مقالات

مرة أخرى الفنون .. فلسفة ادريس الاصلاحية بقلم /محمد قناد

17-Sep-2015

عدوليس

يلعب الفن دوراً مهمهاً في مجتمعاتنا ، بل انه اصبح ياخذ دور كثير من العلوم التي تعمل علي النهوض بالمجتمع وتحليل تخلفه ، وهذا الدور الذي يلعبه الفن جدير بالقراءة والتأمل لفهم صيرورتنا علي ضوءه ، ويمكننا ان نقول ان الكتابة عن فن حقيقي يعني إتهامنا لاكثر الاعمال الفنية القائمة الان بالابتذال والتسطيح ، وذلك حين يكون الحديث عن الفنان ادرس محمد علي ، ورغم حقل الالغام هذا سنتوغل عميقاً في تراثنا ، والذي كان لادريس فيه اضافة لا تقل إن لم تكن الافضل عن سابقيه ، وذلك حتى نصل للفن القائم علي المعرفة والفلسفة والإدراك ، في مقارنة ستأتي تباعاً او تزامناً ، مقارنة مع الفن الحالي الذي لا يستطيع عبور أول بوابات المجتمع ، فكيف بالتعبير عن ذوات الجموع ، لانه باختصار فن لا يستطيع ان يعبر عن رسالته

بعمق وفلسفة ومعرفة ، لهذا كان من الطبيعي ان ينتج عن تاثيراته عقول اجيال معاقة ، تهتم بالكلمة لا المعنى ، وزيف من الاستشكال المعرفي لمفهوم ازمة المجتمع القائمة حين تصاغ الاسئلة ، فالحديث عن هذا الانسان والقلب الكبير لأبد ان يكون بذات الغور الذي نحسه في اغانيه ، فكلما كنا نغوص داخل ادريس او حين نتجول مع احساسه وشجن الصوت الحاني ، كنا نتعلم اكثر من التعلم حين نطالع كتب التاريخ ، ومذكرات تلك الحقبة المهمة ، و وثائق العهد الذي كانت فيه تجربة ادريس بشكل مختلف عن كل التدوين المتاح . كنا نتساءل حين نستمع لادريس ، كيف نصنف ادريس ، هل هو فنان ام مصلح اجتماعي ، فكانت تداخل الاجوبة عن هذا السؤال تنتهي للفلسفة ومفهوم الفنون ، الذي تجدد في اواسط القرن العشرين عند نشوء النظرية النقدية ، لتتم اعادة تعريف الفن عبرها ، وبالطبع وزن هذه الاعمال بهذا المعيار ، يعني سقوط اكثر الاعمال الفنية والادبية والتي تملأ الرفوف ، وهنا يأتي اختلاف ادريس ، فقد كان تفرده نابع من البيئة والقضية والاهداف السامية التي خرج من اجلها ، ورغم ذلك الانتشار كان ادريس يعاني من عزلة ، ضمير نتيجة الغائية التي انتهجها ، وتقدم تصوره او مفهومه للحالة الثورية ، وقد حاول العبور برسالته في تلك المرحلة الي عقول وقلوب كثيرة ، لذا طبيعي حين تستمع له توقن بانه ملم وقابض بالمشهد ، وهنا ظهرت قوي فن ادريس الرسالي المتجدد ، رغم مرور وانتهاء الاسباب تتموضع رسالة ادريس مرة اخرى في واقعنا المشهد الحالي ، لانه كان ينظر من اعلى مكان للصورة التي ترتسم علي الارض بكل وضوح ، وكلما تنصت لصوت ادريس وهو يحتوي المشهد بقلب رحيم و حنو أليم ، تحس معه بالعجز والألم وانت تشاهد الحالة التي عاشها ، ينقلك ادريس الي فراغ كبير وعزلة قاتلة وحده استلظ بنارها ، يحملك ادريس الي اسقاط كل الصور التي رسمتها وثائقيات وكتب ومقالات وحكاوي تلك الحقبة ، ويجعلك امام الحقيقة العارية فتختار ان تتعرى معها او تتعرى هي بك . يغني ادريس محمد علي فيضع الاسئلة في داخلك كتناسق النغم ، وينقلك بكل كيانك الي مشهد كامل ، لا تنفصل فيه السياسة عن المجتمع ، عن حركة التحول التي كانت تجري ، وعن الفساد داخل البناء الثوري ، لتعيش التجربة كأنك هناك ، ثم تعود محمل بمعرفة عجزت الاقلام السابقة والاحقة عن كتابتها ، هنا تتحول معرفتك بادريس من مجرد فنان الي مصدر معرفي كامل البناء والمشهد ، مما يجعل من الصورة التي يقدمها لك عصية علي النقد ، بل انها قابلة لتزويدك بمعرفة اكثر من التي استزدت بها في رحلتك السابقة كينبوع لا ينضب ، وستقول بان هذا غريب لكنك ببحث صغير ستكتشف بان كل المعاصرين اليوم يذهبون للفن لا للمكتبات لانه الاصدق في إعطاء المعلومة ، بل ان الفن كشف كثير من الحقبات الزمنية المفقودة ، وهو ما يفعله ادريس حين يكشف لك ما لا تجده في رفوف المكتبات ، فلا تستغرب حينما تتحول هوامش البحوث الاجتماعية والتاريخانية القادمة مصادرها الفنون لصدق هدفها ، اكثر من الايادي المدونة صاحبة الغرض وفرض السياق . فالفن عند ادريس اداءة اصلاحية وغاية موضوعية وحلقة وصل تربط بين التاريخ الجمعي والواقع ، بين اسباب الحدث ونتائجة ، حتى اصوات الموسيقى لم يخرجها ادريس من البيئة المحيطة ، قد كان منتوجه الالحاني يحاكي كل ما يحيط به ولم يستجلب يوماً لحناً خارج فلسفة المكان ، و جل اغانيه رسالة مكتملة البناء ذات تناسق ملحمي ، وهنا تتجلى فلسفته كما يقول هوركايمر في النقدية اذ كان ادريس يتخلى عن المثالية وبوضوح شديد يرسم المشهد ، ويردم مساحة الغياب المعرفي لدى المستمع فيضعه امام الواقع ، حتى الظواهر الاجتماعية التي عمت تلك الحقبة عكسها ادريس بكل تجرد دون اي راديكالية ، ضارباً بذلك مثال نادر في تجاوز الصراع المحتدم بين النظريات السياسية التي شتت طاقة الثورة في صراع غير مبرر ، ورغم سعي ادريس بصوته لردم الهوة التي حدثت لكن كان الواقع مسرع برغبة في تأزم المشهد ، ولم يستمعوا لصرخة ادريس ، إلا بعد ان اخذ الصراع طريق التوازي ، حين ذاك لم يفيد نقد ادريس في ارجاع الصورة الاولى ، و لكنه وثق الحدث . لذا يعتبر فن ادريس موقفاً نقدياً ، وسعي وراء الحقيقة ، بواقعية مجردة عن القوالب الانتمائية ، وبالطبع عدا الانتماء الوجداني للمكان التاريخي ، والفضاء الثقافي القائم لبنية المجتمع الخارج من اجله ، ويصبح الفن في هذه الحالة واحد بل شكل من اشكال المعرفة ، ومدخل صحيح لكل زائر وباحث يود زيارة تلك الحقبة المتشعبة ، الحقبة ذات الحساسية العالية لدى الشعب ، لذا يمتاز فن ادريس بالديمومة التفاعلية ، ذات النكهة الثورية ، لارتباطه بالتراث ، وفترة زمنية حرجة من عمر الزمان والمكان ، كان لادريس فيها اسهام لم ينحصر في دور الفنان ، بل ثورياً يبحث عن العدالة السماوية في ارض الله ، عن الحرية الإلهية المسلوبة من قبل المستعمر ، وعن الكرامة الانسانية التي حال بعض الاستعلائين بينها والشعب ، فكان سعي ادريس الثوري ، ومسخرا في سبيل ذلك موهبته في عملية اصلاح واستنهاض مجتمعي ، قدم من اجلها الغالي والنفيس ، ولم يبخل بالفكر وما يعلم من عصارة التراث الانساني ، والعقل الواعي الذي يبث المعرفة ، ويزيح غبار التغيب والتجهيل .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى