منظمات المجتمع المدني (2-2) : صالح اشواك
16-Oct-2011
المركز
إن طول فترة الاحتلال الإثيوبي للأراضي الإرترية، والتي تزيد على الأربعين عاما، أدت إلى حالة من عدم الاستقرار السياسي والأمني، و وكذلك إنعدام العمل المدني ؛ مما فرض على المجتمع الإرتري كثيرا من التحديات غير المتوازنة على صعد مختلفة منها: السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، حيث أصبح الهدف الأساسي للشعب الإرتري منذ البداية الأولى للاحتلال هو مقاومة الاحتلال وصولا للتحرر الوطني وإقامة الدولة الإرترية المستقلة.
ومع اختلاف المراحل التي مر بها الشعب الإرتري على مر تاريخ الصراع واختلاف موازين القوى العالمية والهزات السياسية المتعاقبة التي مرت بها المنطقة عموما، وانعكاساتها على القضية الإرترية، برزت اختلافات في توجهات التنظيمات السياسية نحو اختيار الأسلوب الأمثل والأشكال النضالية المناسبة لتحقيق هدف التحرر الوطني وإنهاء حالة الصراع القائم. ومع اختلاف الأسلوب والوسائل فقد كان الهدف واحد وهو التخلص من الاحتلال وإقامة الدولة الإرترية المستقلة.وقد استمر العمل المنظم لكل التنظيمات في محاولاته لبناء الكيان الإرتري حتى أوائل التسعينيات والتي كانت تمثل فترة ما قبل التحرير عبر خلق جهاز فاعل للمنظمات الجماهيرية التي كانت في بعض الأحيان تتمتع بالإستقلالية علي الأقل من ناحية نظرية في دساتيرها ومبادئها العامة لتعمل كضلع يمثل دور منظمات المجتمع المدني . ومع الاستقلال و إعلان نتيجة الاستفتاء أعتبر بعض التنظيمات و السياسيين أن الدولة الوليدة الإرترية دخلت في وضع أكثر استقرارا ، كنتيجة طبيعية للتوق إلي الحرية الذي كان يعيشه الجميع وهنا تم تجاهل ما يلزم من ضرورات تسهم في بناء الحياة المدنية بعد إن خلع الجميع الزي العسكري و مع الأسف لم يصدر أي مرسوم رسمي من قيادة الدولة الوليدة أو حتى حديث يعبر عن دور و مفهوم المجتمع المدني بشكل عام في أوساط المثقفين أو الدوائر التي يمثلونها من صحافة أو منابر إعلامية أو دور تعليم عالي أو مراكز بحثية لأن غياب الخدمة المدنية بالمفهوم الوطني عن البلاد نتيجة لوجود المستعمر الإثيوبي وفرضه نمطاً قائم علي ما يطابق المعايير التي تناسب وتبرر استمرار الاستعمار ربما غيب ثقافة إدارك أهمية دور منظمات المجتمع المدني وبالتالي لم يعد ممكناً أن تكون عملية المشاركة الجماعية الطوعية والمنظمة في المجال العام ممكنة علاوة علي تبني تنظيم الجبهة الشعبية طريق أخر يخالف تحقيق ذلك عبر إنفراد التنظيم بالسلطة واستئثاره بها غير عابه بالشراكة مع بقية الفصائل الوطنية الأخرى ضارباً عرض الحائط بكل أحلام وتطلعات الشعب الإرتري ، والدور المترتب على منظمات المجتمع المدني تجاه بناء الكيان الوطني، والتحول الديمقراطي للمجتمع الإرتري من المقاومة إلى التعمير والبناء والتحول إلي مجتمع ديمقراطي تسوده الشفافية بما ينسجم مع متغيرات المرحلة الجديدة سياسيا.في ظل غياب المؤسسات الديمقراطية وإنكار نظام أسمرا الإحادي لشراكة التنظيمات السياسية ودورها في صناعة الإستقلال انطلقت التنظيمات السياسية الإرترية في ظل هكذا معطيات بالإضافة إلي تعاطي نظام الخرطوم في علاقته مع نظام أسمرا من منظور أمني أجهض الدور العسكري لهذه التنظيمات إلي العمل الجماهيري المنظم ، وبدأت تأخذ دورها على شكل تنظيمات وحركات وأحزاب سياسية لها حقوق وعليها واجبات من خلال ممارسة دورها في تأطير الجماهير ؛ سواء على الصعيد البنيوي الذاتي لتلك التنظيمات، أو على صعيد المشاركة العامة لتلك التنظيمات في الحياة السياسية الإرترية. ورغم أن اعتبار الحركات والأحزاب السياسية جزءا من منظمات المجتمع المدني لا زالت مسألة خلافية في الوسط الإرتري علي الرغم من أن بعض المدارس الفكرية تقر ذلك ، إلا انه في الحالة الإرترية تم اعتبار هذه التنظيمات الأحزاب السياسية أهم من المنظمات الجماهيرية التي تمثل منظمات مجتمع مدني في الحالة الإرترية كونها الأقدم و الأكبر والأكثر نفوذا في المجتمع السياسي الإرتري، وهي التي بادرت أيضا بتأسيس معظم المنظمات الجماهيرية أو تحكمت في تطورها ونشاطاتها بسبب مرحلة التحرر الوطني التي تحملت هذه التنظيمات مهامها وأعباءها. ولعل هذا احد ابرز وجوه الخصوصية الإرترية.وكما سلف عقب دخول الجبهة الشعبية إلي اسمرا وإقامة سلطة الحزب الواحد في عملية تحول من مرحلة الثورة إلي الدولة؛ كان من المفترض أن تتسع رقعة انتشار منظمات المجتمع المدني . لتلعب دورا بارزا في عملية التحول من مجتمع كان يقع تحت سلطة الاحتلال إلى مجتمع يسعى إلى بناء دولته الديمقراطية ، إذ أن هذا التحول الجذري الهادف الذي تسعي إليه المعارضة الإرترية لنقل المجتمع الإرتري من مجتمع يعاني حكم متسلط ومن مرحلة المعارضة الوطنية إلى مرحلة بناء الدولة ومجتمع السياسة باعتبار أن المعارضة الوطنية هي السلطة السياسية أو مشروع الدولة عقب سقوط نظام ( الهقدف) فأن ذلك يشكل بلاشك تحدياً كبيراً وبالتالي فأن هذا يستلزم بناء منظمات مجتمع مدني قوية وفاعلة ومدركة لدورها كضلع ثالث بين القطاعين العام والخاص.ولعل في المحاولات الجارية لخلق دور فاعل لمنظمات المجتمع يجب بروز منظمات متنوعة في برامجها. منظمات حيوية تمارس دورا بارزا في رسم الأجندة والمصالح الوطنية وفي نفس الوقت تسعى إلى تدعيم أسس المجتمع الديمقراطي ، كما إنه علينا أن نعبر عن توجساتنا من بروز منظمات ستمثل أنواع وأشكال: فمنها ما يتبع التنظيمات السياسية وتهتم بتقديم برامج “حزبها” وسياساته في الموقف من النظام علي غرار ما ظهر من تباين في وجهات النظر في سمنار المثقفين في أديس أبابا من تصنيف النظام كونه طائفي من عدمه ، فمن الطبيعي أن تتصارع القوى السياسية والاجتماعية من اجل الفوز في السلطة أو السيطرة عليها، ومنها من اعتقد أن مرحلة التحرر الوطني قد أنجزت بالكامل فأسقطت من اعتباراتها الإستحقاقات الوطنية، أو ركنتها للمناسبات الاحتفالية العامة وانساقت بلا حدود في برامج جهوية وإقليمية وقبلية متجاهلة عن قصد أو غير قصد خصوصية الحالة الإرترية، ومنها ما يسير وفق ما تتطلبه أو تشترطه أجندة الممولين.إن الواقع السياسي الإرتري يفرض على هذه القوى والمنظمات دورا أكثر أهمية في هذه المرحلة للوصول إلى مرحلة الاستقلال السياسي وإقامة حكومة وطنية ومنظمات تسعى في عملية بناء المواطن الإرتري ثقافيا وسياسيا، وتفعيل وتوجيه الحياة السياسية الوطنية نحو تشكيل قوة مانعة تمنع ارتكاب الانتهاكات الجسيمة بحق المواطن الإرتري وتتدخل لحماية الأفراد وقت الحاجة من جهة ثانية. إن الجمع بين المهمتين: مهمة السعي إلى تحقيق المصالح الوطنية العليا، ومهمة بناء المجتمع الإرتري الديمقراطي يحتاج إلى قدرة إبداعية على العمل خصوصا في بناء العلاقات مع حركات التضامن الدولية والمنظمات الداعمة كي لا تحرق المراحل، وكي لا تستحوذ الأجندة غير الوطنية على الأولوية في عمل ونشاط المؤسسات. وباعتقادي أن هذا الجمع الإبداعي هو السبيل الأسلم لتشكيل منظمات مجتمع مدني واعية وراشدة تبدد الأجندة المنكفئة علي الذات الإقليمية والجهوية القبلية .مما لا شك فيه فيما لو تم التوافق علي إعتبار المنظمات الجماهيرية منظمات مجتمع مدني فإن أغلبيتها ترتبط مع العديد من تنظيمات المعارضة الوطنية بعلاقات متفاوتة ما بين التعاون، والصداقة، ، والتبعية…ألخ والقائمة طويلة عن طبيعة هذه العلاقات والارتباطات. بالإضافة إلى الارتباط بالأهداف والبرامج بين تلك المؤسسات.تختلف المؤسسات والتنظيمات في ما بينها، تقدما وتخلفا، ومن ثم فاعلية. واحد معايير ذلك درجة مؤسسيتها. إن درجة مؤسسية أي نسق سياسي تتحدد في ضوء أربعة معايير يمكن استخدامها للحكم على مدى التطور الذي بلغته مؤسسة أو منظمة ما، وهي: القدرة على التكيف في مقابل الجمود، والاستقلال في مقابل التبعية والخضوع، والتعقد في مقابل الضعف التنظيمي، والتجانس في مقابل الانقسام.ويقصد بالاستقلال ألا تكون المؤسسة خاضعة لغيرها من المؤسسات أو الجماعات أو الأفراد ، بحيث يسهل السيطرة عليها، وتوجيه نشاطها الوجهة التي تتفق مع رؤية المسيطر. ويندرج ضمن ذلك الاستقلال المالي لمؤسسات المجتمع المدني والذي يمكن تحديده من خلال تحديد مصادر تمويل هذه المؤسسات واشتراطات التمويل. بعبارة أخرى، يعتبر التأسيس الاقتصادي أهم عناصر الاستقلالية، كما انه يشكل سياجا للمنظمة المستقلة، وعنصرا من عناصر استمراريتها وحفاظها على التزامها بأهدافها التي أنشئت من اجلها. ومن خلال هذا الجزء الأخير من المقال قصدنا أن نركز على دور هذه المنظمات في تعزيز المشاركة السياسية على الصعيدين المحلي والدولي .إذا ما تم اعتبار المشاركة السياسية هي ذاتها ممارسة الحقوق والحريات السياسية المقررة للأفراد، فانه يجب الإجابة على السؤال التالي: هل تمتع الفرد بالحقوق والحريات السياسية، حتى بافتراض وجودها كما هي مقررة في أفضل الدساتير والوثائق الدولية، وبافتراض تمكن الأفراد من ممارستها، هو تجسيد للمشاركة السياسية؟إن ممارسة الفرد للحقوق والحريات السياسية لا يقود بالضرورة إلى تجسيد المشاركة السياسية؛ وذلك لان المشاركة السياسية لا تتحقق إلا بالفعل الجماعي المنظم والموجه الهادف إلى تغيير، أو الحفاظ على، أو التأثير في السياسات الحكومية: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية منفردة أو مجتمعة.وبهذا المعنى يمكن القول أن ممارسة الفرد لحقه في الاقتراع مثلا؛ لا يشكل بحد ذاته مشاركة سياسية بالمعنى المشار إليه أعلاه؛ بينما ممارسة حق الاقتراع ضمن فعل جماعي منظم وموجه يرجى منه تغيير السياسات الحكومية القائمة أو الحفاظ عليها، أو التأثير فيها تعديلا وتطويرا، يندرج ضمن مفهوم المشاركة السياسية. إن ممارسة الفرد لحقوقه وحرياته السياسية مهما بلغت درجة اتساعها، تبقى مجرد ممارسة فردية لا ترقى إلى مستوى المشاركة السياسية والتي هي في المحصلة النهائية فعل جماعي واع ومنظم. ويبرز الخط الفاصل بين الأمرين عند ملاحظة أن قطاعا واسعا من الأفراد، وبالأخص في الدول ذات التجربة الديمقراطية الحديثة، يقدمون على ممارسة حقهم في الاقتراع من قبيل إرضاء الذات، أو على سبيل المجاملة، أو من باب حفظ الود بين ذوي القربى والأصدقاء والمعارف. وبالتالي لا يمكن إدراج هذا السلوك، رغم انه يسهم في تقرير نتيجة الاقتراع، ضمن مفهوم المشاركة السياسية كفعل جماعي موجه هادف إلى تغيير.على المستوى الإرتري تأتي عملية إسقاط النظام على رأس أولويات المنظمات الجماهيرية ( منظمات المجتمع المدني). وهذا أمر يفترض لتحقيقه بالضرورة وجود إستراتيجية شاملة غير منفردة وذلك باعتبار أن مؤسسات المجتمع المدني من أهم قنوات المشاركة الشعبية القادرة على ممارسة النشاط السياسي بشكل مباشر، والقادرة على تشكيل قوى ضاغطة من خلال علاقاتها مع منظمات المجتمع المدني الدولية والعربية لفضح ممارسات النظام القمعي على كافة المستويات الشعبية والرسمية محليا ودوليا، والقادرة على التأثير على الرأي العام بما يخدم المصالح الوطنية للشعب الإرتري هذا علي افتراض ممارسة دورها كما يجب.وعليه، ومع الاحترام للدور النضالي الذي لعبته المنظمات الجماهيرية الإرترية على مر مراحل النضال الوطني، يلاحظ بان هذه المنظمات على كثرة عددها وانتشارها واتساع أهدافها ، لم ترتق إلى الحالة الجماعية المنظمة الهادفة إلى إحداث التغيير؛ فتعددت المسميات مع إنها تمثل فئوياً شريحة واحدة.من خلال ما تقدم، فان منظمات المجتمع المدني الإرترية تعتبر البركان الوطني الذي إذا ما اتحدت عناصره وتركيباته في قاعدة المصالح الوطنية العليا للشعب الإرتري انطلاقا إلى فوهة الأهداف الوطنية وبناء الدولة، بعيدا عن الفردية والفئوية والمصالح الضيقة في تمويل هنا ومشروع هناك، فانه سيشكل نمطا نضاليا متميزا. ولكن هذا الأمر متوقف على قدرة منظمات المجتمع المدني على إيجاد استراتيجيه وضوابط تمنع انزلاقها لتنفيذ أجندة المنظمات الداعمة غير المتوافقة مع الرأي العام الذي يشكله الموطن البسيط وشبابنا الذي فقد إدميته بسبب ممارسات النظام الطائفية ، وعلى قدرتها على تنظيم تحالفاتها مع المنظمات الدولية دون الوقوع في شرك التبعية والانصياع لشروط منظمة هنا وأخرى هناك. فهل سيثور ذلك البركان.