مقالات

رجل مضى حاملا معه احلامه وهمومه : حمد كل *

4-Sep-2012

hglv;.

كل القادة العظام رحلوا بعد ان حققوا انجازات كبيرة لبلدانهم، انهم كالنجوم الساطعة لا يخبوا بريقهم، لهذا خلدتهم شعوبهم. “كونراد اديناور” تسلم الحكم مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية وكانت المانيا الغربية ركاما، بدأ البناء من نقطة الصفر وجاء من بعده الحكام الاخرون ووحدوا المانيا وجعلوها دولة اولى في اوروبا الغربية اقتصادا وصناعة.

“تنج هساو بنج” حول الصين من مليار فاه مستهلك الى مليار منتج وجعلها الدولة الثانية في العالم. الزعيم الخالد جمال عبدالناصر كانت الرقعة الزراعية في مصر قبله لا تتجاوز الشريط المائي النيلي، فبنى السد العالي وقام بالاصلاح الزراعي وازدادت الرقعة الزراعية وملكها للفلاحين الفقراء وكهرب الريف، كنت نسبة الامية من قبله تعادل 80%، ففتح المدارس واصدر قرار مجانية التعليم واقام مجمعا صناعيا في “حلوان” كان يتجاوز العاملين فيه ثلاثة ملايين، وجعل من قناة السويس قناة مصرية وليس انجليزية او فرنسية، ووقف ببسالة مع حركات التحرير في العالم العربي والافريقي والعالمي واقام مع الاخرين منظمة عدم الانحياز لتكون هذه المنظمة غير منحازة لاحدى القطبين الاعظم الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الامريكية. ناضل “غاندي” بالوسائل السلمية ضد الاستعمار البريطاني وحين تحقق الاستقلال رفع شعار “ناكل مما تزرع ونلبس مما نصنع”، وجاء من بعده “جوارهلال نهرو” ثم ابنته “انديرا غاندي”، وجاء من بعده اخرين وجعلوا من الهند الدولة الثامنة في مجال التصنيع. بدأ الزعيم الأفريقي نيلسون مانديلا كفاحه السياسي ضد نظام الفصل العنصري مطالبا بالعدالة والمساوات بين جميع مواطني ومكونات مجتمع جنوب افريقيا بما في ذلك البيض والهنود والاعراق المختلفة، فكسب احترام شعبه والعالم باثره. وفي ماليزيا جاء “مهاتير محمد” وارتقى باقتصاد البلد ومعه دول نمور اسيا. كيف يمكن ان نصدق ان دولة مثل “سنغافورة” تستورد مياه شربها من ماليزيا وهي احدى الدول المزدهرة اقتصاديا. اليابان وكوريا الجنوبية تخرج من الحرب مدمرة ثم تصبح من الدول التي يحسب لها الف حساب، انه ليس اعجازا فقط بل ارادات شعوب بقيادات راشدة تمكنت من تحقيق كل هذه الانجازات من خلال بسط الديمقراطية المسترشدة بدساتيرها واقامة دولة القانون وبناء مؤسسات راسخة، جيل يرحل لياتي جيل آخر يقود مسيرة البناء واقامة منارات للعلم ومراكز بحوث تسعى وراء كل جديد لمزيد من التطور والارتقاء بالاوطان، بلا شك كل هؤلاء القادة العظام مع انجازاتهم الضخمة تركوا مؤسسات قوية لدولهم. استراتجية الدول الكبرى لا تتغير انما سياستها هي التي تتغير وفق للمستجدات والمتغيرات لخدمة الاستراتيجية نفسها. المقولة التي قالها الرئيس الامريكي الاسبق “فرنكلين روزفلت” بعد الحرب العالمية الثانية “اننا كولايات متحدة امريكية خرجنا من الحرب العالمية الثانية اقوياء وخرج حلفاءنا من الحرب ضعفاء، فعلينا ان نلعب دور القوى الكبرى في كل المناطق ذات الاهمية الاستراتيجية”، وجاء الشرق الاوسط ونظر اليه من خلال الممرات المائية الثلاثة، فاعطي لشاه ايران دورا يلعبه في منطقة الخليج عبر “مضيق هرمز”، واُسند لاسرائيل دورا تلعبة شرق قناة السويس ومنطقة الهلال الخصيب، وربطوا ارتريا باثيوبيا ليلعب الامبراطور هيلي سلاسي دورا اقليمي في منطقة القرن الافريقي وجنوب البحر الاحمر من خلال الهيمنة على باب المندب لقربه من منابع البترول. هناك سؤال دائم يجول بخاطري باستمرار ويتشدق به الاخرين “اثيوبيا دولة اقليمية”؟ ما هي مقومات اي دولة لقيادة اي اقليم من حولها؟ هل اثيوبيا دولة ذات اقتصاد قوى، تملك صناعة متطورة، متقدمة زراعيا، تملك قوى بشرية لها مؤهلات علمية لقيادة الاقليم؟ الاقليمية هي كذبة وصناعة القوى الدولية اصبغتها على اثيوبيا وفرضتها على الاقليم والعالم، ولاكساب اثيوبيا هذه الصفة قدمت لها ارتريا على طبق من ذهب لتعربد فيها ما تشاء من خلال ذاك الساحل في البحر الاحمر وطوله 1200كم ولتهيمن على باب المندب القريب من منابع البترول لتحمي فيه مصالح الغرب، ثم فرض على الافارقة ليكون مقر الاتحاد الافريقي في العاصمة الاثيوبية اديس ابابا لتمرير اجندة الغرب على هذه المنظمة عبر ربيبتهم اثيوبيا.كثير من الكتاب والمعلقين حين يتحدثون او يكتبون عن اثيوبيا يقولون “اثيوبيا تملك اكبر جيش في القارة الافريقية”، هذه هي الصفة الوحيدة التي تتميز بها اثيوبيا، وهو بالتاكيد جيش كبير لكنه جيشا غير مدربا تدريبا حديثا، هو عبارة عن مليشيات، المدربين فيهم قادة الدبابات والطيارين والضباط المتخرجين من الكليات الحربية، ان الوزن او الصفة الصحيحة لاثيوبيا هي دولة اقليمية تملك كما كبيرا من الجيش لكنها لا تملك مؤهلات قيادة الاقليم، قيادة “اقليميتها” ذاك الجيش الكبير، واُسس هذا الجيش الكبير ليحافظ على عروش الحكام ويؤمن مصالح دول الغرب في المنطقة، وهو جيش من ابناء الفقراء المعدمين يتجيشون فقط هروبا من الموت بالجوع ليموتوا هباءا لخدمة الحاكم وحفاظا على مصالح الغرب في المنطقة. الخطر الاثيوبي هو ذاك الانفجار السكاني المتزايد الذي تجاوز 80 مليون نسمة دون دولة مؤسسات، دون تخطيط، دون اقتصاد، دون مشاريع زراعية حديثة ممكننة.ليس في اثيوبيا مؤسسات دولة، هناك رجل واحد، في التاريخ الحديث كان الامبراطور هيلي سلاسي، الكولونيل منجستو هيلي ماريام وملس زيناوي، وكلما يموت احدهم او يهرب تهتز البلد وتصبح في كف عفريت والشعوب لا حولة لها ولا قوة. الغرب الذي صنع هذه الاقليمية في اثيوبيا يعرف هشاشتها، فبين فترة واخرى يقوم بضخ في شرايين هذه الدولة المريضة بالانفجار السكاني والفقر المدقع والتعدد القومي والاثني بالدعم المالي والمساعدات الانسانية لتستمر وتحافظ على مصالحه في المنطقة.ملس زيناوي قد تختلف او تلتقي معه لكن يمكن ان نقول عنه انه كان رجل دولة، اعطى لاثيوبيا نوع نسبي من الهدوء والاستقرار مقارنة بفترة الامبراطور هيلي سلاسي والكولونيل منجستو هيلي ماريام، لكن ملس زيناوي كانت تتنازعه الاهواء بين حكمه لاثيوبيا واستمرار الهيمنة “التجراوية” لاثيوبيا ومستقبل اقليمه “تجراي” اذا سقط حكمهم في اثيوبيا.في فترة حكمه حققت اثيوبيا نمو اقتصاديا نسبيا قدره البنك الدولي بحوالي 8% وتقديرات اخرى 17% خلال السنوات العشر الاخيرة، وتنمية في مجال بناء السدور اهمه سد ما سموه بـ “الالفية” لتنعم البلاد بطاقة كهربائية كبيرة وزيادة في الانتاج الزراعي الى حد ما، وكان يمكن ان تحقق اثيوبيا بوتائر اقتصادية اسرع لولا الصرف على جيشه الكبير ومخابراته لتامين حكمه. كان يطمح في استكمال مشاريع تنموية تنقل اثيوبيا الى مصاف الدول المتوسطة الدخل، ويمكن ان نقول ان الموت بالجوع قد انتهى في اثيوبيا لكن الفقر المدقع ما زال يعشعش في الريف الاثيوبي والمدن العشوائية. وهناك فجوة كبيرة بين التنمية البطيئة والازدياد السكاني الكبير.في فترة حكمه انشأ الدستور ونص في بعض مواده “حق تقرير المصير للقوميات الاثيوبية” لادارة التنوع الثقافي والديني والعرقي في اثيوبيا، كان هذا في المظهر لكن هذه المواد في جوهرها كانت تخدم مستقبل اقليم تجراي، وكان الحكم اللامركزي الذي اقامه في الاقاليم لتدار وتحكم بابناءها، هي ايضا في المظهر كان ذلك اما اداراتها المتنفذة كانت لابناء اقليم تجراي. لملس زيناوي وجوه عديدة، فهو سياسي داهية، ناعم كالمخمل لكنه يحمل في داخله المكر والدهاء. قارئ نهم، مطلع، مستمع جيد لكل اصدقائه وزواره الاجانب، يدهش مستمعيه بثقافته الواسعة والمامه بكل القضايا، كانت له جسور وصلات مع كثير من القادة والكتاب والمثقفين الغير اثيوبيين في الغرب وافريقيا وقلة في العالم العربي، واءم في سياساته وتوجهاته مع الغرب وخاصة الولايات المتحدة الامريكية، يمتلك مؤهلات المفاوض المتمكن حاو ان يجعل من اثيوبيا دولة محورية في القرن الافريقي والقارة الافريقية بصفة عامة من خلال دوره في منظمة الايقاد والاتحاد الافريقي، وبتشجيع ودفع من الولايات المتحدة الامريكية ادخل جيشه الى الصومال مرتين، كان يطمح لايجاد حكومة صومالية تسير في فلك سياساته، ارسل بعض من وحداته العسكرية الى منطقة “أبيي” للفصل بين قوات الشمال والجنوب السوداني وسعى لجمع الاطراف السودانية المتانزعة لتاكيد دوره الاقليمي. يمكن ان نقول ان اثيوبيا في عهد ملس زيناوي لم تكن دولة ديمقراطية بل ديكتاتورية “ناعمة”، كانت هناك مظاهر ديمقراطية ابرزها الانتخابات الدورية التي ظهر فيها واضحا التلاعب في صناديق المقترعين، وحرية اعلام نسبية.هناك مسالة يتوقف فيها الانسان كثيرا في غرابة هذا الغرب الذي ينادي بالديمقراطية، ففي الوقت الذي يبدون اعجابهم بملس زيناوي لكنهم وبخجل ينتقدونه، هيلاري كلينتون اشادة به في تعزيز الامن والسلام في المنطقة واكتفت بالاشارة من بعيد الى دعم الديمقراطية وحقوق الانسان في اثيوبيا واوضحت ان الاهتمام بامن المنطقة لم يتغير. قال “جوني كارسون” مساعد وزيرة الخارجية الامريكية للشؤون الافريقية، سواء كان المرء صديقا او منتقدا لملس زيناوي فهناك اجماع ان افريقيا فقدت واحدا من اعظم قادة الفكر فيها، لكنه يقول بالمقابل ان هناك حاجة الى المزيد من الديمقراطية حيث يجب القيام بما هو اكثر في تلك المنطقة. وقال “سي ابرها حقوص” القيادي السابق في تنظيم الوياني تجراي والذي قضى في السجن 6 سنوات، قال عن ملس “انه كان القانون وكان المحكمة” ولم يكن هناك اي رقابة او توازن في الحكومة.كان في ملس زيناوي بعض من صفاة القائد والزعيم، جاء الى الحكم والبلد مدمرا من كثرة الحروب التي خلفها نظام الامبراطور هيلي سلاسي وذاك العسكري منجستو هيلي ماريام، ومعارضة بعضها ناطحه في توجهات الحكم وبعض معارضيه من الامحرا الذي حكموا اثيوبيا بقوة 100 عام ويحلمون للعودة للحكم ولا يؤمنون باستقلال ارتريا والادهى من ذلك ان ديكتاتور ارتريا يحتضنهم. وكل هذه المعارضة اما سكنت السجون او اختارت المنفى. ملس زيناوي رحل حاملا معه احلامه وهمومه، كان يطمح لانجاز مشاريع تنموية ضخمة وبالمقابل ليجعل اقليم “تجراي” متقدما في المجال الاقتصادي والزراعي والعلمي ليستمر في حكم اثيوبيا.كان طريقه ملئا بتحديات كبيرة خاصة مع ديكتاتور ارتريا، واعتقد كانت هناك بينه وبين حاكم ارتريا احاديث ومناقشات سرية قبل الاختلاف احتفظ بسرها ورحل بها الى العالم الاخر.ملس زيناوي قدم بعض الانجازات التي لا يستهان بها لكن كل ذلك الانجاز تم لابراز مكانته القيادية الفردية ونسى حقيقة واحدة خلال حكمه الواحد والعشرون عاما انه لم يخلق مؤسسات دولة قوية تؤمن مستقبل البلد من اي اهتزاز من بعده، لو انجز ذلك لخلد بصورة اكبر، ها نحن نرى بوفاته اهتزت اثيوبيا واشفق العالم عليها كي لا تحدث هزات لا يحتملها هذا البلد الذي يعاني من الفقر والعوز.كاريزما ملس زيناوي حلت محل دور المؤسسات ومع اعلان مرضه الخطير الذي لم يعلن عنه احد من داخل اثيوبيا بينما اشارت مصادر خارجية ان زيناوي ربما تعرض لعملية تسميم واشار آخرون ربما يكون اصيب بمرض خبيث لكن نفس هذه المصادر تحدثت عن صراعات داخلية في الحزب الحاكم وقد اطلت براسها بين اقطاب تتطلع الى خلافته، لكن الاخطر من ذلك ان نشهد صراعات قومية تتحول الى حرب اهلية تقوم بها قوميتي “الامهرا” و “الاورومو” ضد تجراي الذين حكموا اثيوبيا 21 عاما.نحن نتمنى ان تجتاز القيادة الاثيوبية بحكمة واقتدار اجتياز هذه المرحلة بنجاح في اعقاب الغياب المفاجئ لملس زيناوي. في ختام مقالنا هذا نقول اننا اختلفنا مع قيادة ملس زيناوي في امران اساسيان: -الاول: استمرار احتلاله لارض ارترية وهي “بادمي” وهي لم تكن محل نزاع بين حاكم ارتريا ونظام ملس زيناوي بل هو قرار محكة دولية اكد واعترف انها ارض ارترية، وان الذهاب الى المحكمة الدولية لتفصل في هذا الامر برضاء الطرفين وبرعاية اطراف دولية. -الثاني: اختلفنا معه لانه حاول ان يجعل من المعارضة الارترية بيادق في شطرنجه من خلال ايجاد اطارات مصطنعة بصورة انتقائية وتهميش المعارضة التاريخية الاصيلة، وكان يستهدف من وراء ذلك لاسقاط النظام في ارتريا والاتيان بعناصر لقيادة البلاد لتكون اداة طيعة تدور في فلك سياساته، نحن وقفنا صراحة ضد مخططاته الملتبسة الغير واضحة المعالم. كنا نتمنى ان تتم علاقة استراجية بين المعارضة الارترية والنظام الاثيوبي تتسم بنوع من الشفافية باعتبار ان اثيوبيا تربطنا بها الجغرافية وتاريخ مليئ بالدم والخيانة والهيمنة منذ امد بعيد، وهذا لا يمكن ان يمحى الا بالوضوح التام والشفافية والحرص على مصالح الشعبين بشكل غير ملتبس. في النهاية يمكن ان نعود الى حديث قاله الرئيس الامريكي باراك اوباما، اوباما يقول: ان الشعوب الافريقية ليست في حاجة الى قيادة قوية بل الى مؤسسات دولة قوية. ____________________________* كاتب وديبلوماسي ارتري سابق ومحلل جيو-سياسي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى