مقالات

هشيم الذاكرة .. السقوط من سماء المجد الى حضيض الهاوية 2

بقلم/ عمر جعفر السوري

    كان كتاب “حقيقة جبهة التحرير الإرترية – “بقلم أحمد طيفور” –  قد بدأت طباعته في مطبعة جريدة الزمان التي أصدرها ورأس تحريرها الصحافي الراحل عبد العزيز حسن، فهو وعبدالله عبيد كانا حلقة الوصل الأولى بين ترّقي وأحمد طيفور. لكن الثورة الارترية والشعب الارتري كانا يحظيان بتعاطف جارف ومحبة لا حدود لها من الشعب السوداني وقواه المختلفة، فقد جاء بعض عمال المطبعة، الذين ساءهم ما كان يُعد ويطبخ ويجمع تحضيراً للطبع في مطبعة جريدتهم، الى القادة الإرتريين وأطلعوهم على الأمر وزودوهم بنسخ من مسودات ما قبل الطبع. لم يكن الكتاب من تأليف أحمد طيفور، فيما أظن، لكنه بني على ما كتبه في “21 أكتوبر” وبمكر دونه مكر الثعلب. فالكتاب وبخبث شديد يدعي فيما يدعي إن الإرتريين يسعون الى سلخ مديرية كسلا عن السودان والاستيلاء عليها. وضمها الى ارتريا بعد التحرير.


    اتخذ الإرتريون قرارا بالتحرك المبكر وفوراً لإجهاض الكتاب قبل صدوره وتوزيعه في المكتبات ومنافذ البيع من أكشاك وغيرها، فجابت وفودهم -وهي تحمل تلك المسودات -الأحزاب السياسية كافة، والنقابات، والاتحادات والمنظمات الطالبية والشبابية والنسوية والصحف جميعها، ما عدا جريدة الزمان. كذلك شملت الجولة القيادات الروحية والزمنية وأرباب الطرق الصوفية وهلمجرا. بُعيد هذه الجولات بدأت حملة مضادة متواصلة في كل الصحف، بمختلف اتجاهاتها السياسية ومشاربها لتعرية الكتاب والتخرصات التي حواها؛ تصدرتها جريدة “21 أكتوبر” بمربع ثابت في كل أعدادها لوقت طويل وفي صفحتها الأولى بعنوان “وا جراحاه” الى جانب المقالات التي نشرتها تنديداً بما قام به محررها السابق، كذلك أصدرت الأحزاب والنقابات والمنظمات الجماهيرية بيانات الشجب والإدانة. كل ذلك والكتاب لم يصدر بعد ولم ينزل الى الاسواق. كانت تلك ساحة معركة حقيقية انتصرت فيها الجبهة انتصاراً باهراً كدأبها دائماً.

    في أثناء تجوالهم على الصحف السودانية، قابل الإرتريون الصحافي والشاعر حسين عثمان منصور، صاحب ورئيس تحرير جريدة الصباح الجديد، وهو صحافي لمّاح وأديب مطبوع وشاعر رقيق غنى له عبد العزيز محمد داود أجمل أغانيه، كما غنى له آخرون. أمسك الصحافي بالمسودة وقرأ المقدمة: “مدفوعا بصلات الدم والقربى، ذهبت بعيدا مع جبهة التحرير الإرترية، الخ …” ثم تصفح بعض الأبواب. وبعد صمت عميق استغرق دقائق معدودات، قال لهم “مقدمة الكتاب هذه وتلك السطور المتناثرة في المتن التي قرأتها لا يكتبها في السودان إلا اثنان. أنا أحدهما. أما الثاني فهو عبد الله عبيد حسن.” وبعد هنيهة أضاف: “أنا لم أكتبها.” كان عبد الله المذكور – الذي عرف بين زملاء المهنة بالمدير المزيف، وهي كنية أطلقها عليه الصحافي والروائي السوداني الراحل، محمود محمد مدني -أول صحافي له خصائص الزنيم في تأريخ الصحافة السودانية، حسب علمي. فقد تخصص في لحوم الأكتاف، إذ يعرف من أين تؤكل الكنف وفي انتهاز الفرص والتسول على موائد السفراء والسفارات.


    كان أحمد طيفور أول ضحايا ترّقي. ذبحه معنوياً من الوريد الى الوريد ببشاعة منقطعة النظير دون أن يطرف له جفن مما جعله ينزف لعقود من الزمان قبل أن يقضي نحيه وحيداً بعيداً. وحينما مات، كانت روحه قد خرجت من بين جوانحه عدد أنفاسه قبل ذلك الأجل. ومن بين الصحافيين الذين أذاهم ترّقي الصحافي المخضرم الراحل سيد أحمد خليفة. كغيره، أيد سيد أحمد قضية الشعب الارتري العادلة والثورة الإرترية كما أيد حق الشعب الصومالي في وحدة أقاليمه الخمس – بما فيها إقليم الأوغادين الذي تحتله إثيوبيا. النجمة الخماسية في منتصف علم الجمهورية الصومالية ترمز الى أقاليم الصومال الخمسة وهي: الصومال الإيطالي والصومال البريطاني اللذان شكلا جمهورية الصومال عند الاستقلال، وإقليم الأوغادين، وجيبوتي وإقليم الحدود الشمالية في كينيا (NFD “Northern Frontier District”). كتب سيد أحمد خليفة مقالات عن هذين الشأنين في جريدة “الصحافة” التي كان يعمل بها تحت رئاسة تحرير صاحبها، عبد الرحمن مختار. كان الراحل عبد الرحمن مختار لصيقاً بالسفارة الاثيوبية وبسفارات غربية عددا، فقد حامت، قبل تأسيسه دار الصحافة، شبهات قوية صاحبتها قرائن- وإن لم ترق الى درجة الأدلة- حوله وحول الصحافي الراحل محمود أبو العزايم عن دور لهما في استبدال حقيبة أوراق الوزير الكونغولي المقرب من لوممبا أثناء توقفه في مطار الخرطوم حينما كان في طريقه الى القاهرة. قيل وقتها أن حقيبة جيزنجا كانت تحوي تفاصيل الخطة التي وضعت لإنقاذ لوممبا بمساعدة عبد الناصر والقوات المصرية. 

    أثناء حملة إجهاض الكتاب، نشط سيد أحمد في التصدي لما ورد فيه. لذلك أصبح هو الهدف التالي. كانت لتّرقي علاقات وثيقة بعبد الرحمن مختار فطلب منه التخلص من هذا الصحافي المشاكس؛ كما ضغط محمد أحمد محجوب، رئيس الوزراء، أيضا على صاحب “الصحافة” في هذا الاتجاه لتلبية رغبة ترقي حفاظاً على العلاقات الوطيدة بين السودان واثيوبيا، فكان قرار الاستغناء عنه وفصله من العمل. اجتهد ترقي في محاصرة سيد أحمد ومنعه من العمل في الصحافة السودانية. كتب بعدها سيد أحمد كتابين أحدهما (ارتريا جزائر الساحل الإفريقي) مشبهاً كفاح الشعب الارتري من أجل الحرية والانعتاق بنضال الشعب الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي، والآخر عن الصومال يشرح فيه جذور المشكلة وتطلعات شعب الصومالي نحو الوحدة. بعد فصله من جريدة الصحافة تعسفياً عملنا، أنا وهو، سويا في وكالة أخبار الخرطوم لصاحبها ورئيس تحريرها الصحافي الجهبذ الراحل سعد أحمد الشيخ، رغم انف ترّقْي الذي لم يستطع زحزحتنا من عملنا أو الاقتراب من الوكالة ومكاتبها، إذ رفض سعد الشيخ مجرد الرد على مكالماته الهاتفية، ناهيك عن استقباله أو الجلوس معه وتلبية دعواته التي أرسلها عن طريق زملاء المهنة وبعض رفاق الملحق العسكري الاثيوبي، كما تأثرت علاقة سعد مع عبد الرحمن مختار بسبب ذلك الاجراء التعسفي. 

    بدأت الأوساط السياسية والصحافية تضج بعربدة الملحق العسكري الإثيوبي وبرضوخ الحكومة السودانية لضغوط إثيوبية متزايدة لفتح قنصلية لها في كسلا. لم تستطع حكومة السودان أن تماطل طويلا في البت بالطلب الإثيوبي، وهي التي لها قنصلية في اسمرا الى جانب سفارتها في أديس أبابا. إلا إن القنصل الإثيوبي في تلك المدينة الحدودية لم يهنأ بوجوده هناك، إذ كان الوجود الإرتري كثيفا وللثورة نشاط ملحوظ وتأييد ودعم متزايد من مواطني المدينة وسكانها، خصوصا إن اقتصادها بدأ ينهض ويرتبط بالوجود الإرتري بعد أن أصبحت المدينة قاعدة تموين وإمداد أساسية للمقاتلين عبر الحدود.


    كانت وسائل التسلية والترويح عن النفس محدودة للغاية في ذلك الزمان. كانت في كسلا دار واحدة لعرض الأفلام ما فتئ الإرتريون يترددون عليها كلما رأوا القنصل الإثيوبي يهم بدخولها. وساعد بائعو بطاقات الدخول، عمداً، على أن يكون جلوسهم في ذات الجناح الذي يجلس فيه القنصل وحراسه، أو بالقرب منه؛ فلم يكن أمامه إلا الانسحاب جزعاً متوتراً من دار السينما بعد إطفاء الأنوار وبدء الفيلم، هاربا بجلده. تكرر ذلك مرات عددا، ثم لم يعد يخرج من بيته للترويح عن نفسه ولزم داره. هذا الامر لم يكن متيسرا في الخرطوم أو متاحاً، فصال فيها ترّقْي وجال وعربد. لكن الإرتريين بعثوا له برسالة واضحة يقولون فيها إن يدهم طويلة إذا ما مس وأحدا من قياداتهم أو مقاتليهم الذين كانوا يأتون للعلاج أو العبور الى دول فتحت لهم أبواب معسكراتها للتدريب. فانصرف الى جمع المعلومات ومحاولات التأثير في السياسيين والحكومة علّها تضيق عليهم الخناق وتحد من حركتهم قدر استطاعتها، إن لم تستطع منعهم من الحراك والنشاط وجعل السودان بوابة خلفية وملاذاً لهم، ثم بدأ في تركيز جهوده على المعارضة الاثيوبية (وتلك قصة تُروى).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى