حوارات

المُنَاضِلُ الإرِتِيْرِي والدُّبْلُومَاسِي محُمَدَّ نُوْر أَحْمَد: ثَوْرَةُ دِيْسَمْبَر لَمْ تُحَقِّقْ أَهْدَافَهَا !

23-Oct-2020

عدوليس ـ نقلا عن مجلة

الأستاذُ المُناضلُ المخضرم محمد نور أحمد، هو واحدٌ من قيادات العمل الوطني الإريتري منذ خمسينيات القرن الماضي. فقد شارك عضواً في حركة تحرير إريتريا التي تأسَّستْ في 1958م، ثم في جبهة التحرير الإريترية في عدة مواقع إدارية وسياسية وتنفيذية . فقد كان رئيساً لعددٍ من مكاتب الثورة بالخرطوم و كمبالا ثم مقديشو ودار السلام وعدن ودمشق ، ومسؤولاً لمكتب الكادر باللجنة التنفيذية بعد المؤتمر الوطني الأول 1970م، ورئيساً لمكتب العلاقات الخارجية لجبهة التحرير الإريترية ـ المجلس الثوري ـ في ثمانينات القرن الماضي.بعد التحريرِ، شَغَلَ مديراً لقسم الدارسات بوزارة الشؤون الخارجية، ثم رئيساً لدائرة آسيا ، ثم سفيراً بجمهورية الصين الشعبية 2002م، بالإضافة إلى موقع سفيرٍ غير مقيمٍ باليابان وتايلاند وسنغافورا والفلبين. تَخرَّجَ فِي كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة بغداد.

يُعَدُّ الأستاد محمد نور من كوادر جبهة التحرير الذي اِرتبطوا بالثورة السودانية، وبعددٍ كبير من الرجالات والنساء، قيادات العمل المدني وقادة الرأي ، كما احتفظ بعلاقة وثيقة بالراحل محمد وردي.
اِصطدم مبكراً بالحكومة الإريترية، وغادر موقعه كسفيرٍ، وانضمَّ للمعارضة الإريترية والتي شغل فيها ولا يزال موقعاً قياديّاً متقدماً.
في هذا الحوارِ، يُسلط الضوء على جزءٍ يسيرٍ من التاريخ المشرق الذي ربط الثورة الإريترية بقوى الثورة والتحرر السودانية، وخاصةً النقابات والاتحادات ،مع نماذج من وقائع ثور أكتوبر السودانية ، كما يتطرق للحاضر السوداني المستمر بعد ثورة ديسمبر المجيدة.
الإريتريون بمختلفِ ألوان طيفهم السياسيِّ، يحفظون تاريخا مشرقاً للأفراد والتنظيمات السياسية والنقابية السودانية، وبَثَّ ذلك في عدد من المؤلفات خاصةً أسفار الراحل محمد سعيد ناود، وأحاديث المناضلين هنا وهناك ، كما لا ينسون شهداء سودانيين سقطوا في أرض المعاركِ، مُعَبِّدِيْنَ تلك العلاقةَ بالدم ، نذكر هنا الشهيد عبد الله تلودي، وآدم أبكر شهيد معركة “حلل” التاريخية.جَلَسَ إليه بمدينة ملبورن الأسترالية: جمال همــد *
1/ لنبدأ بالحاضر المستمر، ونسأل عن مآلات ثورة ديسمبر السودانية المجيدة ،الحاضر والآفاق ، وانعكاسها على شعوب، وحراك القرن الإفريقي؟
ج / صحيح ، إن ثورة ديسمبر 2019م السودانية أزالت حكم الإخوان المسلمين بقيادة البشير، لتحل محله حكومة مشتركة ، مدنية عسكرية ـ وبما أنَّ حكومة الإنقاذ أيضاً كانت عسكريةً، فإنَّ الجديد الذي أتت به ثورة ديسمبر، هو حكومة مدنية / عسكرية مشتركة ، وهو ما لم يكنْ ضمن الشعارات التي رفعتها الجماهير الثائرة. والاِنقلاب العسكري الذي أزاح البشير وبعض رفاقه، وصل بالثورة إلى منتصف الطريق!. فالثورة لم تحقق أهدافها بعد ، كما أنها لم تتوقف، ولذلك فان اِنعكساها على مجمل أوضاع القرن الإفريقي وفي إريتريا بشكل خاصٍّ، لا يزال ضعيفاً حتى الآن. أقصد هنا، على الشعب الإريتري بالداخل والذي كان يترقب اِنتصار الثورة كاملةً ككل شعوب القرن الإفريقي والعالم. أمَّا جموع الشعب الإريتري في معسكرات اللجوء بشرق السودان والمدن السودانية عامة، فقطعاً الثورة وتضحياتها لامستْ أشواقهم وتطلعاتها.
أمَّا القوى السياسية الإريترية المعارضة، فعليها التَّعاطي بإيجابيةٍ مع مناخ الحريات الذي أتاحته الثورة السودانية ،وسوف نتحدث عن وضعٍ شبهٍ ومماثلٍ، مع الفارق في عهد ثورة أكتوبر السودانية ،وما جنته الثورة الإريترية من اِنتصار . على صعيد حكومات القرن الإفريقي ، فإنه وككلِّ الأنظمةِ خاصةً تلك التي تُعادي الديمقراطية والحكم الرشيد ،لِأنَّها تترقب بقلق وتحتاط. وقد حملت الأنباء بقيام الحكومة الإريترية بإحتياطاتٍ عسكرية على الحدود ، تحسُّباً لِتجاوزِ رياح الثورة حدودها ، كما أرسلت “مُستطلعةً” عدداً من الوفودِ، والتقتْ بجناحي السلطة ، ولم تُخفِ أسمرا تأييدها للمجلس العسكري قبل التوصلِ لإتفاق الخرطوم، وعموماً يمكن القول إِنَ الزيارات المتبادلة بين المسؤولين بأسمرا والخرطوم ،محدودةُ النتائج والثمار حتى الآن.فيما يتعلق بإثيوبيا، فقد رحَّبت مبكراً بالثورة السودانية ، كما لعبتْ دوراً محورياً في التَّوصُّلِ لاتفاقٍ الخرطوم بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري، كما هو معلوم للجميع، كما تُشكل أديس ابابا حضوراً فاعلاً في حواراتِ جوبا بين الحكومة السودانية والحركات المسلحة. وانعكستْ ثورةُ ديسمبر إيجاباً على الخلاف بين إثيوبيا ومصر والسودان من جهةٍ حولَ سدِّ النهضة.
هذا مجملُ القولِ، والذي أُحبُّ تأكِيْدَهُ على أنَّ ثورة ديسمبر نفسَها، لم تُحقِّقْ كلَّ أهدافها . فهي ما زالت في أطوارِ السَّيْرِ نحو أهدافها النهائية، والوقتُ مازال مبكراً للحديث باسْتِفَاضةٍ عن الثورة السودانية.
2/ عاصرتَ ثورةَ أكتوبر السودانية العظيمة ، كيف تفاعلْتُم كحركةِ تحرر وطني آنذاك، مع أحداثها، وكيف إنعكستَ عليكم، وهل لنا ببعض النماذج للعلائق التي ربطتِ القوى السياسية والمدنية السودانية بالثورة الإريترية ؟
ج/ مِن المُسَلَّمِ به أنْ تنعكس أوضاعُ السودان على مُجمل أوضاعِ القرن الإفريقي عامةً، وعلى الجَارة الصغرى إريتريا ، بحكم القرب الجغرافي والتداخل الاجتماعي وغيرها من الأسباب. والثورة الإريترية التي خاضتْ كفاحاً سياسيّاً وعسكريّاً طَوال ثلاثة عقودٍ، عاصرت كلَّ الأنظمة السياسية السودانية (عسكريةً ومدنية) ، وكان لتقلُّبات الأوضاع تأثيرٌ مباشر على الثورة الإريترية وحركتها ، كما ارتبطتِ الثورة بعدد كبير من الأحزاب والنقابات والاتحادات المدنية، والتي قَدَّمَ جُزْءٌ كبير منها عوناً عظيماً لثورتنا.
هنا أحبُّ أنْ أُسجِّلَ شهادتي كمناضلٍ عاصر ثورةَ أكثوبر 1964م، وأسجِّل كيف اِنتصرتْ هذه الثورة العملاقة لقضية الشعب الإريتري .
كان قد مضتْ أعوامٌ على إعلان ثورة التحرر الوطني في إريتريا، بقيادة الشهيد القائد حامد إدريس عواتي، عندما أندلعتْ ثورة أكتوبر 1964م، والتي أطاحت بنظام عبود العسكري، وشكَّلت حكومةً مدنيةً، وأتاحتِ الحرياتِ الأساسيةَ للشَّعب السوداني .
حينها رأتْ قيادةُ الثورة آنذاك، وكانت تُعْرَفُ بالمجلس الأعلى، الاستفادةَ من هذا التطور الإيجابي، فانتدبتِ المناضل الشهيد عثمان صالح سبي مسؤولَ علاقاتها الخارجيةِ للسفر إلى السودانِ واستطلاع الوضع الجديدِ، وإمكانية استفادتِ الثورة منه، لصالح الثورة الإريترية . وبعد فترةٍ قصيرة من وُجُودِه بالخرطوم أِتَّصل الشهيد عثمان سبي بالمجلس الأعلى طالباً إرسالَ كادرٍ مُتَفرِّغٍ بأسرع فرصةٍ ممكنةٍ للتحرك في أوساط الثورة السودانية، وتزويد الرأي العام السوداني بتطورات أوضاع الثورة .
كان عثمان سبي قد اِلتقى عدداً من قيادات تلك المرحلة ، كما التقى الشابَّ محمد أبو القاسم حاج حمد، الذي مَهَّدَ له اللقاء بالشيخ علي عبد الرحمن رئيس حزب الشعب الديمقراطي، والذي كان موالياً لبيت آلِ الميرغني.
وبناءً على طلب عثمان سبي، تم تكليف عدد من الطلاب الملتزمين والناشطين، إلا إنهم رفضوا التَّفرُّغَ الكامل.
فطُلبَ متطوعون، وتمتْ الاستجابة من ثلاثة طلابٍ وهمْ، شخصي وكُنت بالسنة الأولى بكلية الحقوق ـجامعة القاهرة، والطالبان حامد شيخ إبراهيم وكان بالمرحلة الثانوية ،وإبراهيم عمار وكان في السنة الرابعة بكلية دار العلوم. اِتخذ المجلس الأعلى التريباتِ اللازمة لسفرنا إلى الخرطوم ، ووصلتْ وزميلي حامد مطارَ الخرطوم بتاريخ 22 أكتوبر 1964م، وتخلَّف إبراهيم عمار لبعضِ الوقت بالقاهرةِ ليلحقَ بنا بعد عدةِ أيام.
اِستقبلنا بمطار الخرطوم ،التي كانت تعيش أجواء اِنتصار الثورة ،المناضلُ الشهيد محمود ميكال الشهير بأبو شنت وكذلك بلقب ” سنيوس “، برفقة الراحل محمد أبو القاسم حاج حمد، حيث بقينا بمنزلهِ مدة يومين، لننتقل بعدها إلى منزل اِستأجرته قيادةُ جبهة التحرير الإريترية . كانت مهمتُنا تتمثَّل في توزيع المنشورات والبلاغات العسكريةِ لوسائل الإعلامِ، ومقرَّات الأحزب والنقابات ، وشرح أبعاد القضية الإريترية وعدالتها.
توطدتْ صلتي بقيادة الاتحاد العام لطلاب جامعة الخرطوم بفضل الطالب حينها، والمناضل القيادي بجبهة التحرير الإريترية فيما بعد، زين العابدين ياسين شيخ الدين ، وهو شخص غَنيٌّ عن التعريف. فقد كان عضواً قيادياً، ومسؤولاً للإعلام بعد المؤتمر الوطني الأول لجبهة التحرير الإريترية 1970م، والعلاقات الخارجية بعد المؤتمر الثاني 1975م. توطَّدت صلتي بالطالب السوداني فتحي فضل، وله يرجع الفضلُ في تأسيس الاتحاد العام لطلبة إريتريا الذي نالَ عضويةَ اتحاد الطلاب العالمي، ويمكنني أن أسرد للقاري الكريم وقائع القصة ، فقد اِلتقيتُ الطالبَ فتحي فضل صُدفةً بالقاهرةِ، وكان وقتها رئيساً لاتحاد الطلاب العالمي، وسألني إن كان لدينا اتحاد للطلاب ِ، وذكرتُ له أننا نملك روابط طلابية في عدد من البلدان التي فيها طلاب إريتريون، فاقترحَ عقدَ مؤتمرٍ تأسيسيٍّ من هذا الروابط، وتكوين اتحادٍ عامٍّ للطلاب الإريترين، وتقديم طلبٍ لعضوية الاتحاد العالمي، وهو بِدَوْرِهِ سيسعى، ويضمن له الأصوات التي تؤهله لنيل العضوية.كتبتُ بذلك للأخ عمر جابر عمر، وكان على رأس رابطة الطلاب الإريترين ببغداد ، والتي قررَّت إرسال رسائل لكل الروابط الطلابية حيثما وُجِدَتْ ، ولاقتِ الفكرة القبول والترحيب، وبُذلت جهودٌ كبيرة تكلَّلتْ بعقد المؤتمر العام للطلاب الإريترين في بيروت، وانبثقت عنه قيادة تنفيذيةٌ، وتقدمتْ بدورها بطلب لعضوية الاتحاد العالمي للطلاب.
كانت مهمتُنا كما ذكرت آنفاً، توزيع المنشورات واللقاءات مع القوى الوطنية السودانية، واستقطاب الدعم والتأييد الجماهيري من خلال نقاباتها واتحاداتها ، فانعكس ذلك في التأييد الكبير الذي وجدناه من قِبَلِ اتحاد طلاب جامعة الخرطوم، والذي دعا لمسيرة كبرى تأييداً للشعب الإريتري وثورته . تحرَّك الموكب من حَرَمِ جامعة الخرطوم، لتنضَمَّ إليه قياداتٌ حزبية ونقابيةٌ وعمومُ الجماهيرِ، مُتَّجِهاً صَوْبَ القصرِ الجمهوري ، حيث خرج إليهم وزير إعلام حكومة أكتوبر المجيدة، التي كان يرأسها سر الختم الخليفة، وأعلن تأييد حكومته للشعب الإريتري، وحقه في تقرير مصيره ، كما أعلن إلغاء إتفاقية تبادل المجرمين التي كان قد أبرمها الفريق عبود والإمبراطور هيلي سلاسي ، كما أعلن عن حرية حركة الإريترييْن في أوساط الشعب السوداني لعرض عدالة قضيتهم.
ونتيجةً لذلكَ، تكوَّنت لجنة الصداقة الإريترية السودانية، والتي تم تطويرها إلى هئية الدفاع عن الشعب الإريتري برئاسة المحامي القدير ونقيبِ المحامين السُّودانِيِّينَ آنذاك الأستاذ ميرغني النصري.
كما وطَّدنا صلاتنا مع الصحف السودانية، وأذكر منها هنا الأيام ، والصحافة ، والرأي العام ، والميثاق ، وصوت المرأة التي كانتْ ترأس هيئة تحريرها المناضلة الراحلة فاطمة أحمد إبراهيم ، كما توثَّقت علاقتنا بعدد كبير من الصحفيين والصحفيات، أتذكَّر منهم سيد أحمد خليفة،و محمود محمد مدني، وميرغني حسن علي، وأمال عباس، وأمال سراج، ويحي العوض ، وعبد الله عبيد ، كما ارتبطتُ شخصياً بالشاعر الكبير محمد المكي ـ (ود المكي) ، الذي كان يكتب في صحيفة الرأي العام، وقد كتبَ مقالاً مُؤثراً في الرأي العام تحت عنوان ” محمد نور أحمد، الثائر الذي يتحدثُ شعراً ” جاء ذلك بعد ألقيتُ على مسامعه أهزوجةً شعبية بلغة التجريت ـ(لغة يتحدث بها سكان إريتريا والبني عامر والحباب بشرق السودان) ـ وفيها يعبر شاعرها عن أشواق الشعب الإريتري في الحريةِ، وتأكيد دعمه لثورته. وكان لمقال ودَّ المكي صدى واسعاً في أوساط القُرَّاء والمثقفين عامةً، وقراء الرأي العام بوجهٍ خاص. بعد هزيمة حرب 1967م، عُقِدَ في الخرطوم مؤتمرٌ اللآءات الثلاثة الشهير، لدعم قضية الشعب العربي والفلسطيني، وللزعيم المصري جمال عبد الناصر ، وتكونتْ لجنةُ تضامن مع العرب . وقد عقد المؤتمر بحضور عدد كبير من الملوك والرؤساء العرب.
فكر الشيخ علي عبد الرحمن رئيس وزراء السودان في تلك الفترة أن يحي اتفاقية تبادل المجرمين والتي ألغتها حكومة أكتوبر، ووافق مجلس الوزراء على اقتراحه بحجة أن ذلك سيمثل كسباً لصوت الإمبراطور الإثيوبي ومنظمة الوحدة الإفريقية آنذاك .
تحركنا حينها في أوساط الأحزاب والنقابات واتحاد طلاب جامعة الخرطوم ،الذي بادر بتنظيم الموكب الشهير الذي انضمَّ إليه عدد كبير من جماهير الشعب السوداني، وقواه الحية، والذي تحركَ من أمام الجامعة صوب الفندق الكبير حيث مقر انعقاد مؤتمر اللآءات الثلاثة ، وصل الموكب وزارة الداخلية، وقد أصاب وزيرَها خلف الله بابكر الهلعُ، وعندما عرف وجهة الموكب ، سأل عن مطالبه، والتي تلخصتْ في المذكرة المُطالِبةِ بإلغاء اتفاقية تبادل المجرمين، وإطلاق سراح جميع المعتقلين الإريترين، على أن يتم ذلك في بيان يذاع عبر إذاعة أمدرمان، وهذا ما حدث .وقد سبق الموكبَ مقالٌ في جريدة الصحافة واسعة الانتشار آنذاك، وجاء تحت عنوان” الشيخ علي عبد الرحمن يتنكَّر لثوار إريتريا” للصحفي الصديق الراحل سيد أحمد خليفة. وقد اِتَّخذَ العنوان مانشيت للصفحة الأولى في ذلك اليوم ، ومن المعروف أنَّ السيد علي عبد الرحمن كان من مؤيدي الثوار الإريترين. ومن النماذج المهمة والتي تعكس عمق الترابط والتآزر بين قوى الثورة الإريترية والقوى السياسية الحية والمدنية الطليعية في هذا المقامِ، يمكن أن أسرد لكم قصة تعامل القوى السودانية الحية مع أول ظاهرة اِنقسام في الثورة الإريترية.
فَكما سردت لكم آنفاً أنه وبعد تسليم نظام الجنرال عبود، بعضَ أعضاء حركة تحرير إريتريا التي تأسست في بورتسودان، وكان يقودها المناضل الراحل محمد سعيد ناود، نشأتْ وبشكلٍ سِرِّيٍّ جمعيةُ الصداقة الإريترية السودانية، وأصدرت بياناتها التي تستنكر هذا العمل، وسعتْ جاهدةً للدفاع عن الإريترين عبر المحاكم. وبعد ثورة أكتوبر، تطورت هذه الجمعية إلى هيئة الدفاع عن الشعب الإريتري، وكان قوامها عضوية الأحزاب السياسية والنقابات والاتحادات، وكان يقودها المحامي الكبير الراحل ميرغني النصري والذي كان مكتبة مفتوحاً لاستقبال قياداتِ، وكوادر الثورة الإريترية لمتابعة أحوال الثورة.
أذكر هنا أنَّ هيئة الدفاع عن الشعب الإريتري طلبت من قيادتي جبهة التحرير الإريترية، وحركة تحرير إريتريا لقاءً في محاولةٍ لِتوحيد التنظيمين ، فاستجابتْ قيادة حركة تحرير إريتريا، بينما تعلَّلت قيادة جبهة التحرير الإريترية بأنَّ الحركة لا تملك قوةً عسكرية في الميدان داخل إريتريا، وعليها الانضمام لجبهة التحرير الإريترية التي كانت تقود كفاحاً مسلحاً ضد قوات الإحتلال الإثيوبي، بعكس الحركة التي كانت تراهن على العمل المدني.
وقد كُلِّفْتُ شخصياً بإيصال رد الجبهة إلى رئيس الهيئة الأستاذ النصري ، وكان صدمته وصدمة قيادة الهيئة كبيرةً، وكردِّ فعل لذلك، قدَّم الحزب الشيوعي السوداني كميةً من السلاح التي تم استجلابها من مخلفات حرب الكنغو، وسلَّمها للحركةِ الراحل معاوية سورج ، وعلى الفور سلَّحت حركة تحرير إريتريا بعضاً من عضويتها، ودفعت بهم إلى داخل الأراضي الإريترية للقيام بدورهم في تحرير بلادهم.ولم تتقيل قيادة جبهة التحرير هذا الأمرَ، فأصدرت تعليماتها العسكرية بتصفية المجموعة المسلحةِ لحركة تحرير إريتريا، وكان ذلك ذلك، وتمتْ تصفية المجموعة المسلحة في منطقة ” عيلا ظعدا” ـ البئر الأبيض عام 1964م. يذكر هنا أنَّ حركة تحرير إريتريا تم تأسيسها بدعمٍ معنوي وسياسي من الحزب الشيوعي السوداني بقيادة الراحل محمد سعيد ناود – الإريتري الأصل – عضو قيادةِ فرعية بورتسودان للحزب الشيوعي.
وضمن التداعي التاريخي هذا، لا أنسى الدور الداعم للأستاذ محمود محمد طه وحزبه الجمهوري لقضية الشعب الإريتري خاصةً بعد ثورة أكتوبر، حيث كان منزله ومقرُّ حزبه مفتوحاً لنشاطاتنا . والعلاقة بين الأستاذ محمود والشعب الإريتري قديمةٌ، حيث عمل مهندساً زراعياً منتدباً لمشروع “علي قدر” الزراعي والمتخصص في زراعة القطن ،وأقام الراحل بين السكانشن حيث ساهم في بناء وتدشين أول مدرسةٍ ابتدائية في الخمسينات.
هذا غيضٌ من فيضٍ من تاريخ العلائق السياسية لقوى الثورة السودانية وأحزابها، وفي ختامه لا يسعني إلا أن أُناشد قوى الحرية والتغيير، واتحاد المهنين وسائر القوى السودانية الحية، أن تساند قضية شعبنا الإريتري في أن يحقق أهدافه في الديمقراطية والسلام والقيادة الرشيدة وإقامة دولة القانون.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
# جمال همــد : صحفي إريتري محرِّرٌ لموقع ” عدوليس ” الإخباري الإريتري، مقيم بمدينة ملبورن الاسترالية.
# تم نشر الحوار في مجلة ” كتابات سودانية ” في عددها ( 59) مارس ـ أبريل 2020

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى