مقالات

الم يدفع الشعب السوداني ثمن استقلاله؟:محمد سعيد ناود ـ أسمرا

13-Jan-2008

ecms

ذكرى استقلال السودان كتب عنها الكثير.. وسيكتب عنها أكثر كلما تجددت هذه الذكرى العطرة سنويا، وأبناء السودان الميامين يظلون هم الأقدر والأجدر للكتابة عن هذه المناسبة، رغم أن لهذه الذكرى مذاقا خاصا في نفسي لأنني عشت أحد فصولها،

ولا أعتبر نفسي دخيلا أو متطفلا عندما أكتب عن استقلال السودان، فإرتريا والسودان، ورغم الحدود المصطنعة التي وضعها بينهما الأوربيون، إلا إنني أؤمن بأننا شعب واحد، تجمعه أواصر التاريخ والحضارة والثقافة واللغة والمصالح والمصير المشترك. بل إن هذه القناعة وهذا الأيمان ينطبق أيضا على باقي شعوب القرن الأفريقي. ولكن ما هو السبب الذي دفعني لكي أدلو بدلوي في هذه المناسبة اليوم؟في السنوات الأخيرة بدأت أسمع مقولة خاطئة يرددها البعض بأن السودان “قد نال استقلاله بسهولة، وبالتالي لم يقدر الاستقلال حق قدره”. وإنني أختلف مع هذه المقولة. وأقول إن السودان قد دفع ثمن استقلاله كاملا من نضال متواصل لم يتوقف منذ أن وطأ المستعمر الأجنبي ارض السودان وحتى إعلان استقلال السودان في 1/1/1956م .ودون التكرار أو الاسترسال فيما هو معروف من تاريخ هذا النضال الذي دام وبشكل متواصل لأكثر من نصف قرن من الزمان منذ الاحتلال الأخير للسودان. فهناك محطات بارزة في تاريخ الشعب السوداني الشقيق توضح أن السودان لم ينل استقلاله بيسر وسهولة. فالاستعمار لم يكن ليتنازل عن مصالحه ووجوده ويتكرم على الشعوب استقلالها ما لم يجبر على ذلك، وهذا ما جرى له في السودان. فابتداء من الثورة المهدية في القرن التاسع عشر والتي تمثل حدثاً فريداً غير مسبوق في القارة الأفريقية.. وثورة ود حبوبة في الجزيرة.. وثورات وانتفاضات متعددة في جنوب السودان وغربه ضد الاستعمار البريطاني.. وحركة اللواء الأبيض بقيادة البطل الضابط علي عبد اللطيف من أبناء جنوب السودان ورفاقه أمثال عبيد عبد النور.. ثم ثورة عام 1924م عندما تصدى أبناء السودان البررة بالأسلحة النارية لقوات الجيش البريطاني في شوارع الخرطوم بقيادة البطل عبد الفضيل الماظ ورفاقه من الطلبة الحربيين الذين استشهدوا في ساحة الوغى.. ميلاد مؤتمر الخريجين في عام 1936م.. ثم انبعاث الحركة الوطنية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية والمطالبة باستقلال السودان.. والحركة العمالية السودانية بقيادة الاتحاد العام لنقابات عمال السودان والتي صارعت الاستعمار البريطاني بإضراباتها المتواصلة ولياليها السياسية ومظاهراتها.. والصحفيون والشعراء والأدباء وأصحاب القلم والفنانون الذين كانوا يؤججون المشاعر الوطنية لجماهير الشعب السوداني، ويتغنون للحرية والبطولة والوحدة الوطنية والاستشهاد في سبيل الوطن. عبر كل هذه الحقب فإن الشعب السوداني الشقيق دفع ثمن الاستقلال كاملا من أرتال الشهداء والسجناء والمشردين.لي ملاحظة لا أدري إذا كان سيوافقني عليها أبناء الشعب السوداني أم لا. وملاحظتي هي أن تاريخ النضال السوداني الذي دام لأكثر من نصف قرن لم تكتب تفاصيله بعد. وهناك جنود مجهولون وأبطال لا حصر لهم لم يكتب تاريخهم، بل تم التركيز وسلطت الأضواء على القيادات السياسية التي تجسدت فيها آمال وطموحات الشعب السوداني في الفصل الأخير من نضالات هذا الشعب، والتي توجت بإعلان استقلال السودان. فهناك بطولات شملت الأرض السودانية في كل أطرافها شمالا وجنوبا وشرقا وغربا. وبمراجعة أحداث تلك المرحلة في كل عواصم المديريات والمدن السودانية الكبيرة سنجد أبطالاً لا حصر لهم من أبناء الشعب السوداني الذين لم يكتب تاريخهم بعد، بل أخشى أن يضيع ذلك التاريخ إذا لم يبادر الأحياء ممن عاصروا تلك الأحداث بتسجيل ما يعرفونه.وتأكيداً لملاحظتي سوف أتطرق لملامح من أحداث وشخصيات عاصرتها عندما كنت صبيا وشابا في مدينة بورتسودان التي نشأت وترعرعت فيها. فسلطات الاستعمار البريطاني وفي مطاردتها للشخصيات الوطنية كانت تتبع مجموعة من الأساليب، فقد كان هناك جهاز المباحث وفي مقدمة مهامه مطاردة ومتابعة العناصر الوطنية على مدار الساعة لمعرفة تحركاتها وأنشطتها.. كان بعد ذلك يتبع أسلوب المداهمات المنزلية في الساعات الأولى من الفجر، ثم التفتيش في كل مواقع المنزل والحقائب والدواليب. ولا تسلم حتى المراتب والمخدات وتمزيقها بحثا عن أي أوراق بداخلها.. أيضاً كانت هناك الاعتقالات التي تتم من وقت لآخر.. وأخطر الأساليب كان محاربة الناس في أرزاقهم بفصلهم من عملهم وإغلاق باب العمل أمامهم في المؤسسات الحكومية والشركات التجارية.وبالرغم من هذه الأساليب الماكرة، فإن الأحرار من أبناء الشعب السوداني كانوا يواجهون السلطات الاستعمارية جهاراً نهاراً ودون أي تردد. فمثلاً كانت هناك المظاهرات الهادرة والتي لا تتوقف. وكانت تلك المظاهرات بمثابة “حرب شوارع ” بين المواطنين وسلطات القهر الاستعمارية التي كانت تستعمل القنابل المسيلة للدموع والهراوات وأحيانا تستعمل الرصاص لتفريقها.. أذكر من تلك المظاهرات عندما أغلقت الأسواق وتجمهر المتظاهرون وفي مقدمتهم الشيخ الأمين، وهو خليفة الشريفة مريم المرغنية، وقد سل سيفه وتقدم المظاهرة ووراءه أمواج هائلة من البشر تهتف بسقوط الاستعمار وتنادي باستقلال السودان.. وفي تلك الأيام لم يكن للميكرفونات أي وجود. وكان هناك الأستاذ ودي عيس وهو من المدرسين المشهورين وكان صوته جهوراً وكان بمثابة الميكرفون لأي مظاهرة. وعندما يبح صوته من الهتافات كان هناك من يقدم له الملح الذي يحمله في جيبه لهذه الغاية ليمتصه ويجلو صوته ويواصل هتافاته ويردد من بعده المتظاهرون. وأخطر المظاهرات التي شاهدتها كانت عندما واجه السلاح الأبيض الأسلحة النارية في الموقع الذي أقيم فيها حاليا ” حي العظمة ” والواقع بين ديم المدينة والسوق الكبير. في ذلك الموقع كان بعض المتظاهرين مسلحون بالسيوف والعصي والسكاكين. واستعمل البوليس ضدهم الأسلحة النارية فسقط بعض الشهداء والجرحى. وتقدمت بعض الشخصيات المعروفة من بين المتظاهرين وحملت الجرحى لنقلهم إلى المستشفى القريب من المنطقة. واستمر البوليس في إطلاق النار عليهم من الخلف. وهنا توقف الخليفة علي نور إدريس خليفة السيد علي الميرغني، والذي كان ضمن من يحملون الجرحى، توقف وواجه البوليس قائلا: ” نحن لا نضرب من الخلف ولكننا نواجه النيران بصدورنا. ألا ترون أننا نحمل الجرحى وأنتم تطلقون علينا النيران من الخلف يا جبناء “. فتوقف البوليس عن إطلاق النيران عليهم بأوامر من الضابط الذي كان يتولى قيادتهم. ومن الرموز الوطنية وقيادات فروع الأحزاب بالمدينة كانت هناك شخصيات لا تغيب عن الذهن، فقد كان هناك الشيخ بامكار محمد عبد الله والذي كان متعهداً لتحريك جماهير ديم العرب بحكم انتمائه له في كل المظاهرات. وهو والد البرلماني المعروف هاشم بامكار صاحب مشروع كوبري بورتسودان ـ جدة بحيث يتمكن الحجاج من أداء فريضة الحج سيراً على الأقدام بدلاً من البواخر والطائرات. وحصد بواسطة هذا المشروع أصوات الناخبين في إحدى الدورات الانتخابية للبرلمان. وأصبح مشهوراً بهذا المشروع الخيالي الذي لم ولن يتحقق. وهناك الأستاذ محمد عبد الجواد الذي كان يهيج المتظاهرين بخطاباته الحماسية. ومحمد أحمد النيل والأستاذ يحي الغصين وعلي الزين.ومن القوى التقدمية السودانية ” الحركة السودانية للتحرر الوطني ” قبل إعلان تسمية الحزب الشيوعي السوداني كوكبة من الأساتذة أذكر منهم سيد طاهر فكي_ علي أونور عبد الله_ عباس علي_ حبيب مدثر والنقابي الشهير الجزولي سعيد. ومن المواقف التي لن أنساها تلك المظاهرة العنيفة التي شاركت فيها، حيث خرج طلاب المدرسة الأهلية والمدرسة الأميرية وجابت المظاهرة شوارع المدينة حيث كنا نهتف ” الشجرة تسقى بالماء والحرية تسقى بالدماء “. والتحمت بنا الشرطة إلا أنها لم تستعمل السلاح بل ظلت تتابعنا. وعندما بدأنا بتكسير السينما نزلت علينا بالهراوات حتى تفرقنا. وعند عودتنا للمدرسة وصلت الشرطة وطلبت من مدير المدرسة المربي الكبير الأستاذ محمد أحمد سليمان والد الوزير بدر الدين سليمان والمحامي غازي، وطلبت إليه أن يقوم بتسليم بعض الطلاب لها وقدمت لائحة بالأسماء وكنت أحدهم. إلا أن مدير المدرسة رفض وبشكل قاطع قائلا لهم: “إني لن أسلم أبنائي للشرطة ولكني مستعد لمعاقبتهم بنفسي داخل المدرسة. وبعد جدل وافقت الشرطة أن تتم معاقبتنا بواسطة المدير بداخل المدرسة. وبعد انصراف الشرطة جمعنا المدير وأنزل بنا عقوبة الجلد بداخل مكتبه”.إن هذه النماذج التي ذكرتها عن نضالات جماهير بورتسودان ليست هي كل شيء ولكنها مجرد أمثلة. بل كانت المدينة في غليان دائم من إضرابات ومظاهرات وليال سياسية. وكان لكل ذلك ضحاياه من شهداء بالرصاص وجرحى وسجناء وممن فقدوا مصدر رزقهم بتشريدهم من أعمالهم. وقد توج كل ذلك بإعلان الاستقلال الذي كنت حاضرا لحظة إعلانه أمام مبنى المحافظة عندما أنزل علما دولتي الحكم الثنائي، وحل محلهما علم السودان حيث كانت الجماهير تهتف وبعضهم يتعانق ويجهش بالبكاء من شدة الفرح. إنني واثق بأن ما شاهدت جزءاً يسيراً منه في بورتسودان حدث مثله، بل ربما أكثر منه في كل المدن السودانية وفي العاصمة الخرطوم. وإن هذا التاريخ وبتفاصيله الكثيرة لم يتم تسجيله وأرشفته. وعليه فإنني أختم قولي بالتأكيد على أن الشعب السوداني الشقيق قد دفع ثمن الاستقلال كاملا، ولم يحقق استقلاله بيسر وسهولة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى