مقالات

المصور السوري أحمد أبوسعدة يتذكر .. مع قائد جيش التحرير محمد أحمد عبده (2ــ 2)

25-Feb-2017

عدوليس ـ ملبورن

مضى النهار كله، وأقبل المساء وشيئا فشيئا أخذت اللوحة السماوية تكتمل….ياله من منظر… قرص أحمر اللون غير مكتمل يخرج من وراء الجبل الذي كنا نتقدم باتجاهه وها أنذا أرى الشمس تشرق لأول مرة فوق الأرض الارترية…كنت أسمع تغريد الطيور وهي تطلق ألحانها التي تشبه أناشيد الحرية….الحرية هذه الكلمة المقدسة التي وهبنا الله إياها وحرمنا الغزاة والمحتلون والمستعمرون منها .. المكان قريب ..(لحشة حجر أو شربة سيكارة ) هكذا قال لي القائد محمد أحمد …ونسير ونسير وينتهي (الباكيت وربما احتاج الأمر إلى كروز كامل ) قبل أن نصل ، أستطيع أن أصف يومي مع المبالغة طبعا بأنه (أطول يوم في التاريخ) . ثلاثة وعشرون ساعة من السير المتواصل بلا انقطاع ….لقد هلكت …لن أستطيع مواصلة السير بعد الآن …إذا أن قدمي لم تعودا تقويان على حملي…أريد أن أستريح …وأبلغت قراري هذا إلى الأخ محمد أحمد وبقية الرفاق قائلا:

خير لي أن أموت الآن من أن أواصل السير ولم يكن هناك من مفر سوى الموافقة على فكرتي الجهنمية تلك..شرط أن يبقى بمرافقتي أحد المقاتلين أما الباقون فيواصلون السير لاستطلاع الطريق..استلقيت على ظهري قبل أن أسمع قرار الموافقة على السماح لي بالاستراحة.-آه التعب قاتل مثلما الجوع قاتل… ولكن ما ألذ هذه الرحلة إنها أروع شيئ في الحياة…. خمس ساعات من النوم العميق ربما كانت أجمل ساعات نمتها في حياتي وشعرت بلذتها وعمقها …لقد نمت دون هز كما يقولون ولكن خمس ساعات كثيرة…وقلت لرفيقي سليمان زكريا ….الذي يعمل الآن في إحدى مطاعم السعودية (كرسون) وهو المقاتل الذي بقي معي ….لماذا لم توقظني يا أخ سليمان… يجيب ..لقد رأيتك تعبان فلم يأتي من قلبي أن أوقظك….بالمناسبة أنت لم تطلب أن تشرب الماء…ولم تطلب الطعام …ألست جائعا..؟-جسدي محطم وأشعر أنني منهك للغاية ولارغبة لي بالطعام والشراب.-إنها البداية فحسب وقريبا سوف تتعود على كل شيء.وأخذت أمازحه -إذا كان المكان قريب ويحتاج إلى ثلاثة وعشرين ساعة فماذا لو كان بعيدا …كم يوما سيحتاج من المشي …وتابعنا أنا وزكريا السير مقتفين آثار رفاقنا الذين سبقونا. …أخيرا وصلنا….. وفجأة وجدت نفسي أمام سرية كاملة من جيش جبهة التحرير الاريترية…وفي مقدمتهم محمد أحمد عبده ومحمود إبراهيم (شكيني) وأصدقائي الآخرين..تقدم أحد الثوار وسلم علي ثم عانقني بحرارة قائلا: أهلا بك يا أخ أحمد…. وأضاف يقوللقد كنا بانتظارك….نحن هنا الآن على استعداد أن نتقدم ونخوض معركة مع جنود الحبشة في معسكر (كركر) الحبشي والذي يقع بين الحدود السودانية الارترية وهو مدخل إلى منطقة ساوا وهي منطقة ريفية إريترية… وقام محمد أحمد بمصاحبة محمود شكيني ومعهم هيلا قرزة ــ(أصبح هيلي قرزة فيما بعد رئيسا لهيئة الصليب والهلال الأحمر الاريتريةـ وكان يسكن معه في بيته في السودان-الخرطوم فتاة اريترية دست عليه لتتبع أخباره وفي يوم من الايام تسلل اثنان من المجرمين وقتلوه في منزله وكان ذلك من جراء تجسس الفتاة المدسوسة عليه ).ووزعوا المقاتلين في عدة اتجاهات وكانت نقطة البدء قنبلة هاون من عيار (82مم) انطلقت على معسكر الجيش الإثيوبي وكان هذا أقوى سلاح عند جبهة التحرير رائدة الكفاح المسلح وكان هذا السلاح متطورا كثيرا في حينها وأعتقد بأنه موجود منه أربع حبات يعني أربع قنابل فقط….وابتدأ الهجوم…كان الوقت حوالي الثانية صباحا والانتشار والاستدارة حول المعسكر يستغرق حوالي الساعتين …كل أربعة مناضلين ذهبوا في اتجاه وكان القائد محمد أحمد عبده مع المناضل محمود إبراهيم شكيني يوجهون المقاتلين وقد كان لقاؤنا مع المقاتلين في منطقة قريبة من (فورتو ) -وهي منطقة ريفية إرترية – نعم كانت العملية عملية حدودية ولكن الانطلاق كان من الأراضي الإريترية وليس من الحدود وكان من عمق منطقة (بركة)-منطقة ريفية إريترية- كنت امشي مع محمد أحمد عبده ومحمود ومعنا ثمانية مناضلين .
كنت أشعر بالبرد رغم ان الجو كان حارا إلا ان الخوف من المجهول يبقى مسيطرا على الإنسان وبعد سبعة وأربعين عاماً أشعر بلذة الذكريات ولا شيء أجمل من الذكريات وخاصة عندما تجتاز الخطر وتبقى الذكرى وتتحول إلى قصة ترويها وترويها بشغف….
وبعد ساعة من المشي السريع بين الحجارة الكبيرة والصغيرة أصبحنا على مسافة قريبة جدا من المعسكر ولم يشعر بنا أحد من الأعداء وانتشرنا ولازمت محمود رحمه الله بينما انصرف محمد أحمد عبده لتوجيه المقاتلين ورفعت آلة التصوير وتساءلت(ماذا أصور وماهي الفائدة التي سأقدمها للثورة؟؟؟ ألا يعيقهم وجودي؟؟؟) غير أني شعرت بسعادة غامرة عندما سألني محمود كيف حالك يا أبو سعدة؟؟؟؟ وهل أنت مرتاح أتريد شيئا وسألته …

-هل أنتم مستعدون؟
أجابني – سوف تسمع الآن زغاريد الحرية.
وكان يحمل في يده الرشاش الخفيف (الدكتريوف) وعلى التوقيت الدقيق شق الهدوء صوت القنبلة وعلى صوت الزغاريد وجدت نفسي أزغرد أنا أيضا بآلة التصوير وليس ببندقية.
تراءى لي محمد أحمد عبده وهو يركض وبأيديه الرشاش يطلق النار .استغرقت المعركة حوالي خمسة عشرة دقيقة وتحول المعسكر الإثيوبي إلى كتلة من النار ثم انسحبنا…
وهات يا ركض …ووجدت نفسي ما بين أحمد عبده ومحمود وأحد المقاتلين وهو يجر الجمل وقال لي أعطني عفشك أي الكاميرا واعطيته إياها ..ثم ذهب بها …وتابعنا الركض وسط الصخور والشوك وتساءلت لماذا نركض؟؟؟؟ ألا نريد أن نعرف ماذا حدث في هذا المعسكر الاثيوبي..أجابني القائد محمد أحمد عبده والمناضل البطل محمود بهدوء….هذا من أجل سلامتك يا أبو سعدة…
بقية الأخوة المناضلون هم الذين سيأتون بالأخبار..وتابعنا الركض وتساءلت ماذا صورت؟؟؟؟ وماذا سأرى على شريط الفيلم…آه ثم آه….لقد تذكرت كيف صورت قصف المجنزرة الاسرائيلية مع طاقمها في غور الأردن وقد قصف المجنزرة أحد الفدائيين الفلسطيين بواسطة سلاح (أربي جي) وسقط الفدائي شهيدا ودمرت المجنزرة ….اليوم زغرد رشاش الثورة الإرترية ولم أرى منه سوى الوميض المتواصل على العدو الإثيوبي وكتل النار المتصاعدة من المعسكر.
وتساءلت في نفسي وأنا أركض كالغزال أين جمل الجمل وآلة التصوير وبقية العفش؟؟؟؟والله لا أعلم…. كما لا أعرف المسافة التي قطعناها ركضا وسط الأشواك والحجارة ….لذيذة هي الذكريات.
وأفيق من ذكرياتي وأنا أستظل بشجرة التاواي(شجرة التاواي شجرة شوكية تشبه المظلة) الكبيرة حيث أمضينا يومنا في انتظار وترقب حدة الشمس أن تخف حتى نتوكل ونتابع السير ..وفجأة ظهر الجمل وسيده وعفشي وعدد من المناضلين الذين قدموا لنا تقريرا كاملا عن سير المعركة وأهم ما قالوه إن العلم الارتري قد ارتفع على الارض الارترية بعد أن قتل من قتل وهرب من هرب ما تبقى من الجيش الاثيوبي….وبعد فترة زرت معسكر (كركر) المحرر من قبل جبهة تحرير اريتريا وقمت بتصوير مقاتل اريتري وهو يرفع شارة النصر…
.وأزفت الساعة وابتدأنا المسير وكانت الساعة حوالي الثانية بعد الظهر وفي منتصف الطريق ودعنا المناضل محمود إبراهيم شيكاي وبقيت مع القائد محمد أحمد عبده وبدأ العرق يتصبب من جبيني أنا أرفع قدمي بقوة ونشاط وكان صاحبنا سليمان زكريا (فك الله أسره) يتقدمنا بحوالي عشرين مترا وتساءلت ماهذه الأرض وماهذه التضاريس .
وبدأ الهواء وحبات الرمل الناعمة تضرب وجوهنا إلا أن شدة الحر خفت نسبيا.
وغابت الشمس وظهر القمر والنجوم وأخذت أراقب البرق من بعيد ونظرت إلى القمر وتساءلت في نفسي إنه الآن في بلدي يشع كما يشع نوره هنا ما أجمل الحرية إن الفارق بين بلدي وارتريا كبير جدا …إن أجدادنا وآباءنا أعطونا الحرية كاملة الأرض والانهار والجبال أعطونا إياها سليمة معافاة يرفرف عليها علم الحرية والاستقلال رحم الله شهدائنا ….أما هنا في ارتريا فإن الشعب يقدم دماءه من أجل حريته …إن حب الوطن هو واجب قومي وإنساني كما أمرنا الله تعالى وقد قررت من حينها أني سأشارك في تحرير هذه البلاد …إنني مع كل إنسان يود تحرير بلاده من رجس الاستعمار وهكذا عشت حياتي كلها.
الآن الساعة الرابعة صباحاً ..أربعة عشرة ساعة من السير المتواصل دون توقف…كنا نريد أن نقترب أكثر من أي قرية حتى نتزود بالماء والطعام.
أطل قرص الشمس الأحمر من وراء الجبل الأحمر وقد أراد الله تعالى أن نرى بزوغ شمس يوم جديد …على أرض إرتريا لكن صديقي محمود إبراهيم شيكاي وسعيد صالح لم يريا قرص الشمس ولم يشاهدا حرية شعبيهما واستقلاله…أرادا الحياة لشعبيهما فسقطا غدرا وخيانة قبل أن تكتحل عيناهما بنور الاستقلال…أما القائد محمد أحمد عبده …فقد توفي رحمه الله بعد الاستقلال لكنه لم يتمتع بهذا الاستقلال ورفض العودة الى ارتريا في ظل نظامها الحالي .كم هو طيب وأمين الشعب الارتري إنه شعب مكافح وفي وأمين.
بعدها بسنوات رافقت القائد محمد أحمد عبده عندما أسر مئات الإثيوبيين الذين أرسلهم حكام إثيوبيا الجدد لقتال ونهب وسرقة المواطنين الارتريين الآمنين وأرضهم وقد طلب منهم النظام الاثيوبي اقتلوا وخذوا كل ما تقع عينكم عليه ..إلا أن القائد محمد أحمد عبده مع عشرات المناضلين المقاتلين الارتريين صدهم وأسر منهم الكثير وساقهم إلى معسكرات جبهة التحرير الارترية حيث قاموا بتوعيتهم من خلال شرح قضيتهم العادلة لهم ثم بعد فترة أطلقوا سراحهم وعادوا إلى اثيوبيا وقد أطلق على هذه الحملة اسم (الزمتشا) وتعني اللصوص والقتلة وقطاع الطرق.
رحم الله القائد محمد أحمد عبده الذي التقيته في كل من (آكلي قوزاي-بركة- القاش-وساوا) وآخر مرة التقيت به كان في منزله في جيبوتي حيث عمل كرئيس مكتب لجبهة التحرير الارترية وكما نوهت سابقا فقد رفض العودة الى ارتريا وفي آخر أيامه عمل بستاني في حدائق السوادن في مدينة كسلا وكان يسكن في منزل متواضع في كسلا وقبل أن يعيش في ظروف قاسية على أن يذهب الى ارتريا في وضعها الحالي لغيمانه بأن الاستقلال لم يكتمل ورغم كل ذلك كان يقول ويردد دائما لا بد أن تأتي الحرية والاستقلال الكامل إلى وطني في يوم من الأيام.
هذا جزء يسير مبسط مع القائد النبيل الشريف محمد أحمد عبده الرمزالكبير من رموز النضال الوطني الإريتري.
رحم الله صديقي الفارس محمد أحمد عبده.
* إعداد وتحرير للنشر ( عدوليس ).
انتهى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى