مقالات

الإساءة مردودة…..والنقد الموضوعي مطلوب : زين العابدين شوكاي

5-May-2009

المركز

النقاش حول مقال الأخ عبد الرحمن السيد “المنهج الآمن لتغيير النظام في إرتريا” ثم توافق ما ورد في هذا المقال الذي سبق إنشاء منظمة “سدري- CDRiE”، مع ما جاء في الوثيقة التي نشرتها “سدري” ومقالات الأخ صلاح أبوراي الثلاث التي يناقش فيها رؤيته للمشكلة الإرترية، واقتراحه سبلاً معينة لحل هذه الإشكاليات، أثارت جدلاً وحالة من النقاش يمكن وصف بعضها بالخروج عن الموضوعية، والتهجم والتهكم والإساءة في البعض الآخر منها،

والنقد الموضوعي والدفاع عن حق الآخرين في التعبير عن رؤاهم واقتراح حلول لمشكلات وطنية عامة في البعض منها. مهمتي في هذا المقال ليست محصورة في رد الاعتبار لهذين الأخوين، وإن كان ذلك أحيانًا من حق الإنسان على أخيه الإنسان، ناهيك عن حق صديق أو أخ تربطك به صلات أقوى، بل متعلقة أيضاً برد الاعتبار لإنسانية الإنسان وتحريم وتجريم هدر كرامة الإنسان بأي شكل من الأشكال، لأن الإساءة في نظري مردودة، والنقد الموضوعي الملتزم بآداب الحوار مقبول، بل ضروري وصحي، في الحالة الارترية عموماً، وفي الحالة التي نحن بصدد مناقشتها على وجه الخصوص.وفي هذه العجالة سأقول رأيي في الوثيقة الأساسية الصادرة عن “سدري”، وهذه الملاحظات كنت قد قلت جزءًا منها للأخوة المؤسسين للمنظمة الناشئة في وقته وبالطريقة الملائمة، لأني أرى من الضرورة أن أقول رأيي في المرتكزات النظرية التي تنطلق منها “سدري” أولاً، ثم أن أبدي ملاحظاتي في الأسلوب الذي تم مناقشة الظاهرة من خلال. دعونا نرسي مبدءًا أساسيًّا وقاعدةً ذهبية تساعدنا على فهم بعضنا البعض، وتجعلنا نحسن الظنّ ببعضنا، طالما أن النقاش ما زال دائرًا داخل بيت واحد وضمن أسرة واحدة، وهي “قبيلة المسلمين الإرتريين” إذا جاز التعبير، رغم أن هذه “القبيلة” هي الأكثر تنوعًا في إرتريا نفسها، بل هي نفسها تشكل وتمثل التنوع الإرتري كله، وعندما فشلت هذه “القبيلة” في إدارة هذا التنوع الذي يميزها أصبح “نقمة” عليها بعد أن كان يمكن أن يكون “نعمة” تستفيد منه “القبيلة”، ويستفيد منه المجتمع الإرتري بأسره.إن ما يهمني في “سدري” هو أولئك الإخوة الذين يوجدون في داخلها، بل على رأس قمة هرمها، وتجمعني بهم أخوة وصداقة، لذلك أبديت ملاحظاتي الشخصية لهم دون غيرهم ممن يوجد فيها من الطرف الآخر، لكن لا بأس من أن أكرر هذا الرأي الآن أيضاً. هناك قضايا واضحة ومعلنة تطرحها المنظمة الجديدة الناشئة والتي سأتناول كل قضية منها على حدة، وهي: الحل التفاوضي، ومنح العفو العام لأركان النظام مقابل تنازلهم عن السلطة والاحتكام للشعب ولصناديق الاقتراع، أو السعي للعمل على إضعاف النظام بالتزامن مع العمل لفتح قنوات الحوار معه (دون الوقوع في فخ الكراهية، ورغبة الانتقام واعتبار النظام عدو يجب إزالته)، واتباع المنهج البراغماتي في التعامل معه بدل المنهج الدوغمائي، ورفع شعار النضال من أجل بدل النضال ضد “fighting for ≠ fighting against” هذه هي القضايا التي أحب أن أقول فيها رأيي باختصار ودون الدخول في أية تفاصيل أخرى قد لا تكون مفيدة.من الواضح جدًّا أن شعبنا وقواه السياسية والمدنية قد أجمعت على إرادة التغيير دون أن يكون هناك إجماع في رؤية الناس وتأطير فكرهم وجهدهم من أجل التغيير. بمعنى آخر أننا جميعًا، وحسب ما يبدو لي، نفتقد إلى رؤية موحدة للتغيير واتخاذ آليات وتدابير من أجل تحقيق تلك الرؤية. وطالما أصبح الوضع كذلك، وهو فعلاً كذلك حسب رأيي، فلن يتم التغيير بالنوايا الحسنة، أو برغبة في التغيير، مهما كان عدد الناس، وقوتهم، وإمكانياتهم للعمل من أجل التغيير. يبدو أن مشروع التغيير وآلياته مصابة عندنا بالعطل. هناك رغبة وإدارة في التغيير، ولكن نلاحظ غيابًا كبيرًا في الرؤية والآليات التي تمهد له وتساعد على تحقيقه.إنني أفسر حركة “سدري” كجزء من عملية البحث عن حلول، وأعتقد أن خياراتها واضحة، مثل ما تطرقت إليها من قبل، وهو “الحل التفاوضي” و”التغيير السلمي” وهذه أمور مطلوبة لذاتها إذا توفرت لها العوامل والعناصر المطلوبة. وهو بلا شك منهج اتبعه قبلنا آخرون ويمكننا الاستفادة منه. وطريقة الأخوة في سدري في التفكير تذكرني قليلاً بطريقة غاندي- مانديلا. يقال إن غاندي كان يقول ” هناك أهداف كثر أنا على استعداد للموت في سبيل تحقيقها، غير أني لا أرى هدفًا واحدًا يمكن أن يدفعني على قتل إنسان”. هذا نُبلٌ ورُقِيٌّ وتحضُّر في التفكير والعمل يحتاج حقًّا إلى بيئة ثقافية معينة يمكن استنباته فيها، وعملية تزريع مثل هذا الفكر “cultivation” يحتاج إلى مدرسة فكرية كاملة، مرتبطة بشعبها، وتعمل وسطه ومن داخله، وتحس بنبض حياته اليومية، وتعرف همومه ومشاكله الحقيقية، وتمتلك آليات معينة لتحريكه يفتقد الخصوم إمكانية السيطرة عليها، وكل هذه الأمور في نظري لا تتوفر لتنظيماتنا، ناهيك عن مثقفينا الذين ابتعدوا كثيرًا عن نبض الشارع الإرتري ومشكلاته. وهذا الطرح يرجعنا مرة أخرى إلى مشكلة غياب الآليات لترجمة الأفكار إلى عمل. إن الحل التفاوضي كان ممكنًا قبل سنوات، وطرح من داخل الجبهة الشعبية لأكثر من مرة، ونعلم جميعًا ماذا كانت نتائجه. فغياب الرغبة لدى أركان النظام القائم في الحل التفاوضي، وثقل سجلهم الإجرامي كأفراد وجماعات، وعدم ثقتهم في هذا الأسلوب كطريقة توصل إلى الحل من المأزق الذي نحن فيه، وغياب العامل الخارجي كورقة ضغط على النظام، وغياب ثقافة النضال السلمي لدى شعبنا الذي ينتظر أن يأتي يومًا أبناؤه من مكان ما بعيد ممتشقين سلاحهم لإخراج العدو، كما حدث مع الاستعمار، ولإسقاط النظام، كما يتمنون هم الآن، وخاصة هذا العامل الأخير أو هذا الفهم العام، يجعل إمكانية الحل التفاوضي واحدة من أضعف الحلقات في التفكير السياسي الإرتري، ولا تسندها دعائم قوية في واقع الشعب الإرتري، حكومة، ومعارضة، وشعبًا. بينما هذه الفكرة هي الفكرة الأساسية التي تقوم عليها “سدري” تمامًا، مع بقية التفاصيل الأخرى في آليات تنفيذ هذا الحل التفاوضي أو الخطط البديلة في حالة فشله. أود أن أشير إلى قضية أخرى هامة بالنسبة لي، وهي ثقل أبناء المسلمين الإرتريين داخل منظمة “سدري”. فرغم انفتاحي الشديد على أهمية العمل خارج إطار القوقعة الطائفية في التفكير والتنظيم، إلا أنني أرى أن حلقة الحوار مع الآخر والتفكير سويًّا معه ضعيفة للغاية لنبني عليها عملاً مشتركًا بهذا الحجم وهذه الجرأة، إلاّ إذا ضم أبناء الطائفتين بنوع من التوازن والثقة المتبادلة، وبعيدًا عن الوصاية الفكرية من طرف ضد طرف آخر. يمكن لبعض أشكال التنظيم أن تلبي حاجاتنا الفكرية كمثقفين أو مهتمين بالشأن العام وحصلنا على قسطٍ من التعليم والتثقيف، لكني لا أرى أن ما يتميز به المثقف من معرفة وتأثير كفيل بخلق هذا التوازن، بل ينبغي أن ينظر إلى هذا الأمر، أي التوازن، في إطاره الوطني العام، وبالتالي ما هي الضمانات التي لدينا للتأكد من أن الحل التفاوضي ليس مسعى للحفاظ على منجزات ثقافية وطائفية معينة، وأخشى أن نكون أداة في خدمة هذا الهدف. هناك بالتأكيد مساعي ستبذل لإخراج مشروع الجبهة الشعبية من قوقعته الطائفية ومأزقه التاريخي، ورد الاعتبار له على أنه مشروع وطني بجدارة، دون أن تقف محاولات الإنقاذ هذه على التصدع والشرخ الكبير الذي أجراه هذا المشروع المشؤوم على النسيج الاجتماعي الإرتري حتى داخل من كانوا متحمسين له يومًا من أبناء الطائفة المسيحية أنفسهم.البراغماتية عمومًا هي منهج عملي وسريع النتائج، وهي مدرسة فكرية تناسب واقع مختلف عن واقعنا الإرتري المعقد والمتشابك، وتحمل هذه المدرسة، في المحصلة النهائية، في طياتها عناصر فشلها ومخاطر غير محسوبة بدقة، بحكم أنها لا تدقق في الواقع الذي يمكن أن يكون أقل وصف يطلق عليه هو التعقيد والتشابك. كثيرًا ما تستهوينا الشعارات العملية والسهلة والمفهومة، لكنها ليست بالضرورة الأفضل لمعالجة مشكلات واقع معقد مثل الواقع الإرتري. يحس الإنسان أحيانًا أن الحلول السهلة والعملية “البراغماتية” هي الأنسب لفض حالة التشابك والتعقيد الماثلة أمامنا، خاصة أمام يأسنا من عجز قوى المعارضة وتقادم أسلوب عملها وتحركاتها السياسية والدبلوماسية. من هنا لا غرابة في أن نرى مبادرات تكسر هذه الرتابة، لكنها ليست بالضرورة مأمونة العواقب على الطرف الأقل تماسكًا والأكثر ضعفًا وتفككًا، وهذا هو “نحن اليوم”. الالتجاء إلى الحل البراغماتي يحتوي على مخاطره من داخله، فأرجو أن نمعن النظر عند طرحه، وإبداء نوع من التواضع بعدم رفعه شعارًا صارخًا ومميِّزًا لنا، لأن ضرره في هذه الحالة أكثر من نفعه. من هنا أرغب في أن ألفت نظر الإخوة في أن شعار “تزريع” ثقافة السلام التي يرجى منها أن تمهد الطريق لتأتي بالحل التفاوضي، وهو حل طويل الأمد، تتناقض مع المنطق البراغماتي الداعي إلى تبني الحلول الأسهل والأكثر قابلية للتحقيق، بصرف النظر عما يترتب عليها من تعقيدات مستقبلية.رفع شعار “النضال من أجل” بدل “النضال ضد” قيم ومفاهيم ومواقف معينة بدا وكأنه هدف في حد ذاته في الورقة التعريفية التي طرحت من قبل “سدري”. هذا المنطق السهل والبسيط في التعامل مع قضايا كبيرة بهذا الحجم، بدا وكأنه سيجعل الأمر أسهل بقلب المعادلة بفلسفة كلامية. أنا أعتقد أن في إرتريا اليوم ألف مشكلة ومشكلة تعيق التطور الديمقراطي والقانوني والثقافي والإنساني، إذا لم نناضل من أجل إزالة آثارها الضارة على الأفراد والمجتمع فسوف يكون من الصعب للغاية العمل وفق قاعدة لا تهاجم السيئ من الواقع وتدينه لذاته، بل ينبغي أن تطرح بديلك الذي تريده أن يسود. هذه طريقة قد تساعد على فهم الأشياء بضدها، ومقارعتها بالبديل الأفضل، لكن ذلك لا يعني عدم إدانة الانتهاكات والمظالم التي حدثت خلال هذا العقد ونيف من استقلال البلاد جملة وتفصيلاً، بل يجب أن يحاكم مرتكبوها إن عاجلاً أو آجلاً، وليس هذا فحسب، بل يجب أن تفضح العقلية والثقافة التي وقفت وراءها حتى لا تتكرر في واقعنا من جديد، وتكرس الظلم وكأنه أمر لا قبل لنا بدفعه إلاّ بالمساومات السهلة والسريعة تساعد المجرمين الحقيقيين من الإفلات من العقاب والتستر على جرائمهم التي ارتكبوها بحق أبرياء كان ذنبهم الوحيد أحيانًا أنهم كانوا يؤدون صلواتهم الخمسة في المساجد بانتظام، أو ربما فقط أنهم كانوا يحملون أسماء إسلامية، أولم يرق شكلهم أو تصرفاتهم لأحد من معتوهي النظام القائم في إرتريا.أخيرًا، يصعب علي تمامًا أن أرى في طرح “سدري” الحالي الآليات التي تضعف بوضوح النظام الحاكم في إرتريا، قد تكون هذه هي البداية، وقد يؤدي جزء من تحركاتكم في المستقبل إلى إضعاف النظام أو فضح عجزه عن قبول الحوار كوسيلة، وهذا قد يحرجه في بعض الدوائر، لكن النظام لم تحرجه حتى جرائمه المكشوفة والمعلن عنها، وبالتالي لم يعد يهمه أي تحرك ضده. كما أن علاقتكم بقوى المعارضة ليست واضحة في طرحكم، فهل هناك منطقة وسطى تلتقي فيها جهودكم بجهود المعارضة بوضوح ………أين؟………..وكيف؟ هنا أنهي ملاحظاتي عن “سدري”، وأنتقل إلى الجانب الآخر وهو كيف تم تناول الظاهرة ؟ما أدهشني في الكثير من الكتابات والملاحظات التي كتبت عن المنظمة الناشئة والإخوة المنتمين إليها هو ذلك الانقضاض على أشخاصهم والنيل منهم، والتشكيك في نواياهم، وهذا الأسلوب يخرجنا عن دائرة النقد الموضوعي ليدخل في الإساءة، وهذه مثلما قلنا مردودة لأنها لا تؤسس لثقافة التسامح والقبول بالرأي الآخر رغم اختلافنا معه. التراث الإنساني عمومًا والإسلامي خاصةً حافل بمقولات ومواقف يتعلم منها الإنسان أن يكون مؤدبًا مع مخالفيه في الرأي والموقف. هذا الانقضاض على المخالف جاء في أشكال ودرجات متباينة تبعاً لشراسة الشخص المنقض، وهذا لعمري أشبه بحياة البرية فيما نشاهده من أفلام الطبيعة، عندما تتصيد النمور والأسود بعض الغزلان أو الأيائل وتظل تطاردها لوقت طويل على أمل أن تخور قواها فتنقض عليها، ما هكذا ينبغي أن نكون كبشر، بل كبشر ينتمون إلى ما أسميناه ب”القبيلة الواحدة”.احترام إنسانية الإنسان ليس خيارًا متروكًا لنا، بل هو شرط لا تكتمل إنسانيتنا إلا به، وإذا فقدنا هذا النوع من الاحترام فإن أول ما نفقده هو إنسانيتنا التي لا يمكن لها أن توجد إلاّ في بيئة وثقافة لا تسمح بهدر كرامة الإنسان، وتحميها وتدافع عنها باعتبارها ضمانًا للعيش الآمن والسليم من أي أذى نفسي أو جسدي للأفراد والجماعات. فعملية هدر الكرامة الإنسانية للمخالف في الرأي تبدو خالية من أي حس سليم، وحتى خصمنا أو عدونا يجب ألا نهدر كرامته الإنسانية، وهي أي هدر الكرامة الإنسانية مقدمة لعملية “الأبلسة –demonization ” التي من خلالها نسمح لأنفسنا بتجريم الإنسان للانقضاض عليه وإلحاق أكبر أذى ممكن به. هناك أيضًا مسلك آخر لا يقل خطورة عن عملية هدر الكرامة الإنسانية للمخالفين لنا في الرأي، والدخول في عملية ما يطلق عليها بالأبلسة (أي تصوير أو جعل الخصم أو المخالف يبدو وكأنه “إبليس”)، وهي أيضًا بدورها تسهل عملية الانقضاض عليه، وتجريحه دون أي يبدو علينا أي أثر لتأنيب الضمير أو الندم، طالما أنه “إبليس” أو “شيطان رجيم”.هذا الأسلوب الذي تم تناول الإخوة من خلاله في بعض المقالات، ولا أقول كلها، لأن هناك من خالفهم الرأي إلا أنه ظل محافظًا على قدر من الاحترام لهم ولنفسه، أخذ البعض منحى تجريميًّا لإخوة أعلم أنا شخصيًّا بأنهم غيورون على هذا الوطن، ويسكنهم همه، وهم مثل غيرهم يخطئون ويصيبون في تقديراتهم واجتهاداتهم، وهذا حق تكفله لهم كل الأعراف والشرائع، وعلى رأسها وكما سلف وقلنا شرعنا الإسلامي، خاصة في قضايا دنيوية حياتية محضة تتعلق بالعمل السياسي اليومي. هذه القضية أيضًا تثير لدي تساؤل آخر لا يقل أهمية ويجب أن نتطرق إليه ونناقشه في هذه العجالة، وهو احتكار التحدث باسم الإسلام والمسلمين، سواء كان في بلادنا أم في بلدان أخرى بدءًا من دول المحيط وانتهاءً بعالمنا الإسلامي الواسع. ممارسة هذا السلوك أي احتكار الحديث عن دين أو جماعة ما ليس جديداً في تراثنا السياسي والاجتماعي، وأعتقد أنه في ساحة العمل والوطني الإرتري بدأ بجبهة التحرير الإرترية التي احتكرت الحديث باسم الوطن والثورة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، الأمر الذي أوقعنا، ضمن أسباب أخرى، في حرب أهلية دامية. أما الجبهة الشعبية فكانت النموذج الأسوأ والأكثر تطرفًا فهي لم تحتكر الحديث باسم الوطن والثورة، كما فعلت الجبهة، بل احتكرت الوطنية أيضًا وقامت بتخوين الآخرين وتجريم أي انتقاد لها، واعتباره خطرًا على الوطن. وهناك أيضًا قضية أخرى لا تقل خطورة عن القضايا التي تم ذكرها، وهي أنه بمجرد أن ظاهرة معينة لا تروق لمزاجنا العام أو لمنهج التفكير السائد لدينا، نبدأ مباشرةً بالتشكيك فيمن يقفون وراءها، والانطلاق من نظرية المؤامرة لتفسير مواقف المنتمين إليها وكتاباتهم. وهذا لا يساعدنا في الحقيقة على تفنيد ما نراه خاطئًا وتصويبه، والدفع بما هو إيجابي في كل ظاهرة جديدة. فعدم التحرر من الأحكام المسبقة والاحتكام إلى نظرية المؤامرة هو شكل من أشكال العجز عن إعمال العقل، وتفسير الظاهرة المعينة بما تستحقه من تفسيرات وفيه إراحة للنفس من عناء البحث والتفكير المدقق والفاحص للظاهرة.نسعى ونطمح إليه في عملنا السياسي والاجتماعي الإرتري هو إرساء دعائم ثقافة التسامح، وبناء الثقة والقبول بالآخر كما هو، وعدم الانجرار أو الانزلاق بسهولة في مأزق التفسيرات الغيبية لظواهر دنيونية وحياتية ظاهرة أمامنا، وهذا يقودنا بالضرورة إلى ممارسات أخرى متخلفة لا ترتقي بمستوى تفكيرنا أو عملنا، وهي محاكمة الآخرين بمواقعهم هل هم معنا أم ضدنا، بدل محاكمتهم بمواقفهم وأعمالهم والمآلات التي ستؤدّي إليها هذه المواقف والأعمال. نحن بحاجة إلى إرساء دعائم ثقافة العمل والإنجاز، بدل ثقافة التبعية والولاء، لأن ثقافة الإنجاز هي وحدها القادرة على إنقاذنا من التشكيك والركون إلى نظرية التآمر في تفسير الظواهر.وأخيرًا أود أن ألفت نظر السادة القراء إلى قضايا نحن بحاجة إلى نتنبَّه إليها في هذا المنعطف التاريخي الصعب من تاريخنا الوطني، وهي أننا نمر بمرحلة مخاض فكري سيتولد عنه بالضرورة ما يفيدنا ويسهم في تقدمنا الفكري (السياسي والثقافي) إذا أحسنّا توظيفه دون أن نتعرض لبعضنا البعض بالإساءة. أنا أؤمن بأنه ينبغي أن تكون هناك حدود دنيا من المبادئ الأساسية التي يجب أن ندافع عنها، لأن التجمعات البشرية التي لا يتميز أفرادها بهذا الحد الأدنى من التماسك النظري أو الفكري يسهل على الخصوم أن يفرضوا عليهم أجنداتهم الفكرية ومشاريعهم المستقبلية، وهذا أكبر ما أخشاه على المسلمين الإرتريين. الأمر الآخر الذي يميز هذه المرحلة الانتقالية أيضًا هو ما يسمى بالتنازع بين التزاماتنا الوطنية كمواطنين في بلد واحد متعدد الثقافات والأديان والأعراق، وبين انتماءاتنا الثقافية التي يجب أيضًا أن نكون مدركين لها وندافع عنها بوعي، وحل هذا التنازع على المستويين الشخصي والوطني يعتبر ضمانًا للاستقرار النفسي والفكري لدى الأفراد والجماعات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى