معها لا يصدق بان هناك اثيوبى يتحرك دون امره وان هناك من يفكر فى الانقلاب عليه.عندما بدأ(منقستواهيلامريام) ومجموعته يستولون على السلطة خطوة خطوة اصاب الذعر الشديد حاشية الامبراطور وقالوا للامبراطور : يجب ان تتحرك وتوقف هذا الزحف.ولكن الامبراطور رد عليهم قائلا: انهم أبنائى يتحكرون بتوجيهاتى ! لم يكن فى عهد هيلاسلاسى مسموحا لاى وزير بالاستقالة – بل تتم اقالته!التعيين فى الوزارة منحة من الملك لا يمكن رفضها.التهميش والاقصاء كان شاملا حتى قومية الامهرا لم تكن كلها محظوظة – الا من كان من اصول اقطاعية او مقربة من القصر وحاشيته او امتلك ثروة او علما ومعرفة.ذلك ساعد على تكوين جبهة المعارضة لاحقا من القوميات المضهدة وانضم اليها المحرومون من قومية الامهرا.الامر اللافت للنظر هو ان المعارضة الاقليمية فى السودان لم تصل الى درجة المطالبة بالانفصال عن الوطن الكبير ,حتى فى الجنوب فان ذلك الشعار كان يرفع احيانا للتهديد والضغط على المركز اكثر مما كان يهدف الى تحقيق الانفصال بالفعل.ولكن فى اثيوبيا فان جبهة تقراى قامت اول ما قامت بهدف الانفصال ولكن تلك الدعوة لم تجد قبولا خارجيا ولم تكن قادرة على اقناع القوميات المحرومة الاخرى.وما تزال بعض المجموعات فى (ارومو) ترفع ذلك الشعار بين حين واخر ,رغم انهم (الارومو) الاكثر عددا ورغم ان (تقراى ) تاريخيا من المكونات الاساسية لما سمى اليوم باثيوبيا .ولكنه الاستعلاء والاقصاء والتهميش يدفع صاحبه الى خيارات قد لا تكون فى مصلحته فى نهاية المطاف. الامبراطور(هيلاسلاسى)فشل فى بناء دولة جامعة بل وفشل حتى فى بناء دولة حديثة للامهرا – لا دستور – لا تنمية – لا حرية صحافة – لا جيش حديث – لا موصلات … الخ. رغم ذلك كله كان يحاول خلق صورة اخرى فى الخارج – شارك فى الحرب الكورية عام 1950 وكان الجنود الاثيوبيون حفاة فتبرع لهم المارشال (تيتو) بأحذية وبعض الملابس.كانت العاصمة اديس ابابا عبارة عن قرية وباستثناء القصر الملكى وبعض الابنية المجاورة فقد كانت المدينة قذرة تنتشر فيها بيوت الصفيح ورغم ذلك كان الامبراطور (زعيما افريقيا) وعندما ياتى الروساء الافارقة الى اجتماعات القمة الافريقية كانت الحكومة تضع (سورا ) عازلا فى وسط المدينة حتى لا يشاهد الضيوف البؤس الذى يعيشه المواطنون فى الاحياء الفقيرة.بل ان الامبراطور (هيلاسلاسى ) اوحى لمعجبيه بانه موحى اليه من السماء الامر الذى جعل له اتباع ومؤيدين خارج اثيوبيا (جامايكا ) حيث توجد مجموعة (تفريانس) نسبة الى (تفرى) الاسم الاصلى للامبراطور هيلاسلاسى ومنهم المغنى المشهور (بوب مارلى ). وقد سبب ذلك ازعاجا كبيرا لدى (الفاتيكان ) حيث رأت الكنيسة الكاثوليكية ان فى ذلك النهج تهديدا لنفوذها فى امريكا اللاتينية . وكان ان طلبت من هيلاسلاسى الذهاب الى (جامايكا ) ويقابل الجمهور حتى يراه الناس ويقتنعون بانه بشر عادى وليس ممثل للاله.وبالفعل ذهب الامبراطور الى هناك وكانت صدفة غريبة ان هطلت امطار غزيرة فى البلاد يوم وصوله وكان الناس فى اشد الحاجة اليها والنتيجة ان ايمانهم ازداد بالاله الافريقى وقناعتهم تجذرت ببركاته! وبعد هيلى سلاسى جاء (منقستوا )الماركسى العسكرى الدكتاتورى. وبدلا عن اختيار السماء واساطير التاريخ كرس (منقستوا) حكما (ارضيا) يستند الى القوة والقمع واسالة الدماء.حاول ان يحدث منقستوا بعض التغييرات الشكلية – لاول مرة يجلس الى جانبه فى الاحتفالات الرسمية مفتى المسلمين الى يساره وراعى الكنيسة الى يمينه.ولاول مرة يصل ضابط من (ارومو) الى هيئة الاركان وكان معظم الجيش الاثيوبى مكونا من تلك القومية مع غياب تام فى الرتب العليا.ولكن منقستوا دخلا طرفا فى الحرب الباردة بين الشرق والغرب واصبح حليفا للاتحاد السوفيتى ثم ان سياسته كلها اصبحت (مبرمجة) على اساس الصراع فى ارتريا – كان يريد ان يحسم ذلك الصراع عسكريا وفشل المرة تلو الاخرى – ثم حينما بدأت جبهة تقراى نشاطها واستطاعت ان تحرر قسما كبيرا من اراضيها – انسحب الجيش الاثيوبى واعلن (منقستوا) ان تقراى اقليم بائس لا يستحق الدفاع عنه ولا توجد به غير اربعة طواحين !! الاستعلاء الاقطاعى – الارستقراطى – الامهرى تم استبداله بالاستعلاء الماركسى – العسكرى الدكتاتورى الفردى.وسقط (منقستوا ) ونظامه بسبب الثورة الارترية بالدرجة الاولى وبسبب الجبهة الاثيوبية التى ضمت قوى ناضلت من اجل حقوق القوميات المحرومة ومن اجل بناء اثيوبيا الجديدة.جاء النظام الحالى وبدأ يطبق ما تم اعلانه فى برنامجه وكانت اول خطوة هى الاعتراف بحق تقرير المصير للشعب الارترى والقبول بالاستفتاء الذى جرى عام 1993 ثم الاعتراف بالدولة الارترية المستقلة.وبدأ النظام الجديد فى بناء الدولة الاثيوبية المركزية من جهة وانتشال الاقاليم المهمشة والارتفاع بها الى مستوى يسمح لها بالاسهام فى بناء الدولة الجديدة.لهذا راينا مثلا ان اقليم(تقراى ) قد بدأ نهضة عمرانية وتنموية كبيرة جعلته مركز جذب للاستثمارات والعمالة.هذا الامر من منظار اخر كان سببا فى توجيه التهمة الى ابناء تقراى فى الحكم المركزى باعطاء اولوية لاقليمهم وبممارسة (استعلاء) من نوع جديد على الاخرين ! ولكن الدستور الاثيوبى الجديد يعطى الحكم الاقليمى – اللامركزى – لكل قومية وكان نصيب القوميات الاخرى مماثلا ولكن خصوصية كل اقليم تحدد مدى الاستفادة من الحق الدستورى.هناك قضايا عالقة لم يتم حسمها – داخليا وخارجيا.داخليا : 1/ جزء من موروثات الحقب الماضية والتى لم تجد الوقت الكافى لمناقشتها ولا الجهد المطلوب لمعالجتها.2/ والجزء الاخر هو نتاج لتطبيق الديموقراطية فى مرحلتها الجنينية , الخاسرون فى الانتخابات يرفضون النتائج بحجة التزوير والتلاعب واخرون يرون ان لعبة الديموقراطية تمارس بطريقة لا تمكنهم من الاحتفاظ بمواقعهم ومكاسبهم السابقة.3/ الصراع الاقليمى وما يؤدى اليه من تدخلات خارجية تهدد الاستقرار الداخلى – والانفجارات واعمال العنف التى تقع بين حين واخر دليل على ذلك.خارجيا : المشكلة الاولى هى مع ارتريا – ظاهرها ترسيم الحدود وتطبيق قرارات المحكمة الدولية ولكن جوهرها اعمق من ذلك بكثير. طبيعة النظامين وموروثات العلاقة فى مرحلة التحرير بل وما تم اختزانه فى الذاكرة الجمعية من حقب تاريخية سابقة هو ما يجعل ذلك الخلاف ياخذ طابعا شاملا – بمعنى انه يصبح بين شعبيين ومركز استقطاب لصراع اقليمى.النظام الاثيوبى يمر بمرحلة انتقالية هامة ستحدد الى درجة بعيدة مستقبل التعايش بين قوميات اثيوبيا المتعددة وطبيعة علاقة الدولة الاثيوبية مع جيرانها .وحدة الرؤية المركزية مع اختلاف الخصوصية واعطاء هامش لها هى البوصلة التى يجب ان توجه حركة النظام وتنظم علاقته مع مكونات المجتمع الاثيوبى .اللقاء المركزى والتفرد الاقليمى مع تثبيت النهج الديموقراطى كاسلوب للتعايش واداة لتداول السلطة.اثيوبيا تضم كنزا بشريا ( سبعين مليونا) متعدد الثقافات والاعراق والديانات وتتمتع بطبيعة جذابة وغنية وثروات تحت الارض وفوقها بحاجة الى استقرار وسلام وتنمية.وبدلا من الاحتراب التاريخى الذى طبع علاقتها مع السودان فى القرون الماضية بدأت الان مرحلة التعاون الاقتصادى والتكامل بين البلدين الامر الذى يبشر بمستقبل جديد لشعوب المنطقة.ومن المخاطر الاخرى التى تواجه النظام الجديد – دور امريكا والدول الغربية, خلال المراحل التاريخية المتعاقبة كان الغرب يرى فى اثيوبيا جزيرة مسيحية محاطة ببحر اسلامى – لذا كان يقف معها فى اى صراع اقليمى ويوكل الها دورا تلعبه فى المنطقة لمنع بروز تيارات معادية للغرب وسياسته ( الصومال – السودان – ارتريا ) ذلك هو الاختبار بين ان يكون النظام راس حربة لاطماع خارجية ومشاريع لا تصب فى مصلحة شعوب المنطقة بما فيها اثيوبيا وبين ان تصبح اثيوبيا جزءا من منظومة سياسيةواقتصادية لدول المنطقة تتعايش فيها شعوبها بسلام وتعاون .الحلقة القادمة : الصومال

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى