أخبار

مدافع الحدود في القارة الافريقية : أبوبكر كهال*

14-Nov-2015

نقلا عن القدس العربي

لم تبلغ أيّ حرب حدودية في القارة الإفريقية شراسة وبشاعة ما بلغته الحرب الحدودية الإرترية الأثيوبية التي اندلعت عام 1998، واستمرت تأكل الأخضر واليابس حتى عام 2000، حيث صمتت أصوات المدافع عقب نجاح المجتمع الدولي في دفع البلدين لتوقيع اتفاقية الجزائر برعاية الأمم المتحدة وبمباركة وحضور هيئات دولية وإقليمية عديدة.

لقد حيرت تلك الحرب المهتمين، وأربكت آليات المنظومة الدولية بماهياتها المختلفة، بالنظر إلى العلاقة المثالية التي كانت سائدة بين البلدين قبل حدوث الصدامات المسلحة. والغريب أن ذلك الخلاف قد شهد رقماً قياسياً من مبادرات ومساعي صنع السلام الدولي التي كُرست لمعالجة قضية نزاع حدودي، فقد فاق عددها 50 مبادرة جاءت من هيئات ومؤسسات دولية ومن دول واتحادات وشخصيات حزبية من دول الجوار وأخرى من خارج المنطقة، ولكنها باءت جميعها بالفشل.
نعم؛ لقد توقفت تلك الحرب باتفاقية الجزائر، ولكن توقفها ذاك كان على الورق فقط! فهي من الناحية العملية لم تتوقف مطلقاً، بل ما زالت مستمرة منذ اندلاعها وإن بأشكال مختلفة. فقد خاض البلدان حروبهما بالوكالة في ساحات متعددة في إفريقيا، كما حدث على الساحة الصومالية، حيث تبنّى كلّ منهما فصيلاً بعينه يستخدمه لمصلحته وضد الآخر.
وتواصلت تلك الحرب أيضاً باختراقات الحدود بين البلدين، خاصة من جانب أثيوبيا التي ترفض حتى الآن تنفيذ أهم بند في بنود مفوضية رسم الحدود المنبثقة عن اتفاقية الجزائر، والتي أصدرت حكماً يُلزم أثيوبيا بإخلاء بلدة بادمي الحدودية بعد أن حكمت بتبعيتها لإريتريا.
ومن مظاهر استمرار الحرب، استمرار الحملات الإعلامية التي تشتد تارة وتهمد أخرى. كما أن كلاً من البلدين يؤوي قوى معارضة تعمل ضد البلد الآخر. إضافة للحرب الدبلوماسية على كل الأصعدة، حيث تستفيد أثيوبيا من علاقاتها القديمة جداً مع القوى الكبرى مثل أمريكا وبريطانيا والمنظومة الغربية بعمومها، والتي مكّنتها في السابق من احتلال إرتريا عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية تحقيقاً لرغبتها في امتلاك منفذ على البحر وخدمةً لمصالح تلك القوى في منطقة البحر الأحمر ومن ضمنه باب المندب، الممر الإجباري الإستراتيجي.
وللأسف، تشهد المنطقة في الآونة الأخيرة عودة التهديدات بالحرب، والتي انطلقت بقوة من تحت قبة البرلمان الأثيوبي، ففي سبتمبر الماضي وجّه الرئيس الأثيوبي ملاتو تشومي تهديدات عنيفة ضد إريتريا ووعد بتدميرها إذا ما فشلت «جهود المجتمع الدولي». والعبارة الأخيرة تكاد تكون هي الإشارة الوحيدة من مسؤول كبير في المنطقة يقر بوجود جهود دولية لصنع السلام الذي استعصى صنعه في الماضي رغم تجارب الحروب السابقة والخسائر البشرية الهائلة التي تكبدها البلدان.فهل ستندلع الحرب من جديد في أي لحظة، أم ستتوصل الدولتان إلى تفاهمات سلمية عبر حوارات يقال من وقت لآخر إنها تجري في إطار من السرية تقودها توليفة مكوَّنة من أطراف دولية وإقليمية يرتبط بعضها بمصالح حيوية بالمنطقة؟!
بالطبع، لم تعلن أيّ جهة رسمية عن هذه الجهود سوى ما لمّح به الرئيس الأثيوبي في حديثه أمام البرلمان. وعلى الرغم من أن حديثه هذا تضمن تهديدات صريحة بغزو إريتريا وبعزمهم على «تأديب» نظام أسمرا المتّهم بزعزعة استقرار دول الجوار ومنها -بحسب حديثه- أثيوبيا التي لا يتحمل وضعها السياسي المضعضع «هبشة» هواء، لأن السقف الذي يجمع تحته إثنيات مختلفة ومتنافسة قد يطير في أيّ لحظة وتصبح صور التعايش التي يتحدث عها حكام أثيوبيا أثر بعد عين.
فإذا ما وقعت الحرب التي يبشر بها أيضاً رئيس الوزراء الأثيوبي هيلي ماريام ديسالين، فقد تؤدي إلى انفراط المشهد المتسم بالمنافسة الحادة بين المكونات والتي يرغب معظمها في أن تتورط الحكومة -التي تقودها وتهيمن عليها قوميةُ التقراي الشمالية- في الحرب، طمعاً بتغيير المعادلة السياسية علي الواقع الأثيوبي.
من كل ما تقدم، لا يمكننا التنبؤ بمن سيتصدر المشهد وتكون له الكلمة العليا في شكل العلاقات المستقبلية القربية والبعيدة بين إريتريا وجارتها أثيوبيا. هل ستتصدر مدافع الحدود المشهدَ وتبدأ بصب حممها فوق الخنادق في الجهة الأخرى؟ أم أن السلام سيعرف الطريق إلى بقاع تلك الشعوب الفقيرة؟ وهل يحق لنا قراءة عودة قوة مهمة من المعارضة الأثيوبية المسلحة المعروفة بـ «دمحيت» إلى أثيوبيا بعد أن كانت ترابط داخل الأراضي الإريترية منذ ما يربو على العقد من الزمان وتتمول من إرتريا وتنطلق من أراضيها. هل نقرأ هذه الخطوة بأنها مقدمة لثمرات «جهود السلام» التي أشار إليها تشومي؟
لقد عبَرت تلك القوة من مواقعها على الحدود نحو الأراضي السودانية لتستقبلها القوات السودانية وتودعها نحو أثيوبيا التي استقبلتها بضجيج إعلامي ودعائي يمكننا تقدير أسبابه. إلا أن ما يمكن للمراقب ملاحظته أن تلك القوة بلغ قوامها 800 مقاتل كانوا يحملون الأسلحة الخفيفة فقط وبلا سيارات، مما يعني أنهم عبروا الحدود نحو السودان سيراً على الأقدام، كما لم تشاهد معهم أي قطع من الأسلحة الثقيلة أو المضادات الأرضية، وهي من القطع الرئيسة التي يتوجب توافرها لقوة معارضة ترابط قرب الحدود.
من جملة هذه الملاحظات نخلص إلى أن هذه العملية ربما يكون وراءها تفاهمات سياسية اشترطت على إريتريا التخلي عن المعارضة الأثيوبية المسلحة وإبعادها كاختبار حسن نية، ولتنفيذ ذلك تحتفظ إريتريا بالأذرع السياسية للمعارضة الأثيوبية غير المسلحة، على أن تغادر «الدمحيت» من دون الأسلحة الثقيلة والسيارات التي تحمل العتاد والأفراد.
ربما يكون هذ التخمين فيه الكثير من الصحة، وما علينا إلا انتظار المآلات التي لن تغيب عنا طويلاً.
* كاتب صحافي إرتيري مقيم بالدنمارك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى