مقالات

صالح احمد إياي المبتدأ والخبر ..! ( 1 من 2 ) بقلم / جمال همــــد

16-Nov-2016

عدوليس ـ ملبورن ـ خاص

بجد وهدوء تعمل العصبة لإزالت ذاكرتنا وكنس خزائنها .. التعدي على الموروث الثقافي .. تزوير الأغنيات ..محو الصور والوقائع .. إعادة كتابة التاريخ … الخ. يراهنون على الزمن ووقائع يوميات الشتات والمنافي ، لكنهم خسئوا وخاب فألهم .إذا كان البعض من قوى التغيير تعمل بدأب لإسقاط نظامهم فإن قوى التنوير والتغيير تعمل في كل مكان من أجل الحفاظ على الذاكرة طريه وواضحة المعالم.ضمن هذا الجهد نحاول في ( عدوليس ) ان نُحي بالمستطاع تاريخ مناضلي الثورة الإريترية وقياداتها أفرادا وجماعات.دائما ما كان الرجل بقامته المديدة وإبتسامته المريحة وحكاياته وملحه وحكمته التي تستمد معينها من مخزون هائل للثقافة الشعبية تلح علي ان أكتب عنه وأتقفى اثره. كنت متأرجحا بين الصحفي الذي يقدم مادة يومية والباحث في سير الشخصيات، ودائما ما تتغلب الحالة المهنية على الثانية فلست في حاجة لجهد المؤرخ ولا أدواته يكفيني ان احدث كوة لأطل منها وليطل معي القاؤيء إلى عالم فسيح غني

يترامى في سهل منبسط ، لذا حسمت أمري وولجت عالم صالح أحمد إياي برفقت المناضل ولديسوس عمار ، ومناضل من عضوية الجبهة الشعبية يهتم برصد سير وقائع الحياة في إريتريا ـ الداخل ـ وسير القيادات التاريخية للثورة الإريترية سنرمز لإسمه بـ ( س ) ، وأهم من ذلك كله ملح رحلتي لهذا العالم كانت زيارتي لأسرة الراحل في منزلها المتواضع في فلامنتجون بحاضرة ولاية فكتوريا ـ ملبورن الجميلة وكانت هذه الحصيلة.
جمال همــــد.
في الحادي عشر من الشهر الحادي عشر من اثنى عشر خلون توقف القلب الضاج بالحياة والناس عن الخفقان ، لينتقل الرجل إلى رحاب رب كريم بعد حياة حافلة تداخل فيها العام بالخاص ويتماهى الشخصي بالعمومي.
في عام 1958م جلس الشاب المتحمس المليء بالحياة والمفعم بالأمل صالح احمد إياي مع عدد وفاقه في منزل الراحل القائد محمد سعيد ناود الموظف بالبوسطة المناضل في الحزب الشيوعي السوداني بحي “ترانزيت” ببورتسودان ليؤسسوا أول حركة منظمة لمقارعة الإحتلال الإثيوبي الذي زحف كما السرطان في جسم البلد الصغير.
صالح أحمد إياي برز من البداية كقائد وصاحب قرار يسنده في ذلك تراكم تجاربه وقوة شخصيته وجسارته و(رجالته) إذا دعت الضرورة .
كنت وجلا وأنا ألاقي الشاب الممتليء حماسا ويتقد بحب بلاده وثورتها ورجالاتها ” إياي صالح إياي ” لكي يقودني لمنزل الأسرة ، كنت وجلا حقا لأنني لم أحسم أمري من أين سيكون مدخلي ، وكنت طوال الطريق اضع الخطط واراجع الأسئلة وابني وأهدم ، كيف لا وأنا سألتقي بزوجة مناضل كبير رافقته طوال سنوات نضاله إمرأة قوية دون قسوة تحمل كل سمات الأمهات .. ألتقيها بعد ( 12 ) عام من رحيله وبعد ( 3 ) سنوات من وجودي معها في مدينة واحدة .
“أم إياي ” التي أستقبلتنا في الباب بحفاوتها واريحيتها وهي المعروفه بكرمها الزائد وطيبة الأمهات التي تحمل ـ أعترف ـ فقد أربكت خططي ، وأطاحت بكل ترتيبي.
تركت لنفسي ان تنقاد لترتيبات ” أم إياي ” التي لم تجلس أمامي إلا بعد ان فرغت من تقديم واجب الضيافة والسؤال عن أحوالي في ملبورن ، وكيف أستقبلتني مدينهم .. ألخ. إبتدر حديثي معها بالقول :
كيف هي الأحوال والصحة بعد غياب رفيق دربك وسندك القائد المناضل صالح أحمد إياي ؟
( الحمد لله أنا بخير ، وبصحة جيدة كما ترى .. فقط الفقد والوحدة .. هي سنوات طويلة وحافلة ولا يمكن نسيانها . صالح الأخ والزوج والصديق ترك فراغا عريضا وكبيرا وهو الذي كان مليء السمع والبصر طوال سنواته التي كانت عامرة بالعطاء والنضال ).
ومن المعروف ان المناضل الكبير كان صديقا لكل المناضلين ليس في داخل تنظيمة جبهة التحرير الإريترية بل أمتدت لكل الفصائل ، البعض من أصدقاء الطفولة والصبا والشباب والبعض عمل معه مباشرة وفي مختلف المراحل والمواقع والبعض صادقه من خلال الحكايات والطرف التي أشتهر بها .. الخ، وهذا يعني ان خطوط الأتصال بيه وبين الآخرين كانت دوما ساخنة ومفتوحة .
سألت أم إياي بعد هذه السنوات من الغياب هل أصدقاء الفقيد يتصلون بكم ويسألون عن أحوالكم ؟.
( الحياة لا تترك مجالا للناس لكي يلاحقوا أحوال بعضهم البعض .. ربنا يعين الجميع . . لكن أتلقى إتصالات منتظمة من الأخ احمد أبوسعده بالرغم من أوضاعه الصحية وأحوال سوريا ، كما أتلقى بإستمرار اتصالات من الأخ محمد شيخ عبدالجليل الذي وقف مع غيره معنا في تلك الفترة العصيبة عندما كان أبو إياي طريح الفراش في المستشفى..) يلتقط الحديث إياي ويقول : أصدقاء والدي وقفوا معنا إبان فترة مرضه ولم يقصروا والأسماء كثيرة أخص هنا بالذكر الاعمام سليمان موسى حاج وصالح حمداي ومحمد شيخ عبدالجليل والعمة العزيزة آمنه ملكين متعهم الله بالصحة والعافية وليعذرني الأعمام وهم كُثر في وقفتهم مع الأسرة أطال الله عمر الجميع ، ولا أنسى وقفت أخوالي مع الأسرة بعد وفاة الوالد رحمه الله ، وأثناء مطارات الأمن السوداني للوالد في الخرطوم ، تعود “أم إياي ” وتسألني عن بعضهم ولتختتم حديثها نحن بخير :
( نحن بخير والحمد لله ) وربنا يكون في عون المناضلين الذين ضحوا من أجل بلادهم .. فقط أوصيكم ان تكتبوا عنهم، ارخوا لهم وأذكروا نضالاتهم أرجوكم ).
ثم ننتقل للحديث حول فترة العودة لإريتريا وتعين المناضل صالح أحمد إياي مديرا لإقليم اكلوقزاي فقالت :
( الفترة كانت قصيرة ولكنها كانت حافلة وغنية ، المناضل أبو إياي نسج فيها علاقات شعبية مع الأعيان والواجهات والبساطاء من الناس ، وإستطاع إنجاز ما يستطيع بعيدا عن الدوائر الحكومية).
صالح أحمد أياي بحكمته كان يدرك ان البعض من رجالات العهد الوطني كان يريده ان يكون واجهة يحكم من خلالها لما له من مكانة في وسط سكان المنطقة وأبو إياي كان يدرك ذلك، لذا إلتف على أحابيلهم وأجهض خططهم ، ليخط طريقا لايتوقعوه للوصول لقلبوب الناس.
وصالح أحمد إياي الذي وصل مبكرا لسوريا هو واحد من الذين أرسوا دعائم العلاقات السورية مع جبهة التحرير الإريترية محققا مكاسب كبيرة للثورة ، كما كان له القدح المعلى في الوضع المميز الذي عاشه الإريتري في سوريا ، وخاصة بعد وصول حافظ الأسد للسلطة.
احمد أبوسعده الصحفي والكاتب والمصور الذي رافق صالح أحمد إياي طوال وجوده في سوريا كشف في حوار له نشر قبل سنوات في موقع ( ناود للكتاب ويورد ما يلي :
” أبو إياي أول قيادي إريتري يستقبله حافظ الأسد وكان ذلك بعد قيام الحركة التصحيحية . وتابع أبو سعده تداعياته : وبعد 24 ساعة على اللقاء بالرئيس الأسد أتصل بي مدير الاستخبارات العسكرية هاتفيا علي ظاظا ، وكان شخصية مقربة جدا من الرئيس الأسد ، وسألني عن طبيعة النضال الإريتري وعن الثورة وماهيتها ، فحكيت له وكان قد أخذ علم مسبق عن مادار بيننا من أحاديث مع الرئيس ، وماهي إلا لحظات حتى كنت وأبو أياي في مكتب السيد علي ظاظا الذي عرض علينا قوائم بالأسلحة المهداة للثورة الإرترية وكانت بكميات كبيرة وربما تفيض عن حاجة الثورة في حينه ، ومنذ تلك اللحظة بدأ الجسر الجوي ينقل تلك الأسلحة إلى الخرطوم ومنها إلى الميدان ولا يخالجني أدنى شك أن ذلك العتاد كان له أعظم الأثر في نفوس الإريتريين من المقاتلين ، ومنذ ذلك الحين يمكن أن نقول أن الثورة الإرترية أصبحت أمرا لايمكن تجاوزه في سوريا من خلال الحزب والدولة ، فقد تدفقت المعونات والمساعدات إلى إريتريا ، أيضا فتحت الجامعات والمدارس للطلاب الإريتريين وكان القبول استثنائيا لدخول الجامعات ، أيضا إضافة القضية الإريترية إلى المناهج التعليمية في المدارس السورية ، وتثبيت خارطة إرتريا كجزء من الوطن العربي في منهاج التثقيف الحزبي” .
ــــ إنتهت شهادة الزميل أبوسعده ـــ.
في الذكرى العاشرة لرحيلة كتب المناضل ولديسوس عمار في موقع ( نحارنت ) الناطق بإسم حزب الشعب الديمقراطي مقالا أعدنا نشره في ” عدوليس ” وقدمت له بالقول :
“(20 ) ونيف ومازال الشعب الإريتري ينزف .. فقد ثرواته ، إستقراره .. آماله ، ويفقد كل يوم واحد من رجالة الأفذاذ . يرحل الرجال والنساء واحد إثر آخر ، كأنهم يتشبثون ببعضهم ، خوفا منًا ، نحن الذي نتعايش مع الماساة دون إكتراث !!. أنجزوا تاريخا ناصع البياض ،وتركوه لنا .. وعجزنا حتى عن مهمة تدوينة على الأقل”.
ينتمي إياي الي جيلٍ استثنائي من الاريتريين بلغ الرشد أواخر الخمسينيات والسنين الباكرة من الستينيات في زمانٍ اشتعلت فيه شعوب العالم الثالث حماساً واجتاحتها حمي تسمي الثورة من أجل التحرر الوطني ، وقد التهم ذلك الحماس الغامر والتفاني في حب الحرية والاستقلال حياة العديد من الارتريين من خلفيات وأصول متباينة حتي نهايتها ، إلا أنه ـ أي الحماس ـ ربما لم يستمر بنفس القدر من الحيوية بعد جيل إياي والذي يليه مباشرةً . لقد كانت البيئة السياسية قابضةً ومتحكمة ، وفي ارتريا اتسمت بيئة إياي السياسية بالخصوصية ، لقد كانت بيئته بيئة مدينة كرن ، تلك المدينة التي احتضنت مقرات أول وثاني أكبر الأحزاب الارترية التي كانت تدافع عن الاستقلال قبل عقدٍ من ذلك الزمان ، كرن التي كانت مقر رابطة إبراهيم سلطان ـ الرابطة الاسلامية ـ وحزب ارتريا الحديثة ، لم يكن لإياي بد أو مناص من أن يكون جزءاً من ذلك (( الجيل السام )) ، ودعوني أولاً أحدثكم قليلاً عن هذا (( السم )) ، عندما صار السيد / أسفها ولدميكائيل رئيساً للسلطة التنفيذية في اريتريا صيف العام 1955م خلفاً للسيد تدلا بايرو نــّظم زيارةً الي كرن وجمع كل الناس في ميدان الكرة وخاطبهم قائلاً : (( كرن هذه ، كرنكم هي كوب من السم وبقية ارتريا برميل ماء ، وإذا خلطنا الاثنين ـ الكوب والبرميل ـ فكوب السم جدير بتسميم كامل البرميل ، وسوف ننظر اليها ـ كرن ـ نظرتنا الي السم الذي يجب ألاّ يخالط الماء )) ، الزعيم إبراهيم سلطان كان من المستمعين الي ذلك الخطاب وربما استمع اليه أيضاً صالح أحمد إياي ابن الثامنة عشر حينها ، ولكن لسوء حظ رئيس الوزراء الجديد أسفها ولدميكائيل وسادته لم يكن باستطاعتهم إيقاف مد وانتشار ذلك (( الجيل السام )) لا في كرن ولا في غيرها من بقية أركان القطر . فقد عرف صالح إياي في كرن بإثارته الشغب والمتاعب للحكومة الاستعمارية قبل أن يذهب الي بورتسودان بالسودان ويقابل هناك زملاءه في المزاج الثوري وليواصل نشر ذلك (( السم )) . وفي الثاني من نوفمبر 1958م اجتمع ثمانية من الشبان الاريتريين من بينهم صالح إياي بمنزل السيد / محمد سعيد ناود بحي الترانزيت ببورتسودان ليؤسسوا حركة تحرير ارتريا التي عمّ نفوذها جميع أنحاء ارتريا في فترة وجيزة . في يناير 1961م عقدت الحركة أول وآخر مؤتمر لها بالعاصمة الارترية أسمرا وإياي كان واحد من الأربعين عضو في المؤتمر والذي ضم حينها : الزعيم المؤسس للحركة السيد / محمد سعيد ناود ، ياسين عقدة ، آدم ملكين ، محمد برهان حسن ، علي برحتو ، تكؤ يحدقو ، كحساي بهلبي ، محمد عمر أكيتو ، عبدالكريم سعيد قاسم ، الشيخ سعدالدين محمد ، خيار حسن بيان (( أحد الأثرياء والوطنيين الشجعان وقد عقد المؤتمر بمنزله )) وأسماء أخري معروفة . صالح أحمد إياي كان تقريباً حاضراً في قلب كل اجتماع مهم أو صعوبات ومتاعب تخص القضية الوطنية الاريترية ، فعلي سبيل المثال أنفق عاماً من عمره بالسجن الإثيوبي الشهير والرهيب المعروف بـ (( ألم بقا )) بأديس أببا ، وكان حضوراً بمؤتمر أدوبحا العام 1969م الذي لعب فيه دوراً هاماً ومشهوداً ، كما حضر المؤتمر الوطني الأول في العام 1971م .”.نكتفي بهذا الجزء من شهادة الأستاذ المناضل ولديسوس عمار ..
في الجزء الثاني : شهادات أخرى وأهمها شهادة مناضل سابق في الجبهة الشعبية تكشف عن عمق الرؤية والرؤى التي كان يتمتع بها الفقيد القائد صالح أحمد إياي .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى