مقالات

مآلات «كيان» إثيوبيا.. حرب المادة 39 وتفكيك دولة الإمبراطور منيليك

بواسطة ذات مصر

عبد الجليل سليمان

كثيرًا ما يخفق استدعاء التاريخ من أجل تفسير الراهن، في الوصول إلى نتائج منطقية ومعقولة؛ لكن سيحدث العكس عند التصدي لتحليل حالة إثيوبيا الماثلة، فشعوب هذه المنطقة من القرن الأفريقي، ونُخبها على وجه الخصوص، لديهم شغف كبير بالتاريخ وولع بالماضي، بشكلٍ أقرب إلى اللوثة أحيانًا.

لا يخلو حديث سياسي، ولا مُحاججات فكرِّية أو حوارات سلميِّة أو نقرات على طبول الحروب، من العودة إلى التاريخ لتفسير ما يحدث الآن وهنا. لذلك، فإن مخاطبة الرأي العام في إثيوبيا ربما لن تكون ذات جدوى إن لم تصاحبها زخات من التاريخ، مثلما سنفعل في توطئة هذا المقال.

مكونات إثيوبيا.. أحباش وإثيوبيون

كانت الحبشة التاريخية تضم قوميتي تيجراي وأمهرا، وهي شعوب تَدَّعي نسبًا إلى اليمن وإلى الملكة بلقيس والنبي سليمان. وظلت هذه الشعوب، التي تتحدث نوعًا من اللغات السامية، السبئية؛ تتحكم نوعًا ما في رقعة جغرافية تمتد من إقليمي تيجراي وأمهرا الحاليين إلى مرتفعات إريتريا وأجزاء من ساحل البحر الأحمر، حيث أسست ممالك عديدة، أشهرها أكسوم؛ بل حكمت اليمن وشمال وشرق السودان الحالي لقرون عديدة.

إلى ذلك الوقت وبعده، كانت الشعوب التي تتعرض في الغالب لغزوات الأحباش، هي الشعوب الإثيوبية التي تعيش من جنوب مصر إلى شمال أكسوم الحبشية، ثم إلى الجنوب من أكسوم في أقاليم الأرومو والصومال والعفر، وهي شعوب كوشية، تعد الأقدم في المنطقة.

إثيوبيا الحديثة.. دولة منيليك

إلا أن الإمبراطور الحبشي منيليك الثاني (1844 – 1913) انتبه إلى ضرورة إرضاء الشعوب الإثيوبية التي غزاها وضمها إلى إمبراطوريته الناشئة، فأطاح باسم الحبشة الذي يرمز فقط إلى قوميتي تيجراي وأمهرا وبعض المجموعات الإريترية، مما تعرف حالياً بالتيجري والتيجرنيا؛ واستبدل به إثيوبيا التي تشمل طيفًا واسعًا من الكوشيين (السكان الأصليين) للمنطقة الممتدة من جنوب مصر بين البحر الأحمر والنيل، إلى عمق الصومال الحالي.

أسقط منيليك الثاني اسم الحبشة واستبدل به إثيوبيا

ومنذ تلك اللحظة، لم يعد للحبشة وجود إلا لدى القوميات المحدودة التي تعود أصولها إلى اليمن، في كل من إثيوبيا وإريتريا الراهنتين.

بطبيعة الحال، ظل الصراع على الحكم في إثيوبيا على مدى قرون يدور بين الأحباش (الساميين) والإثيوبيين (الكوشيين)، إلى أن حُسم لصالح الفئة الأولى، فدان لها الأمر، قبل أن تنقسم على نفسها أمهرا وتيجراي، فتحيل إثيوبيا جحيمًا لا ينتهي من الموت والدم، كما يحدث الآن.

حرب المادة 39

بيد أن اللحظة المفصلية المؤسسة في التاريخ السياسي الإثيوبي الحديث لم تكن باستيلاء الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي (TPLF) على الحكم بعد إطاحتها بنظام الكولونيل منجستو هايلي ماريام، ووصولها العاصمة أديس أبابا عام 1991؛ بل فيما تلى ذلك من إطلاق للدستور الإثيوبي الجديد، القائم على مبدأ الفيدرالية العرقية-القومية الذي أُقرَّ من قبل الجمعية التأسيسية (مجلس النواب) في أواخر أكتوبر 1994، بـ106 مواد موزعة على 11 فصلًا.

منجستو هايلي ماريام

وتمثل المادة 39، التي تقر بحق الشعوب الإثيوبية في تقرير مصيرها والانفصال عن الوطن الأم، المادة الأكثر إثارةً للجدل، حتى يمكن القول إنها المحركة للأحداث الراهنة في إثيوبيا، وتمنح الحرب الأهلية بُعدًا قانونيًا تحاجج به الأطراف المنخرطة فيها بعضها بعضًا؛ حيث إن المادة نفسها تفرض شروطًا قاسية، ربما تعجيزية، لتحقيق الانفصال، فترهنه بضرورة تصويت ثلثي أعضاء البرلمان لصالحه، ثم يعقب ذلك تنظيم استفتاء شعبي واسع النطاق بعد مرور ثلاث سنوات على تصويت البرلمان. ويستلزم الاستفتاء حال نجاحه، موافقة رسمية من مجلس النواب، ثم يُحال الأمر برمته إلى المحكمة الدستورية والمجلس الفيدرالي، اللذين منحهما الدستور نفسه الحق في نَقْد ومراجعة وإعادة النظر في ذلك.

اقرأ/ي أيضًا: الفلاشا ليسوا غرباء.. رواية أخرى عن يهود إثيوبيا: اليمن أرض ميعادهم

لذلك فإن الحرب التي تدور رحاها الآن في إثيوبيا بين الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي، الحزب الحاكم السابق، وتحالف الازدهار الذي أطلقه رئيس الوزراء الحالي آبي أحمد علي، على أنقاض تحالف الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية، مدعومًا من ميليشيات قومية الأمهرا التي تحاول استعادة السلطة في أديس أبابا. وباستبعاد مشاركة إريتريا التي تبدو ثأرية لخسارتها حرب الحدود على مثلث بادمي الإريتري، التي خاضتها في مواجهة الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي (1998- 2000)؛ تبدو بالنسبة للأطراف الإثيوبية المنخرطة فيها، قائمة على تأويلات دستورية محضة. إنها حرب المادة 39 من الدستور الإثيوبي.

تفكيك التفكيك

ترى نخب الأمهرا المتحالفة مع رئيس الوزراء آبي أحمد، كما يرى هو نفسه، أن المادة 39 ستطيح بإثيوبيا الموحدة، وقد تسهم في تفكيكها إلى دويلات هشة وضعيفة، فيما يرى التيجراي وكثير من الشعوب الإثيوبية الأخرى، أن المادة نفسها وإن أقرت حق تقرير المصير، فإنها رهنته بشروط يعتبر تحققها ضربًا من المستحيل، وأن محاججات النُّخب الأمهرية بخصوص المادة إنما هي محض ذر للرماد في العيون، وأنهم يريدون فقط إعادة إثيوبيا إلى النظام المركزي، تمهيدًا للسيطرة عليها واضطهاد بقية القوميات.

لن يجادل أحد في أن طرح الفيدرالية الإثنية نظامًا للحكم في إثيوبيا، لا يزال يجد قبولًا ودعمًا كبيرين؛ خصوصًا أنه أتاح للأقليات والقوميات الكبيرة المضطهدة عبر القرون، مثل الأرومو، الوصول إلى الحكم، وتحقيق مكاسب نوعية في التعليم وفرص التجارة والاستثمار، والوجود في مراتب عليا بأجهزة الأمن والاستخبارات وقيادة الجيش.

رئيس الوزراء آبي أحمد

أما فيما يتعلق بما يطفو على السطح من توترات عرقية هنا وهناك، فإن من شأن التنمية الاقتصادية والنمو المطرد وخلق فرص متوازنة للعمل، وتحول إثيوبيا من دولة منتجة ومصدرة للمواد الخام، إلى صناعية؛ أن يكرِّس بمرور الوقت مجتمعات منصهرة تقوم العلاقة فيما بينها على المصالح المشتركة لا العرقية، وربما على الانتماء الطبقي أيضًا لا العرقي.

وقد بدأ هذا بالتحقق فعلًا، إذ تمكنت حكومة تيجراي المنصرمة من إيجاد طبقة من التكنوقراط والرأسماليين والسياسيين من أبناء الشعوب الإثيوبية المختلفة، يديرون الدولة ومؤسساتها في تناغم أساسه الحفاظ على مصالحهم المشتركة ومكاسبهم الجديدة، بعيدًا عن انتماءاتهم العرقية والجهوية. هذا الوضع نفسه هو ما أنتج شخصًا مثل آبي أحمد، فما كان لولاه سيحظى بفرصة مماثلة، كأول أرومي يتولى هذا المنصب الرفيع في تاريخ إثيوبيا الحديث.

يمكن القول إذن، إن آبي أحمد الذي يحاول إعادة عقارب الساعة إلى الوراء والإطاحة بالمادة 39 التي أنجبته من رحمها؛ سيكون أول ضحاياها في غالب الأمر، هذا إن لم تتفكك إثيوبيا التي بُنيت بالكامل دستوريًّا واقتصاديًّا وكيانًا سياسيًّا على هذه المادة، التي أصبحت بدورها مثل ذلك الكلب، إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى