هشيم الذاكرة … السقوط من سماء المجد الى حضيض الهاوية
بقلم/ عمر جعفر السوري
يسر موقع عدوليس اعادة نشر هذه المادة بالتعاون مع موقع ادال 61 ووكالة الأنباء الارترية
هشيم الذاكرة:
أحمد طيفور: السقوط من سماء المجد الى حضيض الهاوية – 1 –
مثلما توهج نجمه برهة، سرعان ما أفل. وكما اشتعل وميض قلمه، انطفأ ضوؤه وخبا نور يراعه كشهاب لمع بغتة مع انبلاج الفجر، فلم يلحظه أحد غير الذاكرين والساهرين. كان الصحافي السوداني أحمد طيفور ضحية لعبث أشقياء الاستخبارات وخيانة بعض زملاء المهنة وهوان الحكام وضعفهم. انتهت حياة أحمد طيفور في العام 1966 قبل وفاته ظمأ وجوعا بعد ثلاثة عقود من ذلك التاريخ. فقد فر تائها هائما في صحراء شمال السودان، محاولا في لحظة يأس مغادرة البلاد الى مصر عله يذوب في أمواج القاهرة البشرية أو ينسى نفسه وينساه الناس في نجع من نجوع الكنانة أو كفر من كفورها. وربما أراد أن يلجأ الى مقام ولي قصي، يسكن اليه عله يناجي ربه فيغفر له ذنبه، أو واحة كانت سجنا ذات يوم وملاذا في يوم آخر لثوار في غابر الزمان. لكنه مات في نزل رخيص بحي شعبي في قاهرة المعز، فأنتخى بعض الزملاء، رغم ما لقوا منه، ليصل هذا الجسد الذي أنهكه الضياع وحرقته بنت الحان ليدفن بين أهليه وفي تراب أجُبر على التنكر له، فربما تجد روحه السكينة والغفران.
أحمد طيفور نسخة سودانية من مأساة إغريقية مؤلمة تتابعت فصولها في سودان الستينيات، لكن ختامها المرعب لم ينتبه إليه إلا القلة بعد ذلك بزمن حينما عثر على جثته في تلك الغرفة الغريبة ليسدل الستار على حكاية نجاح اغتيل في طور التكوين. بزغت شمس أحمد في صحيفة) 21 أكتوبر (التي أصدرها صالح محمود إسماعيل، أحد أقطاب الحزب الوطني الاتحادي ووزير الإعلام في حقبة أكتوبر؛ وهو سياسي سوداني ملك ما افتقده الكل عند غالبية السياسيين السودانيين من ضمير ووجدان، ونظافة يد ونقاء سريرة وطوية. أخذت الجريدة اسمها من ثورة 21 أكتوبر 1964 التي أطاحت بنظام الفريق إبراهيم عبود وانقلاب 17 نوفمبر 1954. كان أحمد طيفور أول صحافي يدخل ارتريا مع ثوارها ويعبر معهم في جنح الظلام التلال الفاصلة بين حدود السودان الشرقية وحدود ارتريا الغربية عند منطقة) حَفرَه (القريبة من مدينة كسلا، ثم يعود لينشر سلسلة من التحقيقات كتبها قلم رشيق مبدع وصورا التقطتها عين خبيرة فاحصة. كانت تلك الرحلة-المغامرة هي المعول الذي هدم جدار الصمت الملتف حول القضية الإرترية، وهي التي فتحت الأبواب أمام الثوار بعد أن عملت إثيوبيا جاهدة على تصويرهم بعصابات من قطاع الطرق واللصوص) الشفته (الذين يغيرون على الآمنين والمسافرين وقوافل التجار.
انتبهت قيادات الثورة الإرترية الى دور الإعلام في المعركة، فذهبت تبحث عن صحافيين ينقلون بالكلمة والصورة ما يدور داخل “الميدان”. اجروا اتصالات بعدد من الصحافيين السودانيين المعروفين والمغمورين على حد سواء من العاملين في صحف لها تاريخ، فلم يقبل معهم إلا صحافي شاب يتحسس طريقه في صحيفة حديثة الصدور. جرى الإعداد لرحلة أحمد طيفور الى ارتريا ببالغ السرية، فكل أجهزة الاستخبارات المعروفة وغير المعروفة كانت تعمل في الخرطوم بما فيها الموساد الذي أنشأ محطته في) البون مارشيه(، وهو متجر يمتلكه يهودي كانت تختلف إليه “الطبقة الراقية”. كانت الرحلة شاقة، مشياً على الإقدام أو فوق ظهور الجمال، وكانوا يغزّون السير ليلا وفي الأسحار ويتحاشونه في الليالي المقمرة. انتهت الرحلة بسلام، وعاد أحمد ينشر سلسة من التحقيقات أحدثت دويا هائلا، ورفعت من أرقام توزيع جريدة) 21 أكتوبر (. كانت التحقيقات نصرا مهنيا له، وفتحا في دنيا الصحافة السودانية. فهي تكاد تكون المرة الأولى التي تذهب فيها صحيفة بحثا عن الحدث خارج الحدود، إذ كانت الصحافة في مجملها جالس ة على كراسيها، قاعدة، تنتظر الأخبار لتأتي إليها، أو من مراسلين هواة في عواصم اخرى ذهبوا إليها في عمل أو دراسة. وإن سعت الى الأنباء فهي لا تكاد تبتعد عن دواوين الحكومة ودور الأحزاب والنقابات ومنازل السياسيين إلا مسافة ميلين على الأكثر. أضحت تلك التحقيقات التي كانت تملا صفحة من ثمانية أعمدة وتفيض أحيانا، حديث الناس، ليس في العاصمة فحسب، بل في مدن السودان كافة. أصبح أحمد طيفور نجما لامعا وبطلا مغوارا.
تابعت إثيوبيا التطورات في السودان متابعة دقيقة وقررت أن تبعث الى الخرطوم بأفضل ضباط مخابراتها ملحقا عسكريا، فأرسلت الكولونيل ترّقْي الذي أضاف السودانيون نوناً الى اسمه، فكانوا ينطقونه “ترقن” حينا و “تركن” أحيانا. استمرأ هو هذا التحوير الذي دخل على اسمه وقبله. أسمه الذي يعني بالأمهرية فيما يعني الرقة والنعومة والسلاسة، هو على نقيض ما جُبل عليه واعتاد على ممارسته وانتدب إليه. أستطاع ترّقي، الحاذق الناعم السلس الملس النج س في فترة قصيرة دخول بيوت سياسيين كُثر وغيرهم، بل كان يدخل الى دار رئيس وزراء السودان، محمد أحمد محجوب، دونما استئذان أو موعد. لم يضع وقتا. أسرع بتجنيد المومسات في شبكته وفتح بيوتا جديدة للدعارة، وأنشأ ناديا قصد من خلال ما يقدمه من مأكل على رأسها الزقن ي ومشروبات بأسعار “تشجيعية” الى جذب أعدادا متزايدة من “الافندية” الذين يتعاطون الشأن العام، منهم مؤيدون نشيطين للثورة الإرترية ومن قبائل اليسار المختلفة ومدارس الاشتراكية العربية المتعددة. وكان هو حاضرا في كل تلك الأماكن. في ليلة من ليالي ا لخميس، بلغت النشوة بأحد نشطاء اليسار العروبي، بعد أن احتسى عدة كؤوس، فصاح بالإنجليزية في قلب ذلك النادي وهو يشير الى صورة الإمبراطور المعلقة على الحائط المقابل: “فليسقط الديكتاتور هيلي سلاسي!”، ثم التفت جهة اليمين، فتلاشت ابتسامة النصر العريضة التي كانت ترتسم على وجهه لما رأى ترّقى يبادله الابتسام ويسأله بخبث: “هل تؤمن بذلك؟” فتلعثم “الرجل الخفي” – وكان معروفا بين أصدقائه بالانفزيبل – وأجاب: “إنني أقول ذلك فحسب” ثم غادر هو ورفاقه المكان. نصح القادة الإرتريون والراحل بدرالدين مدثر، أحد قيادات حزب البعث العربي الاشتراكي في السودان، هؤلاء بالابتعاد عن النادي الإثيوبي، وقال لهم استعيضوا عن الزقن ي اللذيذ والانجيرا بسمك البلطي المشوي الحار وما شابه.
ليحبط الدعاية المتزايدة التي يلقاها الإرتريون – خصوصا بعد تحقيقات أحمد طيفور – بدأ ترّقي في البحث عن طريقة يوجه بها ضربة قاصمة تؤلب عليهم الرأي العام السوداني وتدفع الحكومة والسلطات السودانية الى مطاردة الإرتريين مرة اخرى، كما كان الحال أيام عبود “الذهبية”. فاستقرت الخطة على إصدار كتاب يكتبه أول صحافي يدخل عرين الأسود ويكتب عنهم. استحال ذلك في بادئ الأمر، لتتبدل الخطة بان يصدر الكتاب ويوضع عليه اسم أحمد طيفور، بعد أن يدجّن ويصبح خاتماً في يد الكولنيل. تولى عملية التدجين بعض زملاء المهنة، للأسف، الذين اصطحبوا بدعوى الاحتفاء بعرسه من زميلة فاضلة كانت تحرر صفحة المرأة في نفس الصحيفة، ثم طلقته بعد الفضيحة. أخذوه الى فندق “الواحة” الذي افتتح أبوابه حديثا في تلك الأيام. كان مجتمع الخرطوم المخملي يمضي سهراته حول مسبح الفندق، أو بهوه، أ وفي ملهاه الليلي، “الكاف دو روا”. هناك قدموه الى ترّقي الذي لم يترك الفريسة تضيع من بين يديه. في البداية، روى أحمد لبعض القيادات الإرترية التي علمت بتلك السهرات انه هاجم الملحق العسكري الإثيوبي، حينما التقاه، هجوما ضاريا وأسمعه رأي السودانيين فيما يفعلون في ارتريا. نصحه القادة الإرتريون بالابتعاد عن طريق هذا الرجل، إلا إن الطامة الكبرى كانت قد وقعت وحاقت به، حينما دُسُ له المخدر في الخمر والتقطت له صور يندى لها الجبين… يتبع