مقالات

ماذا يجرى في إرتريا؟ : حجي جابر *

25-Jan-2013

hglv;.

قبل الخوض فيما جرى في إرتريا صبيحة الاثنين الحادي والعشرين من الشهر الجاري ينبغي المرور ولو سريعاً على أسباب شح المعلومات الواردة من أكثر دول العالم انغلاقاً، وهو ما جعل وكالات الأنباء تجهد كثيراً في محاولة التقاط أي إشارة عن الوضع هناك، حتى بلغ الأمر ببعضها إيراد نبأ نقلاً عن موقع إرتري معارض مختص بمقالات الرأي، كان قد أورد النص أصلاً على سبيل التكهن والتخمين!

أصبح الحصول على أي معلومة من إرتريا أمراً في غاية الصعوبة، وسط ثورة يعيشها العالم في المعلومات وفي حرية انتقالها بوسائل شتى، وذلك للأسباب التالية:- لا يوجد في إرتريا أي وسيلة إعلام مستقلة، وليس بمقدور أي وسيلة العمل في إرتريا إلا بشروط وتحت ظروف صعبة. كما إن البلاد ليس بها سوى تلفزيون واحد وإذاعة واحدة وصحيفة واحدة، وجميعها حكومية.ومع بداية الربيع العربي تجاهل الإعلام الإرتري كل أخبار الثورات وكأنها لم تحدث بالأساس. كما تم فرض غرامات على المقاهي والأماكن العامة التي تنقل لروادها بث القنوات الإخبارية العربية. وأخيراً هناك ضريبة “رفاهية” على من يمتلك لاقط قنوات فضائية في منزله!- خدمة الإنترنت في إرتريا ضعيفة للغاية، وعادة ما تتوفر في أماكن حكومية أو في فنادق تابعة لها، مع حظر لمعظم المواقع الإخبارية.- لا يُسمح لأي مواطن باستخراج “شريحة” هاتف نقال ما لم يكن له سكن ثابت، مع انعدام خاصية إرسال الرسائل النصية خارج البلاد. ويُمنع إعارة هذه الشريحة لآخرين، وبالتالي لا يُسمح باستخراج شريحة هاتف لأي مواطن يعيش في الخارج، ناهيك عن الزوار من غير الإرتريين. كما إن أي شريحة دولية لا تعمل داخل إرتريا.- يُحظر على أي مواطن إرتري مغادرة البلاد بشكل طبيعي عبر منافذ البلاد المختلفة ما لم يحصل على تصريح للسفر تبدو شروطه تعجيزية، وعلى رأسها الانتهاء من الخدمة الإلزامية، وهذا أمر تتجلى صعوبته عبر النقطة التي ستأتي تالياً، لكن هذا الحظر لا يتوقف عند هذا الحد، إذ يتوجب الحصول على تصريح أمني للتنقل من مدينة إرترية إلى أخرى.- ليس هناك أمد محدد للانتهاء من أداء الخدمة العسكرية، بحيث يقضي المواطن جلّ حياته رهن الخدمة الإلزامية. وبعد أن كان الشاب يلتحق بالجيش عقب انتهائه من الجامعة ويُعفى منه حين يبلغ الستين، استطال الأمر حتى أصبح لزاما على من ينتهي من المرحلة المتوسطة (الصف التاسع) أن يلتحق بالجيش ويكمل دراسته الثانوية والجامعية هناك إن أراد.كما تم اعتبار من تجاوز الستين من عمره جندي احتياط. أما الذين يعملون في المصانع والدوائر الحكومية فهم جنود احتياط، لكن حالهم أفضل كثيراً ممن تتناولهم الفقرة التالية.- في حالة اللاحرب -وهي قليلة في الحالة الإرترية- يتم تشغيل الجنود في شق الطرق وبناء المساكن وحفر الآبار، إضافة إلى العمل في المصانع حكومية، وجميع تلك المشاريع تتبع شركة البحر الأحمر المملوكة للدولة، والتي تدفع لهم مبلغا شهريا لا يتجاوز في أحسن الأحوال 15 دولاراً.هذه الأمور وغيرها، جعلت من إرتريا كما أسلفت إحدى أكثر دول العالم انغلاقا، وحدّ من قدرة وكالات الأنباء على تقصي حقيقة ما جرى ويجري. لكن ماذا جرى بالضبط صبيحة الاثنين الحادي والعشرين من الشهري الجاري؟* معلومات متفق عليها:- اقتحمت مجموعة عسكرية لا يتعدى قوامها 200 جندي، مبنى وزارة الإعلام، الذي يضم التلفزيون ERI TV وإذاعة صوت الجماهير وصحيفة إرتريا الحديثة، إضافة إلى مكتب وزير الإعلام وبقية موظفي الوزارة.- خرج مدير التلفزيون والمتحدث الرسمي باسم الحكومة “إسملاش” وألقى بيانا مقتضبا باللغة التغرنية وعد فيه، (وليس طالب) بالنقاط التالية:1- الإفراج عن السجناء السياسيين2- تفعيل دستور عام 1997 قبيل الحرب مع إثيوبيا.3- رفع حالة الطوارئ، وإنهاء خدمة العلم الإلزامية طويلة الأمد.4- إنهاء التمييز لأسباب دينية أو عرقية.- انقطع بث التلفزيون الإرتري عقب البيان لساعات قبل أن يعود في وقت متأخر من مساء نفس اليوم ببرامج مسجلة، ونشرات أخبار حية، لكن دون أن يرد فيها أي ذكر لسبب الانقطاع، أو أي ذكر لتطويق الوزارة بدبابات الجيش.- لوحظ خلو كامل بث المحطة بما فيها نشرات الأخبار من أي ذكر للرئيس اسياس أفورقي سواء بالسلب أو بالإيجاب، ولم ترد صور له سواء ثابتة أو متحركة، كما لم يتم التطرق لأي شأن دبلوماسي أو بروتوكولي بين إرتريا وأي دولة أخرى من قبيل التهاني والبرقيات.- لوحظ إيراد خبر عن إثيوبيا للمرة الأولى في اتجاه إيجابي( خبر تعادل منتخب إثيوبيا مع زامبيا في بطولة أمم إفريقيا الجارية حاليا في جنوب أفريقا. الخبر حمل إشادة ضمنية بمستوى المنتخب الإثيوبي)، علما أن التلفزيون لم يُعرف عنه إيراد أي خبر عن إثيوبيا ما لم يكن في الاتجاه السلبي.- لم يظهر رئيس البلاد بشكل علني في أي مناسبة أخرى بعيداً عن التلفزيون، ولم يظهر أي طرف محسوب عليه. ولم تُصدر أي سفارة تابعة للنظام أي تعليق حول ما جرى ويجري. في المقابل لم يظهر كذلك أي طرف يعلن عن نفسه كمناوئ للرئيس.- اكتفى مفتي البلاد بتهنئة الشعب والقوات المسلحة بذكرى المولد النبوي وتجاهل تماما الرئيس اسياس أفورقي* السيناريوهات المحتملة:فيما يلي أبرز السيناريوهات المحتملة لما جرى ويجري، اعتماداً على إشارات وشهادات من الداخل والخارج، قد تبدو أحيانا متناقضة، وهو ما أوجب تقييمها وفقا لمعطيات أخرى متعددة يرد ذكرها تباعاً.السيناريو الأول:قامت مجموعة محدودة من الجنود بمحاولة انقلابية سيطرت خلالها على وزارة الإعلام لبعض الوقت، قبل أن يحاصرها الجيش ويقضى عليها.- هذا السيناريو ضعيف لأن الأهالي لم يشهدوا قتالا في محيط الوزارة الواقعة في تلة مطلة على العاصمة، وتحيط بها العديد من المنازل.- وهو ضعيف لأن العملية لم تنتهي ببيان يلقيه المنتصر (الجيش في هذه الحالة)، في رد على بيان الانقلابيين الأول.- وهو ضعيف لأن أيا من موظفي وزارة الإعلام لم يُصب بسوء بل تمكنوا من العودة إلى بيوتهم رغم حظر التجوال.- وهو ضعيف لأن أي مجموعة انقلابية لن تذهب بكامل قوتها لمحاصرة التلفزيون وتترك القصر الرئاسي الذي يبعد أمتاراً أو حتى منزل الرئيس غير البعيد من وزارة الإعلام.السيناريو الثاني: القوة المتمردة لا تزال تسيطر على التلفزيون وتتحصن داخله، دون أن يتمكن الجيش من دحرها.- هذا أيضاً احتمال ضعيف بسبب عودة البث، ولتمكن الموظفين من التحرك من وإلى عملهم ولعدم وجود قتال في محيط التلفزيون.- وهو ضعيف لأن الجيش الإرتري -كغيره من الجيوش- لا يتهاون أبدا أمام عملية تمرد، خاصة وهي بهذا العدد المحدود.السيناريو الثالث:أخلى الانقلابيون محيط التلفزيون وعادوا إلى ثكناتهم نتيجة لتفاهم ما، مع وعود بتحقيق أو النظر في مطالبهم.- هذا الاحتمال رغم كونه غريبا فإنه وارد، لوجود سابقة مشابهة حدثت العام 1993، حين احتجت مجموعة عسكرية على سوء أوضاعها، فتم حل المشكلة بوعود شخصية من الرئيس.- لكن ما يُضعف هذا الاحتمال أن المطالب هذه المرة ليست خدمية، بل تتعلق بمطالب ذات سقف عالي، تقدح في طبيعة النظام القائم، وسبق أن سُجن لأعوام طويلة كل من طالب أو لمح لهذه الأمور.- ويُضعف هذا الاحتمال أيضا أن الرئيس لم يحقق وعوده العام 93، بل قضى على قيادات المجموعة المحتجة.السيناريو الرابع:هذه المجموعة هي عينة بعث بها الجيش الذي أصبح في سيطرة قادة مناوئين للرئيس، كنوع من استعراض للقوة وهو يسيطر الآن تماماً ع الوضع ويطوّق اسمرا ومطلبه الوحيد تنحي الرئيس اسياس أفورقي.- هذا احتمال قد يكون وارداً ويحظى برواج وتدعمه الأمور التالية:- خلافات لم تعد سراً بين الرئيس وقادته العسكريين الكبار، وتململ عام في صفوف الجيش الذي يعاني أوضاعا سيئة بعد خوض حروب منهكة مع جيرانه.- خطاب الرئيس بمناسبة رأس السنة وصف بالمحبط، ففي حين كان يتوقع الجميع الترحيب بالدعوة التي وجهتها إثيوبيا للحوار، رفض الرئيس الدعوة وأعلن استمرار حالة العداء.- يدعم هذا الاحتمال أن المجموعة التي حاصرت التلفزيون هي التي كانت تقوم بنقل الموظفين من وإلى الوزارة، دون أن يعترض هذا التحرك أحد.- يدعم هذا الاحتمال أيضاً عدم ظهور الرئيس أو من يحُسب عليه في أي شأن داخلي أو خارجي.- يدعم هذا الاحتمال كذلك أن سفارات النظام في مختلف دول العالم لم يصدر عنها أي بيان لصالح الرئيس أو ضده، وهو ما قد يشير ربما إلى انقطاع التواصل المباشر بين القيادة وممثلياتها في الخارج، أو يعكس على أقل تقدير نوعاً من الارتباك.- أخيراً سبق هذه الأحداث ببضعة أسابيع اختفاء وزير الإعلام علي عبده أحد أقرب المقربين إلى الرئيس، وأكثر من يحظون بحمايته الشخصية، وسط تقارير تتحدث عن مغادرته البلاد وطلبه اللجوء في دولة غربية. هذا الأمر رأى فيه البعض مؤشرا على ضعف قبضة الرئيس وبداية فقدانه السيطرة على الأمور.أخيراً يظل كل ما سبق نوعاً من التحليل ومحاولة لقراءة المشهد الإرتري، بينما تبقى الأيام القادمة كفيلة بإجلاء الحقيقة عبر تحقق أحد الأمور التالية:- ظهور الرئيس اسياس أفورقي- إلقاء بيان باسمه أيا كان محتواه- ظهور متحدث باسم الانقلابيين (بدأ يُطلق عليهم “الحركة التصحيحية)- إلقاء بيان ثان باسم الانقلابيين.- تحقق أحد الوعود الواردة في بيان الانقلابيين الأول، وبالخصوص الإفراج عن معتقلي الرأي.(*) صحفي إرتري ومؤلف رواية “سمراويت” الحاصلة على جائزة الشارقة للإبداع العربي لعام 2012

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى