شمال يوغندا.. خلفية النزاع وفرص نجاح عملية السلام «1-2» : ياسين محمدعبدالله
3-Sep-2006
المركز
تجري هذه الأيام في مدينة جوبا مفاوضات بين الحكومة اليوغندية وجيش الرب برعاية حكومة جنوب السودان. نجاح هذه المفاوضات وتوصل الطرفين إلى اتفاق سلام سيؤدي إلى إنهاء واحدة من أكبر المآسي الإنسانية التي لم يولها المجتمع الدولي ما تستحق من اهتمام، وسيعد هذا إنجازا كبيراً لحكومة جنوب السودان
ليس فقط بسبب ما سيوفره حل هذه المشكلة من أجواء أفضل لانطلاق عملية التنمية في الجنوب، بل أيضا لأن هذا الدور سيؤكد للمجتمع الدولي على جدارة هذه الحكومة وتحليها بالمسؤولية والشجاعة الكافيين لتدير على نحو خلاق شؤون إقليمها. هذه قراءة لخلفية النزاع في شمال يوغندا، وفرص عملية السلام التي ترعاها حكومة الجنوب.خلفية النزاع:يعاني شمال يوغندا منذ أكثر من عشرين عاما، من حرب أهلية خاضتها ضد الحكومة المركزية مجموعات مختلفة من الحركات المتمردة، بقي منها الآن فصيل واحد هو جيش الرب للمقاومة. وقد اتخذت الحرب الأهلية من أراضي الأشولي، الذين ينتمون لمجموعة القبائل النيلية ويعيش بعضهم في جنوب السودان، ويشكلون أكثر من 4% من سكان يوغندا البالغ عددهم ثمانية وعشرين مليوناً تقريبا، مسرحا لها. بدأت معاناة الأشولي من الحرب الأهلية بعد انتصار موسفيني على الجنرال المنتمي إليهم تيتو أوكيلو 1996-1914م» الذي كان بدوره قد قاد انقلاباً على ملتون أبوتي في التاسع والعشرين من يوليو 1985م، فبعد دخول قوات موسفيني إلى كمبالا في الخامس والعشرين من يناير 1986م، انسحب مقاتلو أوكيلو شمالا وأسسوا في أغسطس من نفس العام الجيش الشعبي الديمقراطي اليوغندي الذي شن من هناك حربا ضد الحكومة. وارتكب الجيشان الحكومي والمتمرد انتهاكات خطيرة بحق السكان المحليين. انتهت هذه الحرب بموافقة بعض أعضاء الجيش الشعبي الديمقراطي على العفو الذي أصدرته الحكومة في عام 1988م، لكن الأشولي خسروا نتيجة للمواجهات التي جرت في مناطقهم، بجانب خسائرهم البشرية، 98% من قطعانهم. وهمشوا منذ ذلك الوقت في الحياة السياسية والاقتصادية اليوغندية. وفي عام 1987م تأسس جيش آخر في شمال يوغندا هو قوات الروح المقدسة المتحركة بقيادة الوسيطة الروحية أليس أوما المعروفة بلاكوينا، وهي تنتمي أيضا للأشولي. وبجانب سعيها لإسقاط نظام موسفيني، اعتبرت الحركة إن من مهامها تخليص الأشولي من ذنوبهم. وفي أكتوبر 1987م تمكن الجيش الحكومي من هزيمة قوات الحركة، مما أدى إلى هروب مؤسستها إلى كينيا حيث لا تزال تعيش هناك. وواصل والد لاكوينا القتال بعد فرارها حتى قبض عليه في 1989م، وفي هذا الوقت برز الوسيط الروحي جوزيف كوني كقائد للقوى الرئيسة من الأشولي التي تقاتل ضد الحكومة، وهو مولود في مقاطعة قولو في مطلع ستينيات القرن الماضي، ويمت بصلة قرابة للاكوينا. وبينما جندت لاكوينا لجيشها من مقاطعة كتقوم، جند كوني قواته من مقاطعة قولو التي ينتمي إليها. ومنذ عام 1992م صارت قوات كوني تعرف باسم جيش الرب للمقاومة. ولا يعرف عن أهداف هذا الجيش سوى سعيه لإسقاط حكومة موسفيني وإقامة نظام يطبق الوصايا العشر الواردة في الإنجيل.في بداية انطلاقة جيش الرب قام الجيش الحكومي بعملية كبرى ضده عرفت باسم «عملية الشمال»، تم خلالها تأسيس قوات محلية للدفاع عن النفس زادت من شراسة الحرب ومن معاناة السكان المحليين. وأدى رد الفعل القاسي على العملية من قبل قوات كوني إلى فقدان جيش الرب أغلب الدعم المحلي، فتراجعت قدراته خلال عامي 1992 و1993م. وتصاعدت عمليات جيش الرب خلال عامي 1994 و1995م وارتكب الجيش، الذي يتكون من الأشولي ويفترض أنه يدافع عنهم، انتهاكات فظيعة ضدهم، بالاستناد إلى شعوذة دينية تخلط بين مفاهيم الدين المسيحي والموروثات القبلية الغيبية. ويعتبر عام 1996م الأكثر عنفا في هذه الحرب، وقد سيطر جيش الرب على الريف نتيجة للمعارك التي جرت فيه. وبدأ جيش الرب في هذا العام باختطاف الأطفال وصار يجند الذكور منهم ويزوج الإناث من قياداته. وقد قدرت بعض المنظمات الدولية عدد الأطفال المختطفين في الأعوام العشرة الماضية بـ 25000 طفلاً. وقررت الحكومة في أكتوبر من نفس العام نقل سكان إقليمي قولو وبادر إلى قرى محمية لتحرم جيش الرب من فرص الحصول على الغذاء والمجندين من بين هؤلاء السكان. وفي فبراير 1997م كان 80% من سكان مقاطعة قولو يعيشون في هذه القرى.وجاء في مذكرة بعثت بها إلى الرئيس اليوغندي مجموعة من اليوغنديين وأصدقاء ليوغندا في التاسع من سبتمبر 2003م، أن إقليم الأشولي تعرض لانتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان، وأن الجيش اليوغندي الحكومي وجيش الرب للمقاومة مسؤولان سوياً عن الانتهاكات التي ارتكبت في الإقليم وفي مناطق أخرى من البلاد، فقد قتلا وعذبا واغتصبا واختطفا وهجرا آلاف المدنيين الأبرياء. وقالت المذكرة إنه منذ 1986م قتل خمسمائة ألف شخص في شمال يوغندا أغلبهم من الأطفال. وانتقدت المذكرة رفض الحكومة اليوغندية تقديم الغذاء للمواطنين الذين هجرتهم بنفسها إلى تلك القرى. وبينما قامت فكرة ترحيل القرويين على أساس حمايتهم من جيش الرب، إلا أن القوات الحكومية تختار دائما وسط هذه القرى كأماكن لتمركزها، وتضع المواطنين على الأطراف مستخدمة إياهم دروعا بشرية في مواجهة هجمات جيش الرب. وتُقدر عدد الوفيات في هذه القرى بمعدل الألف في الأسبوع، تتسبب فيها بجانب هجمات جيش الرب وردود أفعال الجيش الحكومي، الأمراض مثل الملاريا وسوء التغذية والإيدز الذي استثنت الحكومة فيه الشمال من حملتها الوطنية الناجحة لمحاربته. وقد صرح جان إغيلاند مساعد الأمين العام للشؤون الإنسانية في نهاية 2003م لإذاعة «بي بي سي» بأنه لم يشاهد مكانا في العالم في وضع طوارىء دون أن يجد اهتماما دولي مثل ذلك الموجود في يوغندا.لقد اعتقد موسفيني دائما أن بإمكانه إنهاء جيش الرب من خلال القتال، ومع أنه فشل في كل مرة حاول فيها ذلك، حتى عندما سمحت له الحكومة السودانية بمطاردته داخل الأراضي السودانية، إلا أن ظل حتى مطلع هذا العام مصراً على حسم جيش الرب عسكريا. ويقال إن أسباب فشل الجيش اليوغندي في القضاء على جيش الرب، تعود إلى تفشي الفساد بين ضباطه وعدم كفاءة هذا الجيش وافتقاره للمعدات المناسبة. وتعد محاولات الوساطة التي قامت بها الوزيرة اليوغندية السابقة التي تنتمي لقبيلة الأشولي بيتي يقمبي أثناء تقلدها كرسي الوزارة «1996-1986م»، أهم المحاولات التي جرت لحل المشكلة من خلال التفاوض. والتقت يقمبي لأول مرة بقائد جيش الرب جوزيف كوني في يونيو 1993م ورتبت لمفاوضات بين الجانبين توقفت في فبراير 1994م، بعد أن شارفت على النجاح بسبب إمهال الحكومة جيش الرب سبعة أيام للاستسلام. وقامت مجموعة من كبار السن من الأشولي بمحاولة أخرى للتوسط بين الحكومة وجيش الرب في عام 1996م، لكن المحاولة انتهت بمأساة عندما قتل جيش الرب اثنين من الوسطاء. وبذلت جهات أخرى محاولات عديد لإنهاء هذه المأساة، لكن كل هذه المحاولات اصطدمت بعدم رغبة موسفيني في التفاوض مع جيش الرب.وبعد هجمات سبتمبر 2001م اعتبرت الولايات المتحدة الأميركية جيش الرب منظمة إرهابية. وكانت في مطلع التسعينيات اعتبرت موسفيني أحد قادة أفريقيا الجدد بجانب رؤساء أفارقة آخرين، وهو التصنيف الذي لم يعد يستخدم منذ اندلاع الحرب الإثيوبية الإريترية في عام 1998م.وقام موسفيني في ديسمبر 2003م بتحويل قضية جيش الرب للمحكمة الجنائية الدولية، والتقى في يناير 2004م في لندن بالمدعى العام للمحكمة لمناقشة الموضوع. ورأت المحكمة أن هناك أسسا موضوعية للبدء في التحقيق حول ممارسة هذا الجيش. وفي يوليو 2005 أصدرت الغرفة الثانية في المحكمة مذكرات توقيف بحق خمسة من قيادات جيش الرب بينهم جوزيف كوني قائد الجيش. وأعلنت المحكمة عن المذكرات بتاريخ 13/10/2005م. وأشارت في المذكرات إلى إنها تود محاكمة هذه المجموعة للجرائم التي ارتكبتها منذ يوليو 2002م، وعددت في كل مذكرة التهم الموجهة ضد الشخص الصادرة بحقه. وبلغت التهم الموجهة إلى جوزيف كوني اثنتين وثلاثين تهمة، بينها تهم تندرج تحت تعريف الجرائم الموجهة ضد الإنسانية، مثل القتل والاغتصاب والمعاملة غير الإنسانية، وأخرى تندرج تحت تعريف جرائم الحرب، مثل الهجوم على المدنيين ومعاملتهم بقسوة والتجنيد القسري للأطفال والاختطاف. ووجهت تهم مماثلة لزملائه الآخرين. وتعتبر مذكرات التوقيف بحق قادة جيش الرب أول مذكرات توقيف تصدر عن المحكمة منذ الإعلان عن بدء عملها في يوليو 2002م وقد طلبت المحكمة إلى الجهات المعنية المساعدة في اعتقال مجموعة الخمسة. وفي يناير 2006م قامت قوة تابعة لقوات الأمم المتحدة لحفظ السلام في الكنغو الديمقراطية تتكون من ثمانية جنود غواتماليين، بمحاولة في شرق الكنغو لاعتقال أو قتل فنست أوتي نائب قائد جيش الرب، وأحد الذين صدرت بحقهم مذكرة توقيف، إلا أن جيش الرب تمكن بعد معركة استمرت أربع ساعات من قتل كل أفراد المجموعة. وفي 12/8/2006م تمكن الجيش الحكومي اليوغندي من قتل أحد أفراد المجموعة، ليتبقى أربعة منهم. وقد تسبب مقتل هذا القائد في توقف المحادثات الجارية بين جيش الرب والحكومة اليوغندية في مدينة جوبا لمدة ثلاثة أيام، لأن فريق جيش الرب المفاوض قال إنه في حال حداد على قائده القتيل.