مقالات

المشروع الوطني وبناء الأمة في اريتريا بقلم / فتحي عثمان

1-Mar-2015

عدوليس ـ ملبورن ـ

في البداية أحب أن أؤكد بأن تجربة النضال الاريتري ليست إلا واحدة من عشرات التجارب الأفريقية المشابهة، وهي وإن كانت تتميز بخصائصها الذاتية لكنها تشترك مع رصيفاتها في السمات العامة. لهذا السبب فإن إغفال النظر في التجارب الأفريقية المشابهة يجعلنا نعيش في متاهة أزمة خصوصية وضعنا الراهن، وإعادة صنع العجلة. والتجربة الاريترية سارت على درب التجارب الأفريقية “واتبعت سنن الأولين حذو القذة بالقذة”، بل وبزت سابقاتها في الإتيان بالعجائب. ومن ضمن الأركان الأساسية التي نؤكد عليها هنا هي مسألة النظر إلى مواضيع التفاعل الارتري ضمن مفاهيم السلطة وعلاقات القوى والثروة، وأن أي أوهام خرقاء مثل الشريك الوطني، ومراعاة حقوقنا، والنظر إلى مظالمنا، دعاوى مخنثة سياسيا وصماء وعمياء عن طبيعة التفاعل السياسي وشروط وعلاقات السلطة والقوى.

ولندلل على ذلك سنقوم بتحليل مفهوم المشروع الوطني وبناء الأمة في التجارب الأفريقية ثم نتوقف عند تجربة اريتريا الخاصة. المشروع الوطني هو مشروع تتخذه حركة تحرر وطني من أجل استلام السلطة من القوى الاستعمارية السابقة لها ( بالنضال السلمي أو العنيف)؛ بغرض تحديد نظام سياسي واجتماعي لهذه الدولة القومية الوليدة. والحصول على السيادة على تراب وموارد وأجواء وبحار الوطن الجديد، والإمساك ب “الشرعية الدولية” ثم الشروع بعد بناء الوطن في المرحلة الثانية وهي مرحلة بناء الأمة. وبذلك تكون حركة التحرر الوطني قد اكتسبت الشرعية الثورية على المستوى الوطني، وحصلت على الاعتراف الدولي خارجيا. والمشروع الوطني هو أهم ركائز الحصول على الشرعية الثورية: أي أن أي حركة ثورية بلا مشروع وطني لا تعتبر ذات شرعية ثورية. هدف المشروع القومي وغايته هو بناء دولة قومية تتحول فيها قبائل الفولاني النيجيرية، وقبائل الماندنغو السنغالية والماساي الكينية والأمهرا الإثيوبية، والهوية الصومالية إلى مواطنين في دولهم القومية، أي تحويلهم من مجرد أعضاء في قبائل إلى مواطنين في دول؛ بمعنى تغيير الولاء من القبيلة إلى الدولة تمهيدا للانتقال إلى مرحلة بناء الأمة.هذه طبيعة المشروع الوطني الذي يحتذي نمط الدولة القومية الأوروبية حتى يصل إلى بناء الأمة. وهو المشروع الذي بدأ على المستوى الأفريقي في ساحل الذهب (غانا) على يد كوامي نكروما، وفي غينيا على يد ( أحمدو سيكو توريه)، وفي انغولا على يد ( أوغستينو نيتو) وفي كينيا على يد( جومو كينياتا) وفي مصر على يد ( عبد الناصر) والقائمة يمكن أن تطول لتضم كل رموز حركة التحرر الوطني الأفريقي. يتميز هذا المشروع الوطني بالإضافة إلى وجود قائد وطني وكاريزمي، بوجود حركة ثورية تتحول إلى حزب يستلم السلطة الموروثة من الاستعمار ويعتمد على شرعيته الثورية من أجل أولا كسب الإجماع الوطني واعتماد هذا الإجماع ثانيا كبطاقة تمثيل أمام القوى الاستعمارية ( حركة رينامو/ المؤتمر الوطني الأفريقي، أزانو…. الخ) ويكون الحزب الوطني هو المركبة الحاملة للأهداف القومية ويرتكز أساسا على ” الهوية الوطنية”، والهوية الوطنية هي التي تميز مجموعة من الناس في بقعة حددتها القوى الاستعمارية يجمعها المصير والطموح المشتركين ومحددات أخرى وتسعي إلى تكوين دولة قومية في المرحلة الأولي وبناء أمة في المرحلة الثانية. وتكون لهذه الأمة أرض وشعب وحكومة وهي الشروط القانونية للحصول على دولة يمكن الاعتراف بها دوليا. ويشمل المشروع القومي إضافة إلى الشرط القانوني والسياسي والاجتماعي الشرط الثقافي؛ وهو أن الثقافة الواحدة والتي تميزها لغة واحدة هي الإطار الذي يحدد ” الهوية الوطنية”؛ ( الأمهرية/ إثيوبيا)؛ ضمن هذا الفهم فإن المشروع الوطني الأمثل هو الذي يتحقق في رقعة جغرافية تسكنها اثنية واحدة ذات لغة واحدة ( الصومال)، وبالطبع لا يتسنى الحصول على هذين الشرطين الذهبيين،خاصة وإن جراثيم التسوس القبلي جاهزة لقضم قاعدة البناء الوطني المأمول. حاول الرواد من الزعماء الأفارقة التعامل مع هذه الإشكاليات والتي أسموها تحديات بناء الدولة والأمة في افريقيا. ومن أبرز هؤلاء كينياتا في كينيا ونيريري في تنزانيا. وبينما حاول بعضهم التعايش مع واقع التعدد الإثني والثقافي والاقتصادي في بلدانهم حاول البعض تغليب إثنية على أخرى ( التوتسي/ الهوتو في رواندا) والشماليون/ الجنوبيون في السودان، وانتهي الأمر إلى ما نعرفه جميعا. ولكن لماذا احتاجت حركات التحرر الأفريقية إلى المشروع الوطني منذ البداية؟ الجواب يكمن في ثنايا السؤال ذاته: أي حركة تحرر تحتاج إلى سند شعبي حتى تكون الممثل الشرعي لمطالب الشعب؛ وعليها استخدام صك التمثيل هذا لإجبار القوى المستعمرة على الاعتراف بها وتقديم التنازلات الأساسية التي تفتح الطريق من أجل الاستقلال الوطني، ومهما كانت طبيعة الصراع مع القوى الاستعمارية ( عنيفة/ حركة التحرير الوطني الجزائري) أو سلمية الحركة الوطنية السودانية ( الأمة / الوطني الاتحادي) فإنها تقوم على شرعية التمثيل وشرعية التواصل مع القوى المستعمرة. إذن هذا هو مسوغ وجود المشروع الوطني. بعد فهم أسباب وجود المشروع الوطني علينا أن ننتقل خطوة إلى أهم سماته. سمات هذا المشروع السياسي هو أنه “وريث شرعي” للدولة الاستعمارية ويستمد شرعيته من أنه وطني وممثل للطموحات الوطنية ويسعي إلى دولة قومية ومن ثم تكوين أمة. ويرتكز أساسا على حركة تحرر وطني تتحول إلى حزب سياسي واحد ومطلق الحكم لا يسمح بمفهوم المشاركة السياسية أو المعارضة. وعلينا تأكيد أن المعارضة في دولة المشروع الوطني تعتبر خروجا على المشروع وهي بذلك تعد ” خيانة وطنية” وليست معارضة سياسية عادية. والمشروع الوطني بعد الاستقلال والشروع في بناء الدولة والأمة يقوم أولا بدفن الشرعية الثورية التي أوصلته إلى سدة الحكم، ويرتكز على شرعية اغتصاب السلطة والديكتاتورية لأنه ليس بحاجة إلى إجماع وطني للاستمرار في الحكم؛ وينتهي إلى ملك عضوض يحتكر السلطة وعلاقاتها والثروة ومآلاتها. ضمن المكون الثقافي للمشروع الوطني تسود قبيلة واحدة ولغة واحدة وديانة واحدة على باقي المكونات الثقافية الأخرى؛ وتعتبر هذه السمة الثقافية الأبرز للمشروع الوطني الأفريقي في بناء الدولة والأمة.وتعتبر القوميات أو القبائل الغائبة أو المغيبة عمدا عن الإسهام في المشروع الوطني “محرومة” من عوائد هذا المشروع، والذي يعد في مجمله ومن وجهة نظرنا كالسحت. ومثال ذلك في السودان الدينكا، وغير التقرينية في ارتريا. ويترافق مع تبدي المظهر الثقافي للمشروع الوطني بروز التوصيف الناقص والعقيم للصراع بأنه طائفي فقط، دون التوغل في الطبقات الجيولوجية لطبيعة المشروع الوطني، مكوناته، أسبابه ومآلاته. وهذا مرده الجهل المطبق بعلاقات السلطة وطبيعة صراعاتها والاقتصاد والثروة ودورهما في الصراع. من هنا يظهر التباكي الخائب حول الدين واللغة وإجازات نهاية الأسبوع.لنخطو خطوة إلى الأمام ونعتمد على كل ذلك مدخلا لفهم المشروع الوطني في ارتريا عبر السؤال الآتي: ما هي مرتكزات وسمات ورموز وممارسات المشروع الوطني الاريتري الهادف إلى بناء دولة وأمة اريترية ذات هوية واحدة؟الجواب: أولا: المشروع الوطني الارتري سنده النظري والأساسي هو المبادئ التي وردت في بيان نحنا علامانا ، الوثيقة المفتاح للمشروع الوطني الارتري؛ثانيا: المركبة الحاملة لهذا المشروع هي الجبهة الشعبية لتحرير ارتريا ( تنظيما ثوريا/ وحزبا / ودولة)؛ثالثا: أن المشروع هو نتاج لحركة ثورية مناهضة للاستعمار؛رابعا: اللغة والثقافة اللتان يرتكزان عليها المشروع الوطني هما الثقافة واللغة التقرينية؛خامسا: أي معارضة لهذا المشروع الوطني هي خيانة وطنية؛سادسا: لا يحق لأي قوى المشاركة في صياغة هذا المشروع نظريا أو فعليا؛سابعا: بما أن لكل مشروع قائد ملهم فإن قائد هذا المشروع هو اسياس أفورقي الذي صحح مسار الثورة وأوصلها إلى الاستقلال في دور بطولي مشابه لدور كل من ديغول في فرنسا وأتاتورك في تركيا ومانديلا في جنوب افريقيا (ويسمي المطار القومي باسمه)؛ثامنا : الشعار الثقافي لمشروع بناء الأمة الارترية هو : حادي لبي / حادي هزبي: ( هذه الأغنية لا يكون لها معنى لو كانت بلغة البلين أو الساهو مثلا)تاسعا: لو كانت جبهة التحرير الارترية هي صاحبة المشروع الوطني المنتصر لأصبحت الثقافة واللغة والتقرينية هي التي تتباكي على إجازة نهاية الأسبوع ( اعتمادا على مفاهيم علاقات السلطة والقوى والتفاعل السياسي الارتري.)عاشرا: لكل قارئ إضافة البند الذي يعرفه عن المشروع الوطني الارتري الهادف إلى بناء الأمة الارترية.هذا المقال تعقيب على المقال الذي سبقه تحت عنوان ” الصراع في ارتريا ليس صراعا طائفيا”، وهو مفهوما لا يخرج عن أفكار كتاب : ارتريا من حلم التحرير إلى كابوس الديكتاتورية؛ وهو أيضا جزء من تحليل أشمل في الكتاب المقبل تحت عنوان: المشروع الوطني الارتري والدولة المأزومة والذي أتمنى أن يكون استمرارا لجهود التحليل البنيوي للأزمة السياسة في اريتريا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى