مقالات

الشعر ومجاز النبوءة :قراءة في ديوان (نافذة لاتغري الشمس) للشاعر محمد مدني

26-Sep-2006

المركز

إلى أي مدى يرتقي تأويل الشعر في معنى النبوءة ، وهو يبحث عن صوته الخاص بين حقول التجريب ، وجوديا ولغويا، في مسار يمنح الشاعر القدرة على الفكاك من حصار المأزق . تلك التي تترس حدود التجربة الشعرية ، بحيث يكون وجوده في الشعر جزءاً من الحياة لا موازيا لها كما يرى أدونيس مثلا ؟. وبصورة يكون البحث فيها عن الشعر تقطيرا للوجود يستحق التجريب ويرخص صلابة الحياة وتخومها القاسية ليجسر فواصل الرؤيا في حدود الزمان والمكان على نحو ما أقدم في ضرب من ذلك الشاعر الفرنسي الكبير رامبو؟.محمد جميل أحمد

ربما كان الشاعر السوداني – الإريتري الصديق / محمد مدني يقترح مجازا للتجربة الشعرية قياسا على مجاز النبوءة بكلمة لا تخفي تلك الدلالة في قاموسها الديني . وكأنه بتلك الكلمة يحيل مقاربة الشعر إلى مقاربة المطلق . في ظهر الغلاف الأخير لديوانه (نافذة لا تغري الشمس) الصادر عن المكتبة الأكاديمية بالخرطوم في العام 2000 حيث يقول :دثروني … فالكلام البكر جاءها أنا أركض نحويفالعمى شارة صحوي بهذه العبارات المكثفة والمختصرة يفتش محمد مدني عن المعنى البكر في غاية الكلام . ويدخل في الغياب بطقوس إستعارية تلتبس المطلق في البحث عن الإبداع . على نحو يعادل العدم بالحياة في موازاة لحظة الكشف:هزت الدهشة أركان سكونيضاع موتي وإذا كان الشعر عادة إختراقا للزمن ينفذ من الكلام المدور فيه إلى الثابت والمطلق في خطوطه الأبدية ، فإن اللحظة التي تواقع فيض الشعر وتؤرخ ميلاده في العالم هي إنطفاء في الذات يقلب الوعي ، ويفجر ما كمن منه وفق علامات الحضور والغياب في شرط الإبداع . ومن هنا يكون العمى في الخارج هو شارة الصحو في الداخل.إذ أن الشعور بالعالم هنا شعور منفصل عن الزمن ، في نفس الوقت الذي يؤرخ فيه الزمن ميلاد النص . فالشعر فناء في الغياب يكتشف بقاء صورة العالم في الكلمات التي تنسجها روح الشاعر. ولكن المقطع الذي ذكرناه آنفا ، والذي جاء في تضاعيف نص متأخر نسبيا عن تاريخ أو قصيدة في الديوان ، يزايل التناص المعنوي الذي يوحي به في القياس على مجاز النبوءة من خلال كلمة (دثروني) بصورة مباشرة مما لا يعني دهشة البداية بقدر ما يعني أن الشعر هو بدايات دائمة بما لا يقاس عليها . أى إستحالة تماثل منتوج اللحظة الشعرية بما هي بصمة إبداعية خاصة في التجربة الشعرية المتجددة . على أن الشاعر ربما قصد من ذلك التناص تصعيد ما يصدر عنه الشعر من منافذ الباطن بموازاة الغيب . أى موازاة الإلهام والوحي، وما يرشح عن ذلك من الرؤيا والمعرفة في حدود ربما لا تتعدى المشاكلة اللفظية للكلمة. أول مايلفت القارئ في الديوان المساحات المتعادلة للبياض والسواد كجزء من كتابة الديوان تتهندس فيها الحروف والكلمات بصورة كانها تعين على قراءة أكثر دقة من خلال علامات الكتابة والترقيم (وهو تخطيط تركه الشاعر لصديقه الشاعر السوداني عاطف خيري) بطريقة تضفي حوارا صامتا بالإضافة إلى تلك النبرة الكتابية المضبوطة، ويكشف ديوان الذي ينطوي ثلثاه على قصائد مؤرخة قبل 25 عاما أو أكثر(1977-1980) بينما كتب الثلث الأخير ما بين العامين (1980-1987) عن أسلوب جمالي إستقر به الشاعر منذ اللحظة الأولى على كتابة شذبت الكثير من أعشاب البلاغة الشعرية الضارة ، وكأن الشاعر أراد بإصدار الديوان في عام 2000 أن يستعيد (صورة الفنان في صباه) على نحو ما . بل يمكننا القول- بشئ من الحسد- كيف أفلت صوته الشعري طوال تلك الفترة من طبول اليسار(وهو المنحاز سياسيا) إلى التكثيف والترميز المضفور بغنائية دوزنها إيقاع مضبوط : وهي فترة جرت فيها مياه غزيرة حول وظيفة الشعر والأيدلوجيا أو صوت الشاعر وصوت الحزب . بحيث نجزم أن القصائد ما بين العامين (1977-1980) تبدو أكثر بصرا بقلق الشعر في تشكيل رؤية تحتقن بالإبداع في حوار الشاعر مع العالم بصوته الفرد وضميره المعذب . حتى يبدو لنا لأول وهلة أن هناك قلبا في ترتيب تواريخ القصائد (وهي لحسن الحظ كلها مؤرخة) . يقول الشاعر من قصيدة ( شهرزاد والمقصود).تنكرني الحروف تلسعني سياطها المائية الرنينتنسج لي من خطوها معاطف النكاية فهو منذ البداية يستمر مع أفعال المضارعة في إحتمالات تهجر اليقين بثقة الكلمات المتخاتلة ، ويؤسس نصه بحثا عن (مرابط الأفراس) . وربما كان هذا هو السبب في أن يكون الديوان بـ17 قصيدة فقط خلال ربع قرن من الزمان . ويحذف الشاعر أو يحتفظ بالكثير لنفسه . والقارئ في نصوص محمد مدني يقع على شعر مشغول بعناية ويتحرك في مساحة تعبيرية تبدأ بهواجس النضال ولا تنتهي في الهوية الناقصة ، والحب الملتبس وهجاء العالم . وهي ميادين خطابية بإمتياز ، لكن الشاعرينتصر في الكثير منها للنص . أى أن القصيدة تثري فضائها الذي تندغم فيه تيمات إبداعية تفتح منافذ النص على الإيحاء والمخاتلة والنشيد. يقول الشاعر من قصيدة (صورة الحديد) التي أهداها للشاعر العراقي الكبير سعدي يوسف :طالعا من ظلام الحديدإلى عمق هذا الخراب المديدإكتفيت بقنبلتين رقشتهما فوق كمي كي ألتقي بالفتاة التي ضيعتني . فطريق النضال بحثا عن الحب الملتبس بالهوية الناقصة ، هو صورة تترك هامشا للمعنى الذي يلتبس أيضا في صرف الدلالة المتعينة للنص . وهو أمر يظاهر الإبداع في الكتابة الشعرية على نفس لا تقطعه مطبات التمدد الذهني . بل المعنى يرقى في تداعياته ليتوحد في شتى صور الدلالة . لذلك يكون البحث عن الحب ، بحثا عن الوطن المفقود . ولكن التعبير هنا ينطوي على مغامرة عدمية يعرف الشاعرطبيعتها ويقلب تأويل المعنى المعهود ليكشف عن فظاعة الدرب وتخومه الممددة في الخراب ، فيبحث عن الحب برغم القنبلتين اللتين لا تكفيان لإصلاح العالم !. على أن هناك معنى أكثر حضورا ، فصورة الخراب التي تستدعي معان تتجاوز موضوعة الحرب تنطوي على اليأس الذي هو السبب الحقيقي ( كما سنرى ذلك فيما بعد) للخروج من الظلام إلى الخراب . وعلى رغم صورة الموندراما المتداعية من إسم الفاعل ( طالعا) بظلها الملحمي والبطولي ، فإن الخروج الحقيقي هو الخروج إلى الحياة والحب . ونصوص الشاعر محمد مدني على مدار الديوان تحتفظ بغنائية تضمد الجراح بغناء يتجاوز إختلاس الفرح لتمجيد الحزن أيضا والعزاء على النكسات والخيبات في حياة توزعت عذاباتها بقدر غلاب دهس أمنيات الشاعر، فيخرج صوته أحيانا عن حدود الغناء الشفيف إلى نبرة خطابية أشبه بالوصايا :من لنا غيرنا يا يسارمن لنا غير أن نحتمي بالجدار وتجربة النضال تحضر في شعره إنعكاسا لحياة تسقط خطوطها المتقابلة ، لكن هذا الحضور يوشك أن يؤشر على تعرجات بيانية لشعرية النص ( وهذا لا يعني عوز الشاعر عن النسج الفني بقدر ما يحيل على الفروق النسبية لجمالية النص) . فالقصيدة في شعره تحوي بنية متعرجة لا تكف عن كشف هويتها بين الغناء والغناء/ النواح :دعونا نغنيوهل قرب قاع القصيدةغير نواح هذا التقابل في دلالة الصوت الواحد يتحول إلى مجاز منسجم في ثنائية طبعت شعره بحيث يتجاوز الهتاف والهمس ، والحزن والفرح والأنا والآخر في القصيدة . وتاتي الهوية الناقصة في شعر محمد مدني دون إشارة خطابية متعينة ، إذ يكفي الترميز عن الإفصاح الذي يقتل المعنى ، بل تأتي في المكان والأنثى ربما للشعور بكيان واحد يستقطب هويتين للشاعرمن غير تناقض في شعره بينما الأمرليس كذلك في الخارج . ومن هنا يأتي المكان تعويضا عن الجزء الملتبس والناقص من صورة الهوية وصورة الأنثى (تتقمصني بالعشق عدوليس).” مرفأ إريتري قديم” ، وكذلك تتقمص الأنثى وشم الهوية حين يكتب محمد مدني (النشيد الصامت لسيلاس) ليترك إسم الأنثى في أعلى القصيدة ، ويوغل في سفر الفصول الأربعة بحثا عن (سيلاس) التي يقاتل ظل قاتلها ، أو بالأحرى مغتصبها ، دون جدوى ، لذلك يكتفي بالنداء العاثر :يا أنتيا فرحي الأسير ثمة إستعارة لخطاب ديني مقلوب . أو مصروفا عن دلالته في نصوص محمد مدني ناشئ إبتداءُ من منابت دينية (إذ أن والده من شيوخ الطريقة الختمية ومن عائلة (عد معلم) التي إشتغل تاريخها بالتدين )، لذا لا تنفصم ذاكرته عن إستعادة ما لعبارات من بلاغة الخطاب الديني ذات توظيف متمرد يذهب بالنقل إلى سياق مختلف عن دلالاته واحيانا مناقض له :أف لأمي ألف أف للجميع …أبي ، أولو الأمر… أو حين يقول في لهفة إيروسية :هزي بجزعك إننيأشتاق أن ألقاك في وهج الجسد ………………………………………… إنما الأعمال بالنيات/ هاكم صفقوا بيتنا الحلم عيناها ونافذة صغيرة تلك حجتنا الأخيرة . ويستخدم محمد مدني صيغا خاملة للتنوين تعين عليها عامية سودانية فصيحة ، وهي ظاهرة تظهر أيضا في نصوص بعض الشعراء (عاطف خيري- الطيب بربر) مثل قوله :لا لكل اليشبهوك من بيوتوبنات وبلاد ………………….يا أيها الموت يا أيها الصرت منا ويوثق الشاعر لرفقة النضال بوفاء في نصوص كتب بعضها في ميدان المعركة وفي ظروف لامست جراحات خاصة في تجربة الفصائل الإريترية المتقاتلة ، إلا أن نصه الرؤيوي (أغنية لأطفال آر) إريتريا بالرغم من تاريخه المبكر 1978 يخترق رؤية تنبؤية للمستقبل تتعدد فيه الأصوات على طريقة محمود درويش في الحوار والحركة والتصوير. يتحاور الطفال وهم يلعبون لعبة الحرب :بيم …بوم …باك -أنا حامد -أنا دبروم-ألم مسفن -وسعدية والرؤيا تأتي في النص من شقاء عميق بواقع النضال وإحباطاته ، لذلك فهي تنفذ ببصيرة الشاعر إلى المستقبل ، وتحيل على معنى إنساني يتجاوز الفرز الديني والعرقي الذي كان يؤجج تلك الصراعات الأهلية بين الثوار الإريتريين ونلاحظ ذلك في أسماء الأطفال التي يوظفها الشاعر وفق رؤيته الإنسانية . ويستمر الحوار بين الأطفال حول تيمة القيادة التي كانت تغذي تلك الصراعات :-كن القائد -لماذا فلتكن أنت ؟-تريث أننا تلعب-فإن زمانهم بائد-لأن زمانهم بائد سأرفض منصب القائد هكذا يبحث النص عن الخلاص في بدايات تخلق في زمان جديد وأجيال أخرى بعيدا عن الواقع الأليم الذي لا مكان فيه لعشاق حبيبته الأسيرة ، لا في الحياة ولا في الممات سوى في ذات الشاعرالواقعة في المنزلة بين المنزلتين ، فهو واقع يعبرعن حاجة الشاعرللغناء والنواح تحت ظل قبر مفتوح يحمله بإستمرا:للعشق والعشاق مرثيتي وأغنيتي لقبر فوق ظهري يبتدرنيكلما أزف الستار هكذا نعى محمد مدني تجربة النضال العاثر دون أن يدري ربما كان ينعي نفسه . وحين صرح محمد مدني عن سعدي يوسف كان محمود درويش هو الغائب الحاضر في الديوان ، بجامع الإحساس الشديد بالهوية الناقصة فضلا عن الغنائية الجياشة . وضفر مفردات الحياة في موضوعة مركزية واحدة ، والنفس الملحمي للنصوص، والتضمين والتجريب . هو إشتراك يحيل على تناص شكل في كل من التجربتين تاريخا جماليا للنضال صنعته هوية ناقصة .@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@نقلا عن صحيفة ” السوداني” العدد(205) الصادر في 11سبتمبر2006م

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى