في أريتريا .. السجن أو الموت أرحم من الخدمة العسكرية
18-Sep-2015
عدوليس ـ http://www.elbashayeronline.com
في سلسلة تغطية تقدّمها صحيفة الجارديان البريطانيّة عن دول إفريقية عديدة اختارت في هذا الموضوع أن تقدّم إطلالة على الأوضاع داخل إريتريا عبر اثنين من الشباب الإريتريين الذين لا تختلف حياتهم عن آلاف الآخرين الذين يفرّون من هذه البلاد في كلّ شهر، بسبب ارتفاع معدلات القمع والتضييق على الحريات. ومن خلال تتبع مساري هذين الشابّين سنرى صورة متباينة وأكثر تعقيدًا عن الحياة في إريتريا.في الحقيقة إن كمال ومحمد شابان لم يلتقيا أبدًا، ولكن حتى وقت قريب كانت حياتهما نموذجًا للحياة الهادئة والآمنة والمريحة لأيّ شخص من الطبقة الوسطى في إريتريا. لقد كانت مساءات الطفولة المثالية تقضى بلعب كرة القدم في الشوارع التي تلفحها شمس العاصمة أسمرة. ومع التقدم في العمر، حيث أصبحا شابّين يافعين، كانا يقضيان وقتهما في احتساء القهوة أو تناول البيتزا الصغيرة في المقاهي التي تنتشر في أرجاء المدينة، أو في دور السينما الشعبيّة التي بنيت عندما كانت إريتريا مستعمرة إيطاليّة. ثم جاءت فترة الدراسة في الجامعة، وفي نهاية المطاف حصلا على فرصة للعمل كموظفين مدنيين، وكان الشابان يسيران في الواقع على خطى والديهما.
ولكن انعطافة كبيرة حدثت في حياتهما هذا العام قدمت لمحة عن طبيعة الحياة في إريتريا، التي تعد إحدى أكثر دول العالم انغلاقًا وسريّة.اتّهامات التقرير الأمميّوعلى الجانب الآخر، يصف تقرير للأمم المتحدة مكون 500 صفحة صدر في يونيو بأن هذا البلد فيه حكومة ذات سلطة مطلقة من خلال شبكة المراقبة الواسعة والتعذيب والإخفاء القسري والاستخبارات العسكرية غير المحدودة. إن سيطرة الدولة تمتد إلى كل مكان بحيث إن أحد الإريتريين يقول: “عندما أكون في إريتريا، أشعر بأنني لا أستطيع حتى التفكير خشية أن يتمكن الناس من قراءة أفكاري.”ويحوي التقرير الأمميّ شرحًا مفصلاً ومثيرًا للقلق للأسباب التي تدفع الإريتريين للهرب بشكل جماعي، فإريتريا دولة بوليسية، حيث تقيد الحريات الأساسية ويعيش السكان في خوف من الشرطة السريّة والمُخبرين المُنتشرين في جميع أنحاء البلاد. وأشار التقرير الذي أعدته لجنة من 33 شخصًا إلى أن ما يقرب من 5000 إريتري يهربون في كل شهر، ووصل عدد الإريتريين الفارّين نحو 200 ألف لاجئ يعيشون في السودان وأثيوبيا.وأوضح التقرير، أن الفارّين كانوا يعانون من التعذيب على يد النظام، والاعتقال التعسفي والسجن والاختفاء القسري للمعارضين”، فضلاً عن سيطرة الدولة على وسائل الإعلام والاضطهاد الدينيّ والخدمة العسكريّة الإلزاميّة التي تستمرّ فترات غير محدّدة، فضلاً عن أنه يتمّ استخدام المُجندين كعمال ويتعرّضون لسوء المعاملة والتعذيب على نطاق واسع. وتشير التقارير إلى أن القسم الأكبر من اللاجئين الفارّين عبر البحر المتوسط هم من إريتريا، حيث يدفعون أرواحهم بأعداد كبيرة غرقًا تحت الأمواج هربًا من القمع في بلادهم.وعند السفر إلى أيّ مكان داخل البلد تُطلب وثائق السفر وعلى الأغلب تكون للقبض على الذين عليهم خدمة عسكرية، حيث يقول أحد الإريتريين ” يعامل أي شخص في إريتريا، على أساس أنه جاسوس، حتى ربات المنازل والفلاحين”. فمعظم المشتبه بهم اعترفوا تحت التعذيب، حيث قال أحد القضاة في التقرير، “اعتدت رؤية الخوف في عيون المشتبه بهم، فهم يأتون إلينا وعلى أجسادهم آثار تعذيب وضرب”.ويقول شخص كان محتجزًا في مركز تحت الأرض “التعذيب منتشر في السجون الإريترية، حيث قاموا بتعذيبي لمدة أربعة أشهر بالكهرباء على الساعدين والذراعين، وتمّ ربط حبل تحت ركبتي ووراء رقبتي أحيانًا، ويتمّ ربط يدي ورجلي وراء ظهري وتركت ملقى على صدري وتعرضت للضرب المروّع ونتيجة لذلك اعترفت بما يريدون”.أما بالنسبة لقصة الشابّين كمال ومحمد ذوَي الـ 33 و 26 عامًا على التوالي فقد هاجرا مؤخرًا، ولكنّ قصتيهما معًا ترسم صورة معقدة، فقد هاجر كمال للبحث عن فرصة عمل في جنوب السودان، في حين أن رحلة محمد للسودان مثلت نهاية لأشهر قليلة مروعة قضاها في السجن والتعذيب. وتحكي قصتهما روايات مختلفة ولكنها مرتبطة بأوضاع البلاد اليوم – التي هي موضوع للنقاش الحاد الذي يقسم الشتات الإريتري المتزايد، في ظل وجود العديدين ممن يحرصون على الدفاع عن النظام.وبفضل الحرب التي استمرّت 30 عامًا مع أثيوبيا من أجل الاستقلال، ترتبط حكومة البلاد عن كثب بالكفاح من أجل الحرية. ويقول كلا الشابين إن الجيل الأكبر سنًا – سواء من في الداخل والخارج – هم الأكثر موالاة للحكومة في حين بدأ الشباب الأصغر والحركة الشابة باستنهاض الهمم من أجل التغيير.تختلف قصة كمال عن معظم المنفيين الإريتريين. يقول كان وقت أداء الخدمة الوطنية الإلزامية هادئًا، كما عمل لبضعة أشهر موظفًا حكوميًا في العاصمة، وتجنب العمل الشاقّ والخدمة غير المحدودة التي يصفها الآخرون، وأن التماسّ الوحيد مع السلطات كان أثناء رحلته إلى الريف عندما طلب جنود على أحد الحواجز المحيطة بالمدينة رؤية بطاقة هُويته.ويقول إنه منذ مغادرته منزله الذي يقع على قمة جبل إلى عاصمة جنوب السودان جوبا التي تقع في وادي النيل، غابت عنه المتعة اليومية لمدينته الأمّ. ويقول كمال، الذي يخطط للعودة إلى الوطن في وقت لاحق هذا العام: وسط مدينتي أسمرة يعجّ بالأشياء الجميلة؛ والكافتيريات، ورائحة البن المحمص الطازج في الصباح.بدلاً من الضغط السياسي، كان الانهيار الاقتصادي في إريتريا هو الذي أجبر كمال على الخروج من بلاده، كما أن عقوبات الأمم المتحدة الشديدة التي صدرت في 2009 كانت بعد تقارير تفيد بأن الحكومة بقيادة الرئيس أسياس أفورقي، تدرب جماعة إسلامية متشددة وهو الاتهام الذي تنفيه الحكومة بشدة.على الرغم من الزيادة الأخيرة في نشاطات التعدين من قبل الشركات الأجنبية والذي ساهم بإيرادات بالملايين للحكومة، لا تزال إريتريا تصنف كواحدة من أفقر البلدان في العالم. وقد رفض النظام مرارًا وتكرارًا مئات الملايين من الدولارات قدمت كمساعدات، مدعيًا أنه سيحول إريتريا إلى دولة إفريقية “خانعة”.وقال ريتشارد ريد، وهو أستاذ متخصص في إريتريا، عاش عشر سنوات فيها ويعود بين الفينة والأخرى إلى هناك: ليس بالضرورة أن كل الإريتريين يطالبون بالانتخابات، فهناك نسبة كبيرة ستتسامح مع السياسة طالما أن الاقتصاد ينمو. لقد سمح فرض حظر على حمل العملات الأجنبية بازدهار السوق السوداء، حيث إن أسعار الصرف ارتفعت بشكل كبير مقابل القيم الرسمية. وهذا، بدوره، ضرب الأعمال التجارية في بلد يستورد كل شيء تقريبًا.ويضيف كمال، الذي يدير أيضًا أعمالاً تجارية صغيرة: تركت إريتريا لأغراض تجارية، حيث إن النظام هناك لا يمكن أن يوفر لنا عملاً، لذلك اخترت العمل في مكان آخر، هنا في جنوب السودان أفضل بكثير. وهذا بدوره، كما يقول الكثير عن الوضع في إريتريا التي ترى أن جنوب السودان، في حدّ ذاته يترنح وعلى حافة الانهيار الاقتصادي، في حين ينظر إليه على أنه مكان أفضل للأعمال.لقد تشكلت قرارات الشاب الآخر محمد بدوافع مختلفة تمامًا عن دوافع الشاب كمال، فلم يكن المال مشكلة – طالما أنه كان يمارس وظائف صغيرة لزيادة دخله الشهري كموظف حكومي، حيث كان يحصل من خلاله على 700 ناكفا أي ما يعادل (66 دولارًا) شهريًا.ولكن في مايو من هذا العام، تغيرت حياته، فذات مساء وحينما كان يقف خارج مبنى الوزارة بعد العمل، أراد استخدام شبكة واي فاي للاتصال بالإنترنت على هاتفه، يقول محمد: كان الظلام قد حل عندما لاحظت شابين يمران بالقرب مني. وفي وقت لاحق جاءا مرة أخرى من اتجاه مختلف، وفي المرة الثالثة، توقف الرجلان أمامه وتصديا له مباشرة وأرادا أن يعرفا ماذا كان يفعل بالضبط، وأخبرهما محمد الذي أرهبه الموقف أنه يعيش في هذا الحي. وقد هدده الرجلان بأخذه إلى السجن، دون أن يخبراه لماذا. ويقول محمد: أعتقد أن شخصًا ما يعيش في أحد المنازل القريبة من مكتب عمله كان قد شاهدني وأخبرهما عني.خلال الأسابيع القليلة التالية نمت مخاوف محمد من التعرض للاعتقال بعد أن لاحظ في كثير من الأحيان نفس الرجلين يتعقبانه عند ذهابه للعمل أو عند التسكع خارج منزل عائلته. وقد خشي أن يكون السبب هو تجنبه الذهاب حتى الآن للخدمة العسكرية الإجبارية.وقد وصف هذا البرنامج من قبل بعض جماعات حقوق الإنسان بأنه نوع من عبودية العصر الحديث، وقال دبلوماسي سابق إنه غالبًا ما يتم استخدام المجندين في تنفيذ عمل لبرامج البنية التحتية. ولم يرد المتحدث باسم الحكومة على طلب للحصول على تعليق ذلك، ولكن إريتريا نفت مرارًا مزاعم انتهاكات حقوق الإنسان.”على الرغم من أن الشخص قد يكون معرضًا للخطر الحقيقي من سوء المعاملة أو المعاملة اللاإنسانية والمهينة نتيجة لظروف الخدمة العسكرية، فإنه لا يمكن القول إن كل شخص “في خطر”، هذا ما أشارت إليه وزارة الداخلية في تقرير صدر في مارس 2015. ومع ذلك، فإن فكرة تعبيرية عن الخوف الذي يثيره التجنيد لدى كثير من الناس يأتي في الجملة التالية: “إن تطبيق أي أذى أو سوء معاملة من هذا القبيل يبدو تعسفيًا”.وقرّر محمد واثنان من أصدقائه أن الوقت قد حان للقيام بالرحلة الخطرة إلى السودان بدلًا من المخاطرة والذهاب للانخراط بالخدمة العسكرية الإلزامية.ولكنّ عقودًا من الصراع والمناوشات مع دول الجوار أدت إلى وجود حدود خاضعة للحراسة المشددة، وسرعان ما اعتقلوا من قبل رجال يرتدون الزي العسكري. وقد سلب الجنود منهم أموالهم وهواتفهم، وعندما أجبروهم على خلع أحذيتهم، ظن محمد أن ذلك لمنعهم من الهروب، لكن الأسوأ كان بانتظارهم.وقال الجنود إنهم سيأخذونهم إلى هاشفيري. وفي وقت لاحق، قال إنه كان سعيدًا لأنه لم يعرف بأنهم أشاروا إلى السجن السيئ السمعة الذي يقال إن الآلاف من الإريتريين محتجزون به. وعندما تمّ سحب السجناء مكبلين إلى الشاحنة وجدوا أنفسهم أمام سلسلة من الجبال الصخرية التي تتخللها أشجار السنط الشائكة. وكانت زنازينهم التي تقع بالقرب من بلدة هاكيز، تحت الأرض.بعد يوم واحد من وصولهم إلى المعتقل حملوا الماء ونقلوا الصخور إلى مشاريع البناء، أو أنهم كانوا يعملون في المزارع تحت ظروف الحرارة الشديدة. وكانت وجبات الطعام عبارة عن الخبز والماء مرتين في اليوم. ويقول محمد: في الليل، كانوا ينامون مكدسين بجوار بعضهم، مثل أعواد الثقاب. وكان الهروب مستحيلاً بدون حذاء، لأن الصخور والأشواك ستمزق أقدامهم، ما يجعل السير على الأقدام أمرًا غير وارد. وكان الحراس يعاقبون المحتجزين في بعض الأحيان عن طريق إجبارهم بالركض فوق الأشواك.وفي الوقت الذي تمّ نقل محمد فيه إلى معسكر التدريب العسكري في المدينة الشمالي الشرقي من ناكفا بعد ثلاثة أشهر، كان قد شهد بما فيه الكفاية. وذات ليلة هرب هو وصديق آخر تحت جنح الظلام وقضيا عدة أسابيع يمشيان إلى أن وصلا إلى السودان.ويضيف محمد الذي أعرب عن قلقه بشأن أسرته التي لا تزال في الوطن: لو كنت بقيت في إريتريا، فإن كل شيء هناك قد يبدو طبيعيًا. ولكن كان عليّ أن أفعل هذا لأكون حرًا.