ثقافة وأدب

قراءة في نصوص

7-Feb-2019

عدوليس

تمهيــد: قراءة الأعمال الإبداعية هي مسألة أقرب ما تكون إلى القيام بعملية حوار مع النصوص المكتوبة. فالقاريء لا يتوقف بمجرد القراءة معتمداً على ما تراه عيناه، بل يتجاوز ذلك إلى التفاعل مع النص ذاته عبر طرح وابل من الاسئلة على نحو أشبه بممارسة عملية نقدية شاملة غير معلنة. من هنا فإن قراءة النصوص بهذا المعنى تسعى إلى استقصاء مختلف الوقائع المخفية في بنية العمل المختار لغاية استنطاق أي تضارب محتمل بين مواقف المبدع وموضوعات نصوصه.

وبقطع النظر عن موضوعية أو محور الموضوع مثار النص أو النصوص، فإن الكاتب، أي كاتب يعمد إلى إتخاذ قرارات ما خلال مسار الكتابة وربما القيام بعملية بحث مضنية تتكأ عليها العملية الإبداعية بمجملها بهدف ملامسة الواقع وإقناع المتلقي برؤية الكاتب حياله. ويكون الأمر أكثر تعقيداً وانفتاحاً في أكثر من اتجاه عندما يتصل الأمر بالعمل الروائي لكونه يمثل فضاءات من التخيل والفنتازيا الذي يبتدعه كاتب النص على نحو لا يتطلب البراهين لتأكيد صحة ما يقول، لكون أنَّ الأمر ببعض الشمولية ينحى لأن يكون من بنات الخيال، حتى لو تشابه واقع الأحداث المتخيلة وأبطالها مع الواقع الحقيقي المعاش.
بالتالي الهدف من مراجعة النصوص يتوقف على القاريء، فقد يكون الهدف مجرد الاستمتاع العابر أو التدقيق في الرسائل المنبعثة من ثنايا تلكم النصوص وحتى القراءة النقدية لا تستهدف بالضرورة اصطياد ثغرات في النص وما يكتنفه من عيوب، بل الغاية تتمثل في تقييم العمل الإبداعي وتذوقه. وبصرف النظر عن كل شيء يتصل بشخصيات العمل الإبداعي من حيث التزامها بمعايير أخلاقية أو غير ذلك، فلا تعني محاكمة أبطال وشخوص العمل الإبداعي المكتوب من مخيلة الكاتب اتخاذ موقف منه، لكون الأخير، أي الكاتب، ما هو إلا مرآة تعكس الأشياء كما هي للقاريء وحسب.
وحريٌ بنا هنا التشديد بالقول إنَّ مراجعة النصوص الإبداعية سواء تعلق النص بالشعر أو الروي أو غيره، يمكن النظر إليها من أكثر من زاوية واعتماداً على أدوات شتى بعضها تقليدي والبعض الآخر مستحدث على نحو قد تتعدد مداخل القراءة. وفي نهاية المطاف القضية برمتها تثري النص ولا تنال منه لأنَّ ما يصدر لا يأتي بأحكام قطعية وكل قراءة بطبيعة الحال، تحتمل الخطأ والصواب.من هنا ومهما يُمكن أن يقال عن نصوص “حكايات كولينيالي” مع ذلك وقراءتها ينبغي أخذُها وفهمُها ضمن السياق الآنف ذكره. ولاعطاء صورةٍ عن العمل الذي قدمه الكاتب مصطفى محمد محمود طه وكسباً للوقت سأحاول قدر الإمكان النأي عن الركون إلى القوالب النقدية مع تعدد مدارسها، والاهتمام ببعض الملاحظات التي أراها لفتت انتباهي من حيث قوتها ودلالاتها والتي تهدف إلى تحفيزنا للتوجه نحو ممارسة الكتابة لا الهروب منها. فالركون للعزوف والهروب سيحول دون حدوث العملية التراكمية في الأغلب الأمر الذي سوف لن يساعد في تقدم العملية الإبداعية عندنا بشكل شامل.
محور الحكايات وإرتكازها:
يحمل كتاب حكايات كولينيالي في متنه أربعاً وثلاثين حكايةً تمثل كل منها رواية مستقلة. الخيط الرفيع الذي يربط كل الحكايات، هو موضوعة الوطن وإنسانه وبالتالي مع اختلاف أسماء الحكايات وتعدد زمان كل منها وأمكنتها، إلا أنها جميعها تعكس في بوتقة بديعة إرتريا وتؤرخ لحقب مختلفة شكلت بماضيها حاضر اليوم. كل حكاية اختصت بجزئية من ذلك الماضي لتقدم معاناة شعب تكالبت عليه تحديات خارجية ومصاعب داخلية من كل حدب وصوب، وتقدم في ذات الوقت صورةً ناصعةً تعكس بطولاتِ ذلك الشعب وتصديه للأعداء في كل المراحل.
ويبدو أن الكاتب قد قام بإجراء بحثٍ تاريخيٍ عميق تعقب فيه أثرَ الهجرات المختلفة للذين قدموا وتصاهروا مع الأقوام التي كانت تقطن مناطق مختلفة من البلاد. فمثلاً من أحداث الحكاية الثانية التي تبدأ من الصفحة رقم 15 ومن إقتفاء أثر سيرة بطل تلك الحكاية عبدالله وأجداده المنحدرين من اليمن، ينم إلى علم القاريء وعبر صوت عبدالله الذي يجول في انحاء شتى وهو يسوّق مهارتَهُ في صنع ما يطلبه الناس من سيوف وخناجر ومناجل وسواطير: ذلك الصوت كان يهتف قائلاً بلهجة يمنية محببة صنعاااافي … صنعاااافي. أي فيما يشبه أنه كان ينادي في الناس ليقول لهم أنه صاحب صنعة أو حرفة… ليضحي نداؤه ذلك مع الأيام ومع بعض التحريف اسماً للمكان “صنعفى”….أمَّا في حكاية “جنون ملك” فقد رصدت تلك الحكاية مسألة استهداف المسلمين من قبل الملك يوهانس ومحاولات تنصيرهم عبر التنكيل والقتل. كما سجلت صفحات الحكاية الستة عشر شكيمة المواطنين المسلمين وتمسكهم بعقيدتهم وإصرارهم على تعليم أبنائهم أصول دينهم.
ولم تكتف الحكاية بذلك بل تعطي إيماءات عن جذور وأصول الإرتريين وكون بعضهم قادم من الطرف الشرقي للبحر ومن أصقاع شتى كحال الكثير من الأجناس في أمم أخرى.
وفي “الصبايا وقناني الويسكي الفاخر” في الصفحات من 157 وحتى 161 تنجلي أمامنا حقيقةٌ مفادها أن الحظوظ وحدها قد تلعب أدواراً في تغيير مسارات حياة الناس، فإما إلى فلاحٍ دائم أو ضياع أبدي لتنكشف أمام البشر حلقات مفرغة تؤول بهم إلى متاهةٍ لا نهاية لها. وهنا وبمنهتى البراعة نُدْركُ وعبر ذات الحكاية، الحال العاثر لكل من زهرة التي وجدت نفسها ودون رغبة منها مقاتلة “بالعافية” بمجرد اعتراضها من قبل الثوار وإيقافها من الهجرة إلى السودان وإرسالها إلى معسكر التدريب العسكري دون رغبة منها. ومع الوقت تدخل زهرة في زيجة مع شخص لم تكن تحلم حتى بمجرد الاقتراب منه، ناهيك الارتباط به زوجاً وحبيباً مفترضاً بسبب اختلاف المعتقد بينهما.وهكذا تتوالى أحداث الحكايات تباعاً حاملةً في جوفها مرارات الهزيمة والانكسار ونخوة الثبات والارتباط بأهداب وطن يصعب التحرر أوالتخلي عنه لكونه يمثل كل الأمس وكل اليوم ويحمل ملامح الغد بكلياته الشاملة.
هزيمة “جبهة التحرير” وضياع الأمال وانصراف أعضائها وقياداتها ترويها الحكايات بحسرة وحشرجات مسموعة ومعلومة. فتسود السوداوية وحالة اليأس حتى آخر حكاية في الصفحات 175-178 والتي حملت عنوان ” سنين الظلمة” لتعكس دوامة حالكة من التشاؤم المقيت، إذ يبدو إدريس خارجاً من رحم معاناة بجسم مرهق بعد أمد طويل رزح خلاله في سجن انهك البقية الباقية من جسده المتهاوي.
على الرغم من ذلك الإحباط وعتمة اليأس تنبلج إيماءات أملٍ وتحدٍ، فأمام عيني إدريس يظهر نصب عواتي فيسمع منه همس بصوتٍ مسموع: “لن يَبزُنا أحدٌ في حفر القبور والسجون تحت الأرض ولن يبزنا أحدٌ في الإذعان لآمرينا بحفر تلك القبور والسجون.”
كانت زهرة طول المدة تقف حائرةً أمام ضريحٍ أبيضَ يقف على سقفه شيخان صامتان ويطوف حول الضريح شبابٌ تاهتْ ملامح وجوههم ما بين الحيرة والغضب والحسرة. ولكل هذه التي انتهت إليها آخر حكاية في الكتاب دلالاتٌ تُتْركُ أبوابُ تأويلها مفتوحةً على مصاريعها ولكل الاحتمالات.
قراءة في بنية الحكايات :
استحضار الماضي الـ flashback :
اعتمد الكاتب على تقنية استحضار الماضي الـ flashback وطوعها في أكثر من مستوى وبشكل جيد: فمنذ الوهلة الأولى وفي أول الحكايات “ذاكرة الراعي” في الصفحات 12 و13 يطلُّ إدريس على القاريء بالعودة بذاكرته إلى الوراء مستحضراً ما لحق به من أذى نفسي جراء وفاة والده الذي لم يتعرف على ملامحه لصغر سنه وزواج أمه وهو ما زال في السادسة من عمره. وفي إطار استحضار الماضي يروي إدريس حكايات خاله حامد الذي كان الوحيد الذي يقتني مذياعاً ونتيجة معلوماته وثقافته كان الرجل يحكي لمجاليسه عن الطليان وحضوره خطاب موسوليني في شارع الكومشتاتو في قلب أسمرا… بل ولكونه خدم ببسالة منقطعة النظير في الجيش الإيطالي واقترب من نيل رتبة “شامبل”، فهو يكره الانجليز ويمقتهم لكونهم هزموا الطليان وبذلك أفقدوه فرصة الترقي وأضاعوا منه مجال عمله العسكري ليعود إلى مزرعته ورعي مواشيه.”
نعم تظهر تقنية استحضار الماضي في أكثر من مستوى، ففي آخر أربعة صفحات من العمل يظهر إدريس محاصراً بسيل من الذكريات التي يستحضرها مع تفاصيل رحلة حياة انهكته ليزداد إرهاقاً مع سنوات النضال القاسية التي امتصت هي الأخرى مع ظلمة وحلكة الزنازين عافيته وتركت غشاوة قاتمة في رؤيته للأشياء.
الراوي العليم:
نلاحظ في النصوص وجود راوٍ يتجاوز حالة المراقب المتابع من على بعد، ليظهر لنا في أكثر من موقع راوياً عليماً يحاول الحؤول دون خروج الشخصيات عن المسارات المحددة لها بعناية. ولهذه الغاية نجد أن الحكايات اختلطت فيها الضمائر الثلاثة، المتكلم والمخاطب والغائب وفي كل السياقات.
صفحة 14 الفقرة الأولى والسطر الأول: “زاد اعجابهم به إذ لم يكونوا يعلمون أن السبل قد تقطعت به…”.
في ذات الصفحة وفي الفقرة الأخيرة وفي السطر قبل الأخير، ورد:”انفجر حامدٌ ضاحكاً وجميع من كانوا معه فانسحب إدريس من مجلسهم في استحياء”.
وفي صيغة ضمير المتكلم نجد في الفقرة الأولى من الصفحة 14 بداية السطر الثاني الراوي العليم يتدخل: “أعرفُ كل أجداده، ليس من مزقتهم رماح الأمويين في صحارى العرب فحسب بل حتى أولئك الذين ذبحهم التتار على ضفاف الفرات ودجلة.”
إذن تعدد الضمائر وتعدد الأزمنة من حيث الماضي والمضارع والمستقبل رغم ما يمكن أن يحدث من حالة اختلال لجهة عدم انسيابية وترابط الأحداث في كثير من الحالات، إلا أن التعدد هنا في مستوى حكايات كولينيالي قد خلت عن أي نوع من الضبابية، بل وعلى العكس جاءت معظم صور الأحداث متماسكة ومغرية لمواصلة القراءة بمنتهى السلاسة. وسيلاحظ القاريء تعدد صيغ الضمائر على مدار الـ 282 صفحة من صفحات الحكايات.
الأزمنة والأمكنة (الزِّمكان):
نلاحظ أن الحكايات استخدمت كل الأزمنة سواء ما تعلق منها بالسنين أو الأوقات. فجاءت الحكايات لتمثل سفراً تاريخياً يعكس وبقوة تاريخ البلد. فقد أضاءت بعض الحكايات نقاطاً كثيرة ظلت قاتمة ومنها عودة تلك الحكايات إلى زمن الملك يوهانس وثورة الدراويش ودخول الإيطاليين والانجليز والأنظمة الإثيوبية المتعاقبة على إرتريا والجبهة والشعبية ومرحلة الاستقلال. كما حاولت ذات الحكايات التوغل أكثر إلى أزمان أبعد في محاولة تعقبها لجذور بعض المكونات الوطنية عبر تسجيل زياراتٍ تاريخيةٍ إلى مناطقَ في البحر وما وراءه.
كان ذلك من ناحية السنين والعقود أما لجهة الأوقات فيتبين للقاريء أن الحكايات كانت تجري وتحدث في الليل والصباح والنهار على مدار كامل ساعات اليوم.
والأمكنة هي الأخرى تعددت وتراوحت ما بين كرن وتسني وأسمرا وصنعفي والبحر حيث مصوع ومناطق خارج نطاق إرتريا، ككسلا وربما اليمن. صحيح زيارات معظم تلك المناطق كانت في إطار الفنتازيا والتخيل إلى أنها كانت كافية لنقل قاريء تلك الحكايات وإيصاله ولو ذهنياً إلى تلك المواقع المختلفة.
“شخوص الحكايات وأبطالها”:
كما سبق ذكره، فإن الحكايات الأربعة والثلاثين، تشكل كلٌ منها مشروع رواية مستقل، لكن يبدو أن الكاتب أرتأى تقسيمها إلى حكايات كل واحدة مستقلة عن الأخريات مع وجود روابط شتى، منها موضوعها الرئيس المتعلق بقضية وطن واشتراك شخصياتها في بعض المحاور حيث يتكرر الأبطال الرئيسيون هنا وهناك.
تتعدد الشخصيات في متن كل حكاية من الحكايات، بيد أن أهم الشخصيات على الإطلاق هو إدريس الذي تستهل به الحكاية الافتتاحية “ذاكرة الراعي” وبه تختم وتسدل الستار آخر حكاية في المجموعة وهي “سنين الظلمة”. فإدريس يشكل عصب الحكي والروي في مختلف المستويات.
تأتي بعده الفتاة زهرة وزوجها أبراهام وسامئيل وآخرون إذ يختلف مستوى وثقل حضورهم بما منحهم الراوي العليم من حيز في ذاكرته ليستحضرهم ما بين ضفتي غلافي الحكايات. فهناك عبدالله اليمني الذي يعيش بين القوم دون تعب أو الشعور بكره الآخرين له لكونه ينحدر من بلد آخر. وهناك إبراهيم والخال حامد وزين الدين وشاذلي والممرضة سناييت وآخرون كثرٌ.
جاءت الشخصيات بمجملها وأبطال الحكي الرئيسيين كإدريس وزهرة مهزومةً ومسيَّرةً لا تعي مصائرها. “إدريس”: فكما يبدو ويفهم من سياق الحكايات أن “إدريساً” لم يكن قرار إلتحاقه بالثورة نتيجة قناعة شخصية قوية، بالتالي تجده أمام سامئيل وأبراهام ضعيفاً. فمنذ ظهوره على مسرح أحداث الحكايات نجده يائساً ومحبطاً. وفي نهاية آخر حكاية يزداد موقفه غموضاً على نحو لا ينسجم مع ثوريته وتجربته، بل الأدهى والأمر أنه يقضي عمراً مديداً في السجن… ليخرج منه موعوداً بالدخول إلى حرب أخرى.
وفي ختام الحكايات يسمع إدريس “أصواتاً لم يتبينها دوت على إثرها رصاصة تخترق صدره فيسقط على ظهره… فاغمض عينيه وأطبقهما بقوة وحينها فقط رأى زهرة التي كانت تقف في قلب الساحة وتنظر إلى إبنها ولدو <<علامة نكسته العاطفية>>…
“زهرة”: هي الأخرى تظهر مكسورة الجناح إذْ يتم القبض عليها وهي في طريقها للهروب إلى السودان ويزج بها في الثورة دون رغبة منها ودون إرادة. وليتحول وضعها إلى حالة دراماتيكية غاية في الإثارة، إذْ نراها وفي ليلة إنس تقع مخمورةً في أحضان “أبراهام” لتنجب منه “ولدو”. وهكذا تتحول الشابة زهرة إلى تائهة كحال إدريس… لنقرأ في نهاية الحكايات وفي الفقرة الأخيرة في الصفحة 278 ” كانت زهرة، طوال هذه المدة، تقف حائرةً أمام ضريحٍ أبيض يجلس على سقفه شيخان صامتان ويطوف حول الضريح شباب تاهت ملامح وجوهم ما بين الحيرة والغضب والحسرة.”
“أبراهام وسامئيل”: هاتان الشخصيتان وعلى عكس بقية شخصيات الحكايات، نجدهما قويان ومتنفذان على غير العادة ويتصرفان وكأنهما يملكان كل شيء. وبنتيجة النظر لصورتي إدريس وزهرة الضعيفة والبائسة ومقارنتها بصورتي أبراهام وموقفهما تعلق بذهن القاريء مصفوفة مشكلة من الأسئلة بعضها استنكاري وبعضها عاطفي، وكلها تتعلق بمدلول وأهمية هكذا إيحاءات مثبطة عن ملامح هاتين الشخصيتين المحورتين في حكايات كولينيالي وأهميتها…
الأسلوب :
استخدم مصطفى محمد محمود طه أسلوباً جذاباً في سرده للحكايات، على نحو لايحس معه القاريء بالملل عند تقليب صفحاتها رغم كثرتها التي قاربت الثلاثمائة صفحة، فتمكن الكاتب من تطويع اللغة بأريحية تامة الأمر الذي أهله لتوجيه الرسائل بمنتهى السهولة واليسر. وكما يبدو أن أهم تلك الرسائل كانت تهتم بالتحديات القديمة الجديدة التي تواجه البلاد والتي تستدعي أن تنالَ اهتمام أبنائها ليعملوا من أجل مواجهتها ودرء مخاطرها.
اللغة:
تشي اللغة التي كُتبتْ بها حكاياتُ كولينيالي أسوةً بالأسلوب بتمكن الكاتب من ناصيتها وهذا أول انطباع يخرج به أي شخص يقع الكتاب بين يديه، ومنذ الوهلة الأولى. واللغة، بطبيعة الحال، وفي أي عمل إبداعي تمثل الرافعة الأساسية التي يقف عليها العمل. فمهما كان الكاتب موهوباً من حيث الحبكة وثراء الخيال وجمال الأسلوب، فبمجرد بروز ضعف في ناحية اللغة تتلاشى بقية العناصر على أهميتها.
ويمكن تلمس رقي اللغة لدى الكاتب في مستويات عدة نستحضر منها هنا البعض القليل على سبيل المثال لا الحصر، بسبب ضيق المساحة.
الوضوح :
يتمثل الوضوح في سهولة فهم مضامين كل حكاية دون كبير عناء واستيعاب المغزى الكامن فيما تبثه من رسائل شتى.
ثراء المرادفات :
يلحظ القاريء ثراء الحكايات وغناها بكم هائل من مفردات اللغة ومرادفاتها والتي جاءت أنيقة وجذابة: وهنا بعض الأمثلة للاستدلال فقط:
في الصفحة السابعة وردت العبارات والصور التالية:
” أحلامي النابهة”
“ألغامهم التي زرعوها”
“بدا يومها العلم شامخاً ومتناسقاً”
“الكوخ المفتوح المطمئن الهادي” إذ يمكن هنا وبسهولة ملاحظة توأمة مرادفي الطمأنينة والهدوء.
في الصفحة 27 : “كان زين الدين يهرب من القلق بمزاولة الأذكار والدعاء…. بأن يكون ما يعيشه من خوف وهلع مجرد حلم بائس سينجلي بعد أن يستيقظ”. حلم بائس ينجلي تندغم مع حالة من الصوفية الجميلة…
في الصفحة 38 و39 وفي سطرها الأول ورد: “قبل خروج أي من سكان الحي إلى شوارع المدينة سالكاً طريقه الضيقة، (لاحظ تأنيث صفة الطريق على وزن عناوين رئيسة) … والتي تدل على أن الكاتب مطلعٌ وملمٌ باختلافات مجمعات اللغة في الأزهر والشام وبغداد لجهة استنطاق مفرداتها من حيث الفصيح والأفصح …
في الصفحة 40 الفقرة الرابعة وفي منتصف السطر الثاني منها:
“… … … ويغادر الدار تاركاً والديها لراتبهما اليومي من القهوة وتلاوة القرآن والثرثرة والضحك والغزل المغطى بقناع من الشجار الضاحك”. فهنا الغزل مغطى بقناع من شجار وهو يضحك… لقطةٌ سينمائية لافتة لمصورٍ بارع.
الصفحة 157 “ربما كان إدريس صغيراً… كان كذلك ذكياً جداً فتعلم أن يؤدي مهامه بإخلاص وإتقان” …
” وقد تغاضى عن ذلك الوفاء الخاص المقاتلون المثاليون في حيرة وعجز وخوف” ينبغي ملاحظة الترابط الخفي بين المفردات المترادفة الثلاثة – حيرة وعجز وخوف- ودور كل منها في انجاح توصيل الرسالة المراد بثها للقاريء.
في الصفحات 159-160: ” …أن وقوع الفتيات في يد الثُوَّار أثناء حملات التجنيد الاجباري كان يخيف القرويين الطيبين كخوفهم من الأمهرا وجواسيسهم، فيتضاعف بذلك بؤسهم الناتج من صراعهم الدائم مع الفاقة وشظف الحياة “. هنا تمسك هذه الفقرة بالتناقض وسوء الفهم الذي قد يسود إذا لم يفلح طلاب التغيير في اقناع المواطن المراد جلب التغيير من أجله بالرسالة المقدسة التي يحملزنها… ومن هنا جاءت كما يبدو مقارنة حملات التجنيد الإجباري للثوار بما كان يفعله الأمهرا وجواسيسهم…
الصفحة 178: “في الواقع إنها لم تكن سعيدة إطلاقاً ولكن في نفس الوقت لم تكن حزينة كذلك بل كان شعورها حيادياً سخيفاً…” استعمال جميل لوصف حالة من اللاتوازن التي كانت تمر بها زهرة في تلك اللحظة.
الغموض وغرابة المفردات :
بطبيعة الحال غموض النصوص وما يكتنفها من غرابة تكون على عكس الوضوح. وهنا يتعلق كل الأمر باستخدام الكاتب أي كاتب نمطٍ معينٍ من المفردات والألفاظ قد يجد المتلقي من الجمهور بعضاً من المشقة لإدراك معانيها، الأمر الذي إذا حدث قد يقلل من متعة القراءة وبالتالي خلق عقبة أمام انتشار العمل الإبداعي.
هنا في هذه الحكايات ثمةَ مفرداتٌ أخشى أنَّ استخدامها قد يمثل للكثيرين من القراء إشكالاً. بخاصة إذا استحضرنا أن الحكايات موجهة لكل الشرائح بمختلف مستوياتها. وهنا أشير لأثنتين أو ثلاثة منها للتدليل:
ففي الصفحة 13: وردت كلمة برنيطة في السياق التالي:
“كان يزهو بزيه العسكري في شوارع كرن واضعاً برنيطته بخُيَلاء على رأسه الضخمة.” أظن أن معظم القراء قد لا يعرفون معنى الكلمة، اللهم إلا من السياق العام للجملة.
وفي الصفحة 40 وفي آخر سطر منها وردت كلمتا “حبشي أو خاساوي” قذر.
هنا، قد يستعصي مسوغُ استخدام هاتين الكلمتين أو إحداهما لجهل القاريء لما لمدلولها من خصوصية ومحلية!!
في الصفحة 26: وردت كلمة “وعثاء” السفر، فورود الكلمة ضمن هذا السياق قد يصعب فهمها من القاريء وتحتاج منه بعض التوقف للتعرف على معناها وهكذا توقف سيكون حتماً خصماً من متعة مواصلة القراءة ونشوتها.
في مكان آخر هناك خطأ مطبعي بسيط أدى إلى إضافة حرف جر في الصفحة 28 في نهاية السطر السابع من أعلى إلى أسفل ” لابد أن هذا هو ما عنته جدتي عندما كانت تحكي لي “أن” عن جدنا الذي عبر بحر البحور ليأتي إلى بلاد الحبشة.” فهناك “أن الشرطية” قد جاءت زائدة قبل حرف الجر”عن”. وهنا مبرر ذكر هذا الخطأ هو للتعبير عن الإعجاب لكونه، تقريباً الخطأ المطبعي والإملائي الوحيد في كل النصوص الأمر الذي يعكس مدى العناية التي تم إيلاؤها للحكايات التي نحن بصددها
.المباشرة والتوجه حدب التقريرية:
الميل إلى المباشرة والتقريرية دون مبرر قد يُجرد النصوص من جاذبيتها ويُضعف من زخم رسالتها وذلك بما يخلقه من حالات الملل التي تنسل إلى روح القاريء وتدفعه إلى التوقف عن مواصلة القراءة.
وفي “حكايات كلونيالي” هناك خليط من التكرار والمباشرة الواضحة في بعض الصياغات النصية البسيطة. ففي الصفحة 42 مثلاً نلاحظ التقريرية والمباشرة في طرح القضايا. فبمجرد استهلالنا القراءة في تلك الصفحة نتبين من أن ما جاء فيه قد ورد في صفحاتٍ سابقة وبأشكال مختلفة. وكذا الحال فيما يتصل بالصفحة 39 إذ تبدو عملية التكرار باينة.
وإذا انتقلنا إلى الصفحة 99 وركزنا النظر في الفقرتين القابعتين في ذيل تلك الصفحة نجدهما حاملتين رسائل ذهبت بعيداً عن العمل الإبداعي واقتربت أكثر من أن تكون بياناً سياسياً.وفي الصفحات 140، 141 و142 يتسم ما ورد فيها بإيغاله في المباشرة الخالية من أي فعل مبتكر ليدفع بالنص إلى بث إشارات سياسية واضحة.
كان بالمقدور تمرير تلك الرسائل ضمن قوالب وإيماءات سهلة الهضم بشيء من الترميز الخالي من الغموض ودون الإضطرار إلى تسمية الأشياء باسمائها، إذ يصعب في الفعل الإبداعي اطلاق العنان للأوصاف لكونها ستفقد بريقها بمجرد البوح بها. ففي كثير من الأحيان نلاحظ الابتذال عند التصريح للحسناء مثلاً بجمالها دفعة واحدة ودون تمهيد، فتبدأ المفردات رغم روعتها في الانتحار فوق شفاهنا في حسرة جراء تعريتها واستباحتها.
حقيقةً، سعدت أيما سعادة بأن أجد بعضاً من الوقت لأمر على “حكايات كولينيالي” للمبدع مصطفى محمد محمود طه. وأنا أكثر سعادة لأكون ضمن الحاضرين في هذه القاعة لنحتفي بتدشين هذا العمل القيم.
في الختام أتمنى أن أكون قد قدمت حتى ولو النذر اليسير مما يفيد ويثير التساؤلات التي تحفز في استمرار الشغل الإبداعي المؤدي إلى خلق العملية التراكمية في مجال الكتابة بكل صنوفها. وأجدني هنا مضطراً للقول أن حكايات كولنيالي لهي بحاجة إلى أكثر من قراءة لما تحمل في طي صفحاتها من عمل يستحق الاهتمام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى