مقالات

رحيل طائر الفينيق … صديق الثورة الإريترية بقلم / محمد عبد السيد

11-Jun-2014

عدوليس

إنتقل إلى رحاب مولاه بالقاهرة في الساعات الأولى من صباح الجمعة 30 مايو الصديق والزميل الصحافى محمد ( الشيخ)عبدالرحمن محمد صالح ،أول مدير لمكتب الشركة السعودية للأبحاث بالخرطوم ,وهي المؤسسة التي تصدر عنها صحيفة الشرق الأوسط ومطبوعات أخرى ، وعرف الصحافيون الاوائل في سونا الراحل باسم نوقس أحياتا وبالملك (المقابل العربي لنقوس الأمهرية) كثيرا ,

وقد هبط الراحل على مجتمع سونا منتصف السبيعينات يرافقه همس متبادل بين مدير الوكالة (مصطفى امين) ونائبه الراحل محمد حسني حواش وكان الهمس المسموع يتمحور حول ما أسمياه (خطورة القادم الجديد).
وزاد من توجس الصحفيين بقسم الأخبار العالمية بالوكالة وهو القسم الذى ألحق به عدم تناسب الوضع الوظيفي(مدخل خدمة الجامعيين) مع عمره الذي كان يقترب من عمرنائب المدير ، وعمق من شكوك زملائه أن الصحفيين الأقدم في الوسط كانوا لا يعرفونه ، وبرهن الراحل منذ اليوم الأول لعمله بهذا القسم على قدرة فائقة ومدهشة في ترجمة برقيات وكالات الأنباء العالمية عموما ووكالة الاسوشيتدبرس التي كانت تبث بلغة إنجليزيةعالية المستوي وموجهة للصحافه الامريكية على وجه الخصوص ’ وكان مستعدا ومتطوعا للعمل ساعات أكثر من المقرر ،وبدأت تتكشف لنا رويد رويداالأسرار المتعلقة بوصفه بالخطير وأسباب الأسى والحزن الباديان على ملامحه رغم الإبتسامات والضحكات التى ينتزعها إنتزاعا.
فقد كان الراحل عائداً من ست سنوات من الأهوال قضاها في سجون أو كهوف الإمبراطور الإثيوبى هيلا سلاسي ،تلقي فيها شتى أنواع التعذيب والتنكيل الذى كان عصيا على عقولنا قليلة الخبرات (25 عاما فأقل) إستيعابها ، وتعززت رواياته لاحقا بعد سقوط نظام الامبراطور . أما سبب سجنه فيعود إلى علاقته بالثورة الإرترية الوليدة آنذاك ، فقد وافق أو تبرع عام 65 لنقل رسائل من قادة الثورة الذين اتخذوا السودان حاضنه آمنة الى زملائهم في الداخل .
ولسوء حظه كانت مخابرات الإمبراطور على دراية بطبيعة علاقاته بالثوار خاصة تلك التى جمعته مع المناضل الراحل عثمان صالح سبى ، فألقى القبض عليه في مطار أديس وقدم لمحاكمة صورية ’ ويقول الراحل لزملائه المتحلقين مندهشين لوجوده حياً رغم صنوف التعذيب التى واجهها(فى لحظ النطق بالحكم وبعد تلاوة الحيثيات وقف القضاه منتصبين دلالة على أن الحكم هو الإعدام)وبعد فترة أبلغ الراحل أن الحكم إستبدل بالمؤبد حتى الموت ,ويضيف الملك إن الإستبدال لم يكن تخفيفاً أو رحمة به بل كان الغرض التعجيل بموته وأن يتحول الى أمثولة لمن تسول له نفسه دعم الثورة الاريتريه من السودانيين أو غيرهم ، ويحمد الملك ربه لأنه أفلت باعجوبه من عقوبة التعريض المفاجىء لأشعة الشمس بعد قضاء شهور في ظلام الكهوف الدامس, وهي حالة تصاب فيه أنسجة العين بألتلف ومن ثم العمي الدائم ,ويقول الراحل إن عناية الله أنقذته في اليوم المقرر، إذ حجبت سحابة ضخمة إستمرت ساعات النهار كله أشعة الشمس (وهى حالة تحدث فى إثيوبيا وإريتريا فى موسم الأمطار).
أما الواجب اليومى الذي لم ينقطع طوال فترة السجن فهو السير على الركبتين رافعا يديه جيئة وذهابا في ممرات الكهوف .
بعد انهيار حاجز التوجس اكتشف الزملاء أن للرجل صفات بارزة منها الورع والصدق في كل الحالات والإستعداد الدائم لحل مشكلات الغير عبر شبكة علاقات مدهشة وكان مثيراً لإستغرابنا لجؤ قيادات من الختميه الكبار لاستشارته أو تحميله رسائل لقيادات مايو بل كان هناك من قادة النظام من يلجأ إليه.
وللراحل دور مميز في أحداث يوليو 76(غزوة الجبهة الوطنية) فقد حول منزل الأسرة في الخرطوم الى ملجأ آمن لعدد من المسئولين الذين كانوا في المطار لحظة الهجوم وتقطعت بهم السبل . أما الدور الأبرز الذي كشف سره السيد بونا ملوال وزير الإعلام مؤخرا أن الراحل كان حلقة الوصل بين اللواء الباقر النائب الأول للرئيس والذي كان يدبر العمليات من القصر ضد مسلحى المعارضه وبين المسؤلين سواء في مكامنهم السريه أو المكاتب الحكومية غير المرصودة ،ويقول بونا إن الراحل كان يجوب العاصمة حاملا الرسائل تحت أزيز الرصاص راكبا دراجة يمر بها على مرأى من المجموعات المسلحة .
رحم الله الراحل فقد كان محبا للمغامرة في القضايا التى يؤمن بها ووفيا تجاه الذين آزروه في ساعة الشدة, والوفاء هي كلمة السر في علاقته بالرئيس الراحل جعفر نميرى فقد قرر تطوعا أن يكون ملازما للرجل طوال فترة بقائه لاجئا بالقاهره إذكان الملك خلال أنتفاضة إبريل 85 ملحقا كمسئول إعلام وعلاقات عامه بصندوق التكامل السودانى المصرى بالعاصمة المصرية,وكان الراحل يقدر بشكل تتغلب فيه العاطفة على ما عداها , ما تعرض له نميرى من إحراج من هيلا سلاسي مرتين فى سعيه لفك أسره ’ وقال إن والده الشيخ عبد الرحمن إمام وخطيب مسجد فاروق الذى يؤمه كبار المسؤلين ستينات القرن الماضى قدم شرحا مستفيضا لنميرى عن أوضاع إبنه المزرية في سجون الإمبراطور والتى كان يطلع عليها من إريتريين ودبلوماسيين سودانيين ،فوعده نميرى بالسعى للإفراج عنه ،ولكنه فوجئ بتصلب الإمبراطور وحاشيته ،وكرر المحاول مره ثانيه في لقاء جري بأديس فتلقى ردا جافالا يتصف بالدبلوماسيه الواجبة بين رئيسى دولتين جارتين .
ويضيف الملك إن الدكتور منصور خالد وزير الخارجية الذي كان طرفا في التوسط أقنع نميرى بتجاوز ما تعرض له من حرج وأن يطلب من الإمبراطور للمرة الثالثة عام 72 اطلاق سراح الراحل .وكان تقدير منصور أن هيلا سلاسي لن يرفض هذه المرة لأنه كان سعيدا بالدور الذي لعبه في اتفاقيه الحكم الذاتى لجنوب السودان الموقعة في ذلك العام ,وبدى واثقا أن حكومة نميرى ستبادله الخطوة بطرد الثوار الإريتريين من السودان , وبالفعل وكما قدر دكتور منصور إستجاب هيلا سلاسي وأمر بإطلاق سراح فقيدنا على أن لا يسمح له برؤية شوارع اديس وبذا يكون قد قضى ست سنوات في إثيوبيا دون أن يري غير المطار والكهوف .
خالص العزاء لأسرته في الخرطوم ودنقلاوالقاهرة ولأصدقائه من الشعب الإريترى الشقيق،ونرفع الأكف ضارعين الى المولى عز وجل أن يتغمد عبده محمد بوافر مغفرته ،ويسكنه فسيح جناته مع الصديقين والشهداء وحسن اولئك رفيقا .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى