مقالات

ثلاثون كيفا أو يزيد بين استقلال واستغلال وحرية!

بقلم / فتحي عثمان

ثلاثون “كيفا” أو يزيد قدر التساؤل وجرح السؤال. ثلاثون بيضت السوالف وسودت الأرواح. ثلاثون أعجمت عند بعضنا النفس والعود، وأنضجت منا الجلود، وتركت بعضنا غضا طري النفس يميل حيث الريح تميل. منحنا الآباء السابقون والأبطال الباقون وبثمن الدم وطنا مستقلا فاستودعناه مصفدا قفص السجان. وطن مستقل غير حر، يستجدي حريته عند موائد اللئام، فكيف، وبعض من لجة كيف، سؤال عن الحق، نرقص فرحا على أشلاء قتلانا؛ وكيف يسمع المغيب والحبيس وقع رقصاتنا وجلجلة ضحكاتنا وراء ظلمات زنزانته الكئيبة. لا نحزن ولا نلعن، لأن لنا صباحا تشرق فيه شمس حريتنا، لا استقلالنا الخديج، وتتم فيه فرحة الاحتفال بعودة اللاجئ والطريد والغائب والمغيب، والاستقلال المزدان بالحرية، حينها فقط يحلو الاحتفال وتتم دائرة الكمال: حينها فقط. وأس الكيفيات هو “كيف صرنا إلى ما صرنا إليه؟” كانت رحلتنا في البداية كانطلاق صاروخ خارق، كلما أوغل في حلكة الفضاء تخلص من جزء منه. انفصلت قاعدة الدفع بانفصال الشعب، طارت الزعانف عندما تمت خيانة الثورة، انفك الصدر عندما دفن القانون، ثم بقيت في ظلمة الفضاء السحيق كبسولة يتيمة بها “رائد فضاءنا الوحيد: نيرون زماننا العنيد.

ثلاثون كيفا أو يزيد نشوى على جمر نار هادئة يستلذ بالغناء حول دائرتها طاغية زماننا، فكيف بالله كيف؟ جاء الطغيان معتليا صهوة جواد الثورة، وما لبث أن خانها لأنها كانت على مبدأين لا يطيق أي منهما: حق لتقرير مصير، وحياة كريمة. فلا ملكنا مصيرنا ولا عشنا حياة كريمة. الدمار هو الوسيلة والغاية. دمار الانسان والاسرة والمجتمع ثم التفرج على أطلال الوطن المهدوم. فماذا يعني أن تشيد وتعبد طريقا من ألف كيلومتر والإنسان ممنوع من السفر؟ والتاجر لا يقوى على الترحال بنصف كيس من الملح ليكسب قوت عياله: بناء للحيطان وتدمير للإنسان. تدمير ثلاثي الأبعاد: كبت الازدهار الاقتصادي حتى لا يؤدي إلى تغيير مجتمعي ثم بعده التغير السياسي. يعلم الطاغية بأن التغير الاقتصادي يخلق تغيرا اجتماعيا ويؤدي التغير الاجتماعي بدوره حتما إلى توسعة الماعون السياسي: قانونا وممارسة. التغييران السابقان يشقان الطريق شقا نحو التغيير الثالث؛ الذي لا محالة صائر إلى التحقق بعدهما. خنق التغيير تم بمكر شيطان مريد: بمنع عودة اللاجئين، ووضع قيود وسلاسل ما يسمى بالخدمة الوطنية، وتكميم الأيدي والأفواه والرمي في السجون، ثم الدخول في حرب إثر حرب، ومصادرة الحقوق، وأخيرا التهجير ليكمل ثالثة الأثافي. كل ذلك تدمير محسوب ومدروس ومخطط له، ومن يظن غير ذلك فليراجع تفكيره واستقراءه. كل ذلك يضع الوطن على شفير الفقدان المؤكد، تماما كما أحرق نيرون روما ذات يوم. وكل ذلك أيضا، يجعل الرقص على أوتار استقلال ناقص عارا وشنارا؛ لأننا في غيابة الرقص نضيع النصف المتبقي من الوطن، هذا الوطن الذي آلى الطاغية على نفسه تسليم مقاليده لقياد الخراب. حربنا مع نيرون زماننا هذا، هي حرب بالوطن وللوطن، وهي ليست حرب تسييس أو تلبيس؛ بل هي حرب ووجود أو عدم، لأننا لا نحاربه هو فقط؛ بل نحارب فكرة الطغيان تحت أي اسم جاء: حتى لا يتجرع أطفالنا الدم بدل الحليب على يد خلفائه من الطغاة الضالين والمضلين. وحتى لا تجرفنا “مظاهر” السيادة البائسة من أعلام وإشارات وشكل دولة العدم، فالسيادة هي حكم الشعب وبيد الشعب ومن أجل الشعب، وأي سيادة غير ذلك هي سراب يحسبه الظمآن ماء.

حربنا هي حرب شرعية بديلة تقودها سيادة الشعب والقانون، والواجب فيها هو الباس البلاد زي شرعية شعبية جديدة لا تعرى بعده أبدا. ثلاثون حولا لو وقفنا عندها نلعق جراحنا لما رفعنا الأحداق نحو السماء أملا أو الأكف دعاء. ثلاثون سوداء استطال فيها العذاب وشابت لهولها الغربان: ونحن نحيا نصف حياة، ونأمل نصف أمل. ثلاثون شل فيها الخوف إرادتنا، وهذا الخوف الذي ننكره ونخجل منه هو الخوف الذي نتسول به، بما في ذلك كاتب هذه السطور، اللجوء في المنافي ونحكي للمحامين والمحققين كيف أننا هربنا من الموت ومن الخوف، صادقين مرة وكاذبين مرات، نبحث تحت عدل الآخرين عن “حماية من الخوف” والظل الظليل، فيظهر لنا بؤسنا المكتوب عند خفوت أنة الوطن من الاسماع والقلوب والذاكرة فبئس الطالب والمطلوب. مهلا: دعونا لا نكابر أو نخاتل، نحن لا نرتجف من العسس فقط؛ بل نحن نخاف حتى من ظلالنا التي تتبعنا، ونخاف من أحلامنا الحبيسة في أقفاص الصدور. ومنذ الأزل الفجر فجران: فجر تشرق شمسه علينا ونحن جثث هامدة لا حول لها ولا قوة؛ وفجر نحفر فيه الجدران لتغتسل البلاد بضوئه الجديد؛ ولنا، إن تجرأنا، حق الاختيار فهناك شعب وأرض في انتظار. وفي زمن تطايرت فيه النوائب والجوائح كالشهب، قد لا أهنأ بحضور فجر العيد؛ ولكن ليس هناك ما يمنعني من التغني به والتبشير به؛ وأن أكون من صناعه اليوم، لينعم به الآخرين غدا. ودمتم والبلاد بخير. والمجد والسؤدد لأولنا وآخرنا، وحينا وميتنا .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى