تقديرات القيادة الارترية لقضايا علاقاتها بالسودان ..منظور جديد .. أم خطوات تنظيم لمنهج جديد !؟.. بقلم حاتم حسن بخيت
18-Oct-2005
المركز
جريدة الحياة السودانية – 15/10/2005م
هنالك جملة من التساؤلات المتداخلة التي تطرح نفسها حول التقديرات التي تحكم صنع القرار في القيادة الارترية وهي ذات قيادة الجبهة الشعبية لتحرير ارتريا والتي تميزت ابان مرحلة الكفاح المسلح عن ما عداها من حركات التحرر الارترية بأنها كانت ذات رؤية استراتيجية واضحة ومبدئية للذات وللآخرين سواء أكانوا دولا أو تنظيمات سياسية أو شعوبا ومكنتها هذه الرؤية من عقد تحالفات مثمرة مع الحكومة السودانية ومع القوى السياسية الحية في اثيوبيا التي كانت تعمل من أجل اسقاط نظام منقستو بل ومنذ الامبراطور هيلى سلاسي .
ولكن حينما انتقلت الجبهة من مرحلة الثورة الى مرحلة الدولة عجزت قيادتها عن الحفاظ على المنظور الاستراتيجي لتحالفاتها ومواقفها أبان الثورة وتداخلت فيها زوايا النظر وحسابات التقديرات فادارت ظهر المجن للحكومة السودانية التي شكلت الملاذ والحماية والتأمين لهذه القيادة حتى دخولها الى العاصمة اسمرا وتحولت العلاقة بينها وحكومة الانقاذ الوطني الى عداء أخذ طابعا استراتيجيا عند بعض اطراف هذه القيادة وظل هذا العداء محافظا على حدته واتجاهاته ردحا من الزمن . وانفرط عقد التعامل بين القيادة الارترية وبين الحكومة الاثيوبية وهي التي كانت شريكة في الاستقلال وفي التداخل العرقي مع ارتريا ومع قيادتها على وجه الخصوص وجمعهما توحد الاهداف ضد النظام السابق في اثيوبيا . ليتحول هذا الانفراط في العلاقة بفضل اجتهادات القيادة الارترية وحساباتها الخاطئة الى حرب مدمرة بين الطرفين من جراء نزاع حدودي كان يمكن ان يحل بالوسائل السلمية وعلى رأسها التحكيم الدولي . وهو نزاع حول بلدة (بادمي ) الحدودية وقد اودت هذه الحرب العقيمة بحياة ما يقارب المائة ألف نسمة واحدثت دمارا هائلا لدى الطرفين . وهي حرب لم ينتظرها أو يتوقعها احد نسبة للظروف التي حكمت العلاقة بين البلدين ونجم عنها تسريع استقلال ارتريا والذي لعب فيه السودان دورا داعما لخطواته وارتضت اثيوبيا بهذا الاستقلال بشكل جلي وواضح .لقد جاء القرار الإرتري بدخول تلك الحرب دون ترو ودون حساب موضوعي وتقدير كاف ، ليس فقط للمعطيات الإقليمية والدولية بل بشكل أساسي دون حساب دقيق لمعطيات ميزان القوى والذي كان ولا يزال لصالح إثيوبيا بجميع القياسات ولم تستعد إرتريا كثيراً لفشل خيارها العسكري في التعامل المباشر وغير المباشر الذي سبق أن اعتمدته ضد السودان في أعةام 1997م – 1998م وتحت وطأة الثقل العسكري الإثيوبي قبلت إرتريا قرار مجلس الأمن رقم 1312لسنة 2000م والقاضي بإيقاف الحرب وقبولها نشر قوات دولية في المنطقة الحدودية المتنازع عليها في بلدة بادمي والإحتكام إلى لجنة دولية لترسيم الحدود وهذه قضايا كان يمكن للقيادة الإرترية الوصول لها دون الحاجة لإعلان الحرب ودفع ثمن باهظ فيها ولم تقتصر تداخلات تقديرات القيادة الإرترية على دول الجوار الإقليمي وإنما امتدت عبر البحر الأحمر في إحتكاكات ومشاحنات عسكرية مع اليمن في إشتباكات حدودية للسيادة على بعض الجزر الصغيرة في البحر الأحمر وكان يمكن أيضاً عقد إتفاقات حولها بالطرق السلمية .وظلت القيادة الإرترية في ذات الوقت تناصب الحكومة السودانية العداء وترجمت ذلك إلى دعم مسلح لمختلف فصائل المعارضة السودانية بغية إسقاط الحكومة بالقوة المسلحة في ظل تبرير يفتقد للتوازن المنطقي مفاده أن الحكومة السودانية ضالعة في دعم المعارضة الإرترية بغية إسقاط النظام في أسمرا وإقامة نظام سياسي شبيه بنموذج الإنقاذ الوطني وهي تبريرات كان يمكن بحثها بصورة جدية والوصول فيها إلى تفاهمات تحفظ مصالح الطرفين ولكن آثرت القيادة الإرترية إعلاء صوت المواجهة والتصعيد في علاقتها بالسودان وظلت من جراء ذلك ترى كل تقارب مع للسودان مع دولة أخرى بمثابة تحالف موجه ضدها وأن أي عملية سلام أو وفاق سياسي داخلي هي بمثابة خصم لأوراق الضغط المتوفرة لديها لمواجهة النظام في السودان .وفي ظل هذا المناخ الإقليمي السالب الذي أحاطت به القيادة الإرترية نفسها وبلادها اتخذت القيادة الإرترية مرة أخرى قراراً لم يتوقعه أحد وهو القرار الخاص بمنع مروحيات الأمم المتحدة من التحليق في أجوائها وهو قرار شبيه بقرار إعلان الحرب لأنه قرار يهدد حياة قوات حفظ السلامالأممية الموجودة في منطقة الحدود الاثيوبية الارترية بقرار من مجلس الأمن وتتكون من أكثلر من ثلاثة آلاف جندي ويضعهم القرار الارتري في مرمى نيران القوات الارترية في حالة مخالفته . فهذه القوات بطائراتها موجودة بموافقة ارتريا بموجب القرار الأممي 1312والذي شكل لها مخرجا من حرب خاسرة كانت يمكن لاثيوبيا ان يجتاح فيها ارتريا مرة أخرى . وهذه الطائرات تنحصر مهامها في الاستطلاع الجوي ونقل المرضى وتقديم الخدمات للقوات الأممية ولذلك تعامل المجتمع الدولي بصرامة مع القرار الارتري وعقد مجلس الأمن اجتماعا طارئا ندد فيه بالقرار الارتري وطالب الحكومة الارترية بالغائه فورا وتقديم كل المساعدات المطلوبة لاداء القوات الدولية لمهامها بكفاءة .لقد حاولت القيادة الارترية بقرارها ضد القوات الأممية تحريك الجمود الدولي في شأن ترسيم الحدود مع اثيوبيا بعد ان قررت لجنة ترسيم الحدود ضم بلدة ( بادمي ) لارتريا ورغم ان اثيوبيا لم ترفض هذا القرار وطلبت اجراء حوار مع ارتريا في مترتباته الا ان الحكومة الارترية طلبت التنفيذ الفوري للقرار واعتبرت الطلب الاثيوبي تسويفا في الامر واعادة فتح لملف النزاع الحدودي من جديد .ولم تعتقد القيادة الارترية ان قرارها هذا بمثابة خروج عن القرار الأممي ويدفع الوضع في المنطقة الى حرب جديدة واصبحت الحكومة الارترية أمام خيارين لاثالث لهما اما التراجع العلني عن قرارها والانصياع لقرار مجلس الأمن الدولي وما يعنيه ذلك من ادانة سياسية مبطنة لخطأ تقديرات القيادة الارترية والالتزام بقرارها وعدم التراجع عنه. وعندها تصبح الأمم المتحدة في حل من التزاماتها وما يعنيه ذلك من سحب لقواتها من المنطقة الحدودية ودفع المواجهة بين البلدين الى مرحلة الحرب مجددا وهو امر قد يبدو ان لامفر منه وتكون الحكومة الارترية بذلك قد اتخذت للمرة الثانية قرار بالحرب في ظل ميزان قوى في غير صالحها وهذا الاختلال قد لايؤدي هذه المرة الىفقد ارتريا مطالبها الحدودية بل ربما يكون سببا في احياء الاطماع الأمبراطورية التاريخية لاثيوبيا في ارتريا والمطالبة بضمها اليها وهي حرب ان اندلعت من جراء المواقف الارترية فأنها لن تقف عند حد حسم النزاع الحدودي بل ربما تهدد استمرار ارتريا كدولة مستقلة .وفي ظل هذا الوضع السالب إقليمياً بدأت بعض الإشارات العقلانية تصدر عن القيادة الإرترية في محاولة منها لتهيئة أجواء إيجابية مع دول الجوار لتحسين علاقاتها معها الأمر الذي قد يساعد إرتريا في عمل دبلوماسي استهدف حفظ حقوقها في النزاع الحدودي مع إثيوبيا ومن خلال الضغط عليها إقليمياً ودولياً ، ومن أبرز هذه الإشارات طلب الحكومة الإريترية من الحكومة السودانية استقبال وفد عالي المستوى برئاسة وزير الخارجية بالوكالة السيد محمد عمر لإجراء مباحثات بغية حل المشاكل العالقة بين البلدين وهذا مسلك يعتبر أمراً نادراً في منهج التعامل الإرتري في قضايا علاقاتها مع السودان وهي خطوة في الإتجاه الصحيح حيث لا تحل المشكلات بين الدول إلا عبر الحوار والتفاوض وهي إشارة إلى تخلي القيادة الإرترية عن منهج الصدام والمواجهة والتصعيد وهي نظرة لم تأت من فراغ وربما تكون قد جاءت تتويجاً لجهود من هذا الطرف أو ذاك أو لخطوات من هذا الجانب أو ذلك ولكن المهم أن توظف نتائجها لدعم الحوار وترسيخ السلم ليس مع السودان وحده بل لصالح جميع دول المنطقة وهذا لن يتأتى إلا إذا جاءت هذه الخطوة تعبيراً عن استراتيجية جديدة للقيادة الإرترية وليس موقفاً تكتيكياً حتمته نذر الحرب مع إثيوبيا وهذا التعبير لن يتم إلا إذا تخلت القيادة الإرترية عن النزعة العسكرية التي ورثتها في مرحلة الكفاح المسلح ولا تزال تتحكم في منظورها لخلافاتها مع دول الجوار وبدون هذا التخلي والتجاوز لهذه الروح ستظل المبادرة الإرترية الجديدة نحو السودان مجرد توجه معزول ومحكوم بأجل قصير ولايعدو أن يكون مجرد خطوات تنظيم تعود بعدها المنطقة إلى سابق توترها وتأزم علاقات دولها وهو واقع حال دخلت فيه دول القرن الإفريقي منذ أن نالت إريتريا استقلالها رغم الدور الفاعل لهذه الدول في هذا الإستقلال وقد لاننفك منه إلا بأحد أمرين : تغيير القيادة الإرترية لمنهج تعاملها مع دول المنطقة .. أو تغيير هذه القيادة ، فأيهما أقرب للتحقق ؟