مقالات

ملاحظات علي حراك المرتفعات: الوجه الآخر للعملة الرديئة بقلم/ بقلم الدكتور/ عبدالله جمع إدريس *

2-Aug-2014

عدوليس ـ ملبورن ـ

يبدو في بعض الأحيان أننا نقسو علي من يلينا من دعاة الجهوية ، متناسين أن دعوتهم الإرتدادية ما هي إلا رد فعل ، ناتجة عن الفعل الإرادي القادم من الجهة المقابلة ، أو كما يقول آينشتاين في نظريته الشهيرة في الفيزياء. وتلك القسوة تأتي من باب ستر العيب (الإجتماعي) في صورته السياسية. ومفهوم العيب وضرورة الإسراع بستره هو جزء أصيل من مكوناتنا الإجتماعية ومكنونات أنفسنا غير الملتوية ، أو البسيطة ، وربما يحلو للبعض الآخر أن يطلق عليها ، جهلاً وتبخيساً ، النفوس والعقول الساذجة. ففي عرفنا الإجتماعي أنه إذا سابك أبناء الجيران ورددت عليهم السباب يبادر أهلك الأقربون بتقريعك علي فعلتك الشنيعة ، ويقال لك (عيب) عليك إساءتك للجار. ولكن في السياسة الأمر يتعدي العيب الإجتماعي إلي مفهوم الخطر (الإجتماعي) في صورته السياسية. فتقريعنا لأبناء المنخفضات علي فعلتهم نابع من الحرص علي اللحمة الوطنية أولاً ، هذا وإن لم يحرص علي صيانتها الشريك و(الجار). فمهما كان التعدي من قبل الطرف الآخر فإنه لا يبرر أن نطلق النار نحو أرجلنا حيث نقف دون تحويل فوهة السلاح إلي الهدف. ولا أعني بالطبع تحويل الفوهة نحو المرتفعات ولكن الي المجرم الحقيقي وهو الدكتاتور القابع في أسمرا. أعود الي موضوع المقالة وهو حراك أهل المرتفعات ، حيث عاد أهل المرتفعات المسيحيون إلي المربع التاريخي الأول ، وكل دور إذا ما تم ينقلب. فقد تحكم بالأمر أحد قادة حروب النهب العبثية من إقليم (التغراي) ، ودان له الأمر في إرتريا حتي أذاق أهلها ، ومنهم أهل المرتفعات ، صنوف العذاب والقهر وكافأهم بالتضييق والحرمان الإقتصادي بدلاً عن النعيم الذي كان يعدهم إن هم أعانوه في حملته في النهب والسلب علي من يليهم من البدو (المسلمين في الغالب الأعم) في المنخفضات والمرتفعات علي حد سواء.

هذا هو مختصر القصة ، والآن بدأ القوم في لملمة قواهم التي أنهكها تكالبهم علي إعانة الظالم في ظلمه. لكنهم لا يستطيعون فكاكاً من إشباع خسيستهم في الطعن في حق (البدو) في العيش الكريم المساو لحقهم ، فيضعون العراقيل أمام كل محاولات التوصل الي اتفاق شامل وعادل لكل الأطراف ، وتأبي أنفسهم الإقرار بالفرص المتساوية في الوطن ، بل ويقومون بإنكار دور الشريك حتي في التاريخ والجغرافيا والثقافة ، وصولاً الي تبرير كل ما يحيق به ويمكن أن يحيق به في المستقبل. هذا ويحس من لا يشارك من (العقلاء) في ذاك العمل الدنيئ بأنه بطل قومي يستحق أن يتوج علي كرسي العرش تكريماً لتضحياته العظيمة. هذا ليس كلاماً مرسلاً ولكنه الواقع والتاريخ للأسف الشديد. إنظر إلي تحليل إسياس أفورقي في بدايات تكوين شخصيته السياسية المتماسكة فكرياً ، حيث قال (وليصححني الأستاذ عمر جابر إن خانتني الذاكرة) أن المسلمين لم يكن لهم ما يخسرونه عندما تمردوا علي الدولة الإثيوبية ، في مقابل المسيحيين من أبناء المرتفعات الذين ضحوا بكل ما أفاءت به عليهم تلك الدولة من أسباب التعليم والصحة والثروة والمكانة والحظوة السياسية والإقتصادية والاجتماعية والدينية. وشئ قريب من هذا قاله المناضل الراحل/ سيوم عقبانكئيل (حرستاي) ، حيث كان في زيارة إلي أستراليا قبيل وفاته ، وألتقي في لقاء خاص إثنين من الإسلاميين حيث كان الرجل حريصاً علي الحوار الفكري وعلي إيصال رسالته بكل صدقٍ وشفافية. وأنقل هذه الشهادة عن أخي عبدالرحمن جمع ، وهو أحد الرجلين وقد اعتزل السياسة حالياً بشكل نسبي وتفرغ لمهنة التدريس في إحدي مدارس غرب استراليا. وقد حدثني بأن المناضل حرستاي قال أنّ المسيحيين الإرتريين دفعوا ثمن تمسكهم بالوحدة الوطنية غالياً ، وقد أكد أنّه يعتقد أنّ ذاك ثمن مستحق وكان لا بد أن يدفع. واستطرد حديثه قائلاً أنه لولا وجود المسلمين في إرتريا ما كانت هناك مشكلة البتة مع إثيوبيا وأنّ المسيحيين كان يمكنهم التعايش مع الوجود الإثيوبي ، ولكن في نهاية المطاف فإنهم إختاروا الوقوف الي جانب قضيتهم الوطنية ، وآثروا الوطن علي مصالحهم الإقتصادية والإجتماعية والدينية والسياسية. وزاد أن قال إنّه شخصياً له تجربة مع مسؤول كبير في الخارجية الأمريكية ، حيث قام هو بالدفاع عن وجود الإسلاميين الإرتريين في تحالف المعارضة ، ودفع بحق المسلمين بالعيش المشترك في وطن تسوده العدالة ، فكانت المفاجأة أن اتهمه المسؤول الأمريكي بأنه (غرٌ) وغير ناضج سياسياً ، وهو بالتالي قد دفع ثمناً مضاعفاً لكنه غير نادم ، (انتهي النقل). وهذه الصورة توضح جلياً الحالة النفسية التي يتحرك من خلالها السياسيون من أبناء المرتفعات المسيحيون في تعاطيهم مع السياسة الوطنية وفي تكوين تكتلاتهم السياسية. فإضافة الي تحملهم للضغط المجتمعي نتيجة مواجهة إخوانهم في الحكومة ، فإنهم يواجهون صعوبات ومحاذير سياسية عديدة أكبرها الضغط الغربي (والإقليمي) عليهم ليحسموا الصراع ضد (الإرهاب) الإسلامي. وهذا الإرهاب لا يتمثل في بعض الجماعات والتنظيمات ، ولكن هو وجود قوة سياسية ، أياً كانت ، تمثل المسلمين موازية لقوة السلطة السياسية لمسيحيي إرتريا. وكان إسياس أفورقي خير من يحقق هذا المطلب ، غير أنه خرج عن قواعد اللعبة السياسية الحديثة ، وأعاد التاريخ المتخلف لعصابات النهب علي مناطق البدو التي تجاوزها التاريخ ، وتجاوزها إقليم التغراي الذي انتقل نقلة نوعية بحكم سيطرته علي مقاليد الحكم في دولة إثيوبيا وأصبح يعاف العودة إلي تلك الحقب. وهذا التناقض بين الحداثة التغراوية والرجعية التغرينية أدي إلي الصدام التاريخي في حرب بادمي. وبالتالي فقد وضع إسياس الأمور في مسار سياسي وقومي تغريني انتحاري أحمق. وأصبح الرجل يزداد حمقاً كلما واجهه قومه بضرورة تعديل ذلك المسار ، فلا يلوي الدكتاتور علي شئ إلا أن يهرب إلي الأمام حتي كاد يهلك ويهلك معه قومه. وهنا كان لا بد أن تسقط ورقة التوت عن سوءة برنامج (سلفي ناتسنت) التنظيم الطائفي داخل الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا (هقدف لاحقاً) ، وأن يفتضح الشر في وثيقة (نحنان علامانان) التي رصت أبناء ومقدرات الطائفة في خيط واحد ، ظاهره عقد متلألئ علي جيد الوطن ومن قبله العذاب. وكان هيلي ولد تنسائي (دروع) من الشجاعة أن بادر الي تمزيق تلك الوثيقة التي كتبها هو بيده في لحظة شبق طائفي ، وسمح من خلالها لإسياس أفورقي أن يمتطي ظهر طائفته وقوميته ليصل إلي أغراضه الدنيئة ويحقق أحلامه المريضة. ولكن الدكتاتور كان قاسياً وحاسماً بتصفية كل من تسول له نفسه أن يراجعه الحساب أو ينظر إلي الوراء مصححاً. وكانت حرب بادمي هي الضربة القاضية التي وجهها إسياس إلي ظهر البعير الذي يركبه فقصمه ، وانفرط العقد الذي كاد أن يخنق الوطن الإرتري. وفي محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه تتخبط الطائفة باجتراح الحلول . وتأتي تلك الحلول أحياناً من خلف قناع وطني وهو يخبئ وجهاً طائفياً كالحاً ، مثل محاولة بعث الجبهة الشعبية وهي رميم. والعجيب أن يقود هذه المحاولة قيادي في حزب الشعب الديمقراطي ووزير الدفاع الأسبق السيد/ مسفن حقوص ، والحزب لا يعلق علي الموضوع ولا يراجع ذاك القيادي ، علي الأقل حسب ما هو ظاهر للعيان. ومحاولة أخري من منتدي (مدرخ) بنفس الألاعيب السحرية والحركات البهلوانية ، وغير ذلك من محاولات إعادة عجلات العربة الطائفية المتهالكة الي مسار أريد لها ، ولكن يجرها الحمار الأحمق الي المستنقع الموحل. والبعض آثر سلامة الوطن في حده الأدني ، ولا يزال يراهن علي معادلة التحالف الديمقراطي والمجلس الوطني المعارضان في صف واحد مع إخوانهم وشركائهم. ويبقي الأمل في هذا البعض الذي يذكرنا بسيرة الكتلة الإستقلالية التي تلاحم فيها المسلمون والمسيحيون الإرتريون في مواجهة آلة البطش والإرهاب الإمبراطورية الإثيوبية وربيبتها الكنسية والحزبية المتمثلة في حزب (إندنّت). وهناك محاولات أخر قسمت المرتفعات وأعادتها إلي سيرتها الأولي (حماسين ، أكلي غوزاي ، وسرايي). بل إنّ الدعوة الجهوية قد استفحلت وسرت كما النار في الهشيم وقسمت المقسم الي مناطق قددا. فالانقسام الأخير في تنظيم جبهة الإنقاذ الوطني تفوح منه تلك الرائحة المنتنة ، فبعض القوم من إحدي جهات أكلي غوزاي والبعض الآخر من جهة أخري فيها. ونفس الانقسام يحدث فيما يعرف باتحاد (دبري زيت) أو إتحاد شباب إنقاذ الوطن. والحصيلة مرشحة لمزيد من التشظي ، والذي يمكن أن يؤدي بالوطن ومستقبله الي نهايةٍ مريعةٍ ، خاصة وأن أبناء رابطة المنخفضات ينافسون نظرائهم في الجهة المقابلة في هذا السباق الجنوني المحموم ، والذي سينتهي بهم وأهلهم إلي نفس العاقبة التي نراها في ظلال الحراك السياسي للمرتفعات وأشباح السياسة الطائفية وديناصوراتها ، فهل يستفيق القوم من أحلامهم البدائية والتي تعبر عن الدرك الذي أسقطتنا فيه الدكتاتورية ، والتكتلات دون الوطنية ، وهل يتنبه الجميع للخطر الماثل للعيان قبل فوات الأوان.* الدكتور/ عبدالله جمع إدريس ، ناشط سياسي وإعلامي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى