مقالات

إريتريا وفلسطين: ماذا بعد مودة القلب؟ فتحي عثمان

22-Oct-2015

عدوليس ـ نقلا عن العربي الجديد http://www.alaraby.co.uk

ترتكز العلاقة التي ربطت القضية الإريترية بالقضية الفلسطينية بعدة محددات؛ أولها محدد الجغرافية؛ إذ تقع إريتريا إلى الجنوب الغربي من فلسطين في أهم ممر مائي للتجارة الدولية وتدفق النفط، وسوف يحدد هذا الموقع المهم إضافة إلى عوامل أخرى موقف إريتريا من القضية الفلسطينية لاحقا. عاملا الزمان والثقافة هما المحددان الآخران. فإريتريا أرض الهجرة الإسلامية الأولى حملت تعاطفا عقيديا مع الفلسطينيين وعاصمتهم القدس أولى القبلتين.أما من ناحية المكان والزمان فكل من جبهة التحرير الإريترية رائدة الكفاح المسلح الإريتري وحركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) نشأتا في ستينيات القرن الماضي في القاهرة عاصمة الزخم الثوري الأفريقي والعربي في ذلك الحين.

كانت ستينيات القرن الماضي السنوات التي تحررت فيها معظم الدول الأفريقية من قبضة الاستعمار، وتنامي المد الثوري عالميا بانقسام العالم إلى معسكرين متضادين واشتعال أوار الحرب الباردة بينهما. والحقيقة التي يجهلها كثيرون أن البحث اليهودي عن وطن قومي لليهود بدأ فعليا مع مؤتمر الحركة الصهيونية في بازل سنة 1897؛ وأن بريطانيا اقترحت أن تكون إريتريا من ضمن الدول الأفريقية التي يجب أن يفكر اليهود في اتخاذها وطنا قوميا لهم، مع خيارات أفريقية أخرى مثل أوغندا وكينيا.نشأت جبهة التحرير الإريترية في أوج الصراع بين أديس أبابا الإمبراطور هيلا سيلاسي ربيب الغرب وقاهرة جمال عبد الناصر ذات النفس الراديكالي. وكان إمبراطور إثيوبيا العجوز ينسب نفسه إلى سلالة سليمانية متخيلة؛ إذ تقول الأسطورة الإثيوبية بأن بلقيس ملكة سبأ حملت من سليمان وأهدته هذه السلالة الحبشية، وبناء على ذلك خلع على نفسه لقبا رسميا هو: هيلا سيلاسي “قوة الثالوث” أسد يهوذا، ملك ملوك إثيوبيا.”درّبت فصائل الثورة الفلسطينية مناضلين إريتريين في السبعينيات”فعليا كان هيلا سيلاسي حليفا قويا للولايات المتحدة وإسرائيل، فقد شاركت قوات من بلاده في الحرب الكورية. ولاحقا ارتبط الإمبراطور بعلاقات عملية قوية مع إسرائيل وهي الفترة نفسها التي ضم فيها إريتريا إلى إثيوبيا بشكل غير قانوني، وكانت العلاقات مع إسرائيل إحدى الأدوات التي استخدمها في قمع الثورة الإريترية عبر تدريب قواته الخاصة المعروفة بالكوماندوز هناك، وإمداد إسرائيل له بالأسلحة والخبرات.وقامت إسرائيل لاحقا بالاستثمار في إريتريا، حيث نشطت شركة أنكودا الإسرائيلية في مجال تعليب اللحوم وتصديرها لإسرائيل ضمن مجموعة أخرى من الشركات الاستثمارية.القرى الإريترية أحرقت خلال سنوات سياسة الأرض المحروقة التي اتبعتها إثيوبيا ضد الشعب الإريتري؛ فقد ارتكبت القوات الإثيوبية المدربة إسرائيليا فظائع كبيرة في أوساط السكان المدنيين عقابا لهم على دعمهم للثورة الإريترية. كانت عوامل الدين والحس القومي من بواعث الشعور المعادي لإسرائيل في إريتريا، ولكن مرارة التدخل الإسرائيلي في الصراع الإريتري الإثيوبي قوّت الشعور الداعم للقضية الفلسطينية أكثر فأكثر.وأشرت في كتاب “إريتريا من حلم التحرير إلى كابوس الديكتاتور” الصادر عن الملتقى الأوروبي العربي للإبداع في باريس سنة 2013، إلى أن هناك حالات مقارنة بارزة بين حركتي التحرر الوطني الإريترية والفلسطينية.وكما أسلفنا فإن الحركتين حصلتا على الدعم المباشر لمصر عبد الناصر التي ناصبت إثيوبيا العداء لارتباطها بالإمبريالية والصهيونية العالمية من ناحية وللبعد القومي للقضيتين، إذ أكدت جبهة التحرير الإريترية الانتماء العربي لإريتريا في صراعها ضد إثيوبيا قلعة المصالح الأميركية والإسرائيلية.عند هذا النقطة وجدت كل من الحركتين أنهما تتحركان في وسط مخلخل ومنقسم بين أنظمة عربية راديكالية مثل (مصر، العراق، سورية) وأخرى محافظة كدول الخليج العربي الغنية والأردن. وعانت كل من حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) وجبهة التحرير الإريترية من تيارات الاستقطاب والجذب من الأنظمة المتباينة أيديولوجيا مما أثر على قراراتها المصيرية.فتح ارتكزت في تعاملها مع الأنظمة العربية على مبدأ مركزية القضية الفلسطينية للأمة العربية، وهو الأمر الذي افتقدته الجبهة الإريترية؛ وكان هذا واحدا من أسباب ظهور تيار داخل الثورة الإريترية معاد للبعد القومي والإسلامي للنضال الإريتري المشروع، حيث أكد هذا الفريق والذي قاده آنئذ رئيس إريتريا الحالي أسياس أفورقي أن القضية الإريترية ليست قضية عربية؛ ودلالة ذلك أنها لا تحصل على نفس الاهتمام الذي تحصل عليه القضية الفلسطينية؛ مما قوى إفلاته من مدار البعد القومي العربي للصراع.وكان لبعض فصائل الثورة الفلسطينية في مرحلة لاحقة دور في الإسهام في تقوية حجة التيار المناوئ لعروبة إريتريا ونضالها في الصراع الداخلي الإريتري.وبعد قيام مجموعة ضباط يساريين في القوات المسلحة الإثيوبية بالانقلاب على الإمبراطور هيلا سيلاسي وتحويل مسار إثيوبيا نحو الكتلة الاشتراكية في سنة 1974، قامت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في الثمانينيات بفتح مكتب لها في عاصمة (الرفاق) أديس أبابا وتبنت الطرح الإثيوبي الداعي إلى حل القضية الإريترية ضمن حدود إثيوبيا وهو الأمر الذي باعد الشقة بين بعض فصائل الثورة الإريترية وبعض فصائل الثورة الفلسطينية.وكانت العلاقات النضالية قد توطدت بين فصائل الثورة الإريترية والثورة الفلسطينية، حيث تكونت في إريتريا في سبعينيات القرن الماضي منظمة ” العقاب” وهي منظمة استلهمت أسلوب عمل منظمة أيلول الأسود الفلسطينية وقامت بخطف طائرة إثيوبية من بيروت إلى كراتشي؛ وقاد تلك العملية الفدائية وزير خارجية إريتريا بعد الاستقلال الراحل علي سيد عبد الله عندما كان عضوا في تلك المنظمة الثورية.ومما يجدر ذكره في إطار علاقة الثورتين أن الفصائل الفلسطينية دربت مناضلين إريتريين في السبعينيات، وسجل التاريخ استشهاد إريتريين إلى جانب منظمة التحرير الفلسطينية في أحداث أيلول الأسود في الأردن، كما استشهد إريتريون آخرون إبان الغزو الإسرائيلي لبيروت في صيف 1982، كما غادر بعضهم مع القوات الفلسطينية إلى الجزائر ودول أخرى.في الفترة من 1982 وحتى استقلال إريتريا قاد الثورة الإريترية تنظيم الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا، والذي حدد موقفه المبدئي في البداية من القضية الفلسطينية كقضية حق تقرير مصير لشعب مناضل من أجل حقوقه، ولكن ميزان الأمور تغير عند وصول التنظيم إلى سدة الحكم، إذ أقام علاقة وثيقة بإسرائيل، وأصبحت هذه العلاقة تشكل هاجسا لدول الجوار، خاصة في ظل التعاون الإسرائيلي الإريتري في المجال العسكري والنشاط الإسرائيلي الملحوظ في جنوب البحر الأحمر وباب المندب.وكانت رحلة الرئيس أسياس أفورقي للعلاج من الملاريا الدماغية في تل أبيب قد أثارت سخط العالم العربي، بالأخص سورية التي كانت تمتلك مركزا طبيا متقدما لاستئصال الملاريا، والتي تعرف هناك بالبرداء؛ فقد رأت القيادة السورية حينها أن الرئيس الإريتري باختياره إسرائيل دون الدول العربية تنكر للمواقف العربية التاريخية الداعمة لحق الشعب الإريتري في تقرير مصيره.يظل الموقف الشعبي الإريتري من القضية الفلسطينية كسائر مواقف الشعوب الأفريقية والإسلامية، وربما حتى العربية لا يتعدى عتبة “أضعف الإيمان”، أي مودة في القلب وتضامن في الوجدان لا يتجاوزان الصدور وهو حال المغلوب على أمره؛ ومهما يكن فهو رغم ضعفه أكثر تشريفا من مواقف الحكومة الإريترية.(كاتب إريتري مقيم في باريس)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى