مقالات

الوحدة الجاذبة في ارتريا : محمود عمر – بورتسودان

4-Nov-2012

المركز

تعيش مناطق العالم الثالث وخاصة المنطقة العربية وافريقيا مخاضاً جوهره إختلال العقد بين الدولة والمجتمع علي المستوى المحلي من جهة والرغبة الجامحة من القوى الدولية لتنميط هذه الشعوب وفق نظرتها الاستراتيجية عبر آليات متعددة تعتمد علي وسائل العصر من تكنولوجيا رقمية وخصخصة السوق والغزو الاعلامي من الجهة الأخرى.

تمثل اختلال تعاقد الدولة في دولنا في تحكم نخب وأسر استمرت علي سدة الحكم منذ تكوين الدولة القـُـطرية الحديثة، حيث اختزلت الدولة ومؤسساتها في حاضن اجتماعي أو جهوي بعينه، ثم فصلت قبيلة المركز الدولة علي مقاس مصالحها وحافظت عليها بتجويد أدوات القمع مما عمق الهوة بين الدولة والمواطن. تتميز ارتريا بالملاحم البطولية وتمترس الشعب الارتري وراء حقوقه المشروعة في إقامة دولته المستقلة، فما من بيت أو حجر أو شجر أو بهيمة لم يدفع ضريبة التضحية والفداء وذلك لطول الحرب وشراستها، ولكن النظام الذي حصد ثمار هذه البطولات وقع في نفس الهوة التي حفرتها من قبله النخب المتسلطة في دول العالم الثالث، وأصبحت البلاد تدار بحفنة من أبناء قرية واحدة تتفنن في تفصيل البلاد عليها، حتى أصبح الوطن هم وهم الوطن، وكل من يخالف تفكيرهم هو عميل لأيادي خارجية خائن للوطن يستهدف إنجازات الشهداء يجب ألا يبقى فوق الأرض، وظل هذا النظام يتمسك بوحدة الأرض والشعب عنوةً ولصالح مجموعته، حيث لا وطن خارج مصالحهم، وفي ذلك استغلوا عواطف شعبنا ودغدغوا مشاعره بقولهم إن الاقتراب من هذه البيضة يعرضها للكسر والتلف، وسخرت الآلة الاعلامية لهذا الغرض حتى وقع عدد من أصحاب الرأي المستنير في شباك هذه المصيدة الخادعة والمنسوجة بدقة وإتقان، وأصبح هؤلاء يرددون سيمفونية النظام وهي أن دول الجوار لها أطماع في ارتريا وخاصة السودان واثيوبيا، وأن وجود تنظيمات قائمة علي أسس قومية (عرقية) أو دينية يهدد الكيان الارتري.وكانت أدبيات التنظيمات في عقد الثمانينيات تتغنى بالوحدة شعراً ونثراً، كما وقعت اتفاقيات وحدة اندماجية بين الكثير من تلك التنظيمات. وكان التوجه نحو الاستقلال ومواجهة الاستعمار وتحقيق الاستقلال، ولم تخضع شروط الوحدة للفحص والتقويم، حيث ظلت مطرقة وحدة الأرض والشعب تدق رؤوس مجتمعاتنا، وأصبح كل أمل أو حلم خاص يحمله المواطن في الجيب الخلفي للطاغية وطغمته المتنفذة. إذاً كل من يشجع أو يفهم وحدة الأرض والشعب علي النمط التقليدي القديم فهو مشجع للنظام علي تماديه في طغيانه المجنون وادعاءاته الفارغة ومتخلف جداً عن مواكبة واستيعاب التطورات المتسارعة التي تشهدها المنطقة من حولنا والأمثلة أمامنا واضحة، فتلك أرض دجلة والفرات، مهد حضارة بابل وسومر (العراق) تتجرع المرارات الداخلية وكذلك أرض دمشق الشام وحلب الشهباء تعيش في المقام الأول حرب احتقان داخلي وتقاتل علي الهوية الطائفية، واليمن الذي أثبت قدرته علي تجنب الاقتتال الأهلي بكل قبائله وقواه السياسية بالرغم من التسلح القبلي والتباين بين الجنوب والشمال، يسعى بالرغم من المخاطر لاحتواء الموقف وتثبيت السلم المجتمعي علي الأقل فيما هو عليه الآن. وكذلك الوضع المتردي في الصومال وواقع الدولة الفاشلة والمجاعة بالرغم من وحدة الأصل واللغة والدين وكذلك وطننا الثاني السودان العزيز الذي استقبل مولوداً جديداً (جنوب السودان) لا زال يعاني من مشكلات في دارفور وكردفان والنيل الأزرق بالرغم من إقراره حقوقاً وتوقيعه العديد من اتفاقيات الصلح الداخلي (الدوحة، اسمرا، أديس أبابا).إن خطر نظرية المؤامرة والاستهداف لارتريا والزج بالقوى الخارجية فيما يعانيه شعبنا تحت وطأة الحكم الجائر وآلته الاعلامية الضخمة، ظلت وسائل حماية له، وأكبر مخاوف تطرحها الأقلام وغرف الحوار (البالتوك) هي الخوف أو بالأحرى زرع الخوف من اثيوبيا والسودان، كل حسب حاجته، فالسودان كان منذ بدء اندلاع الثورة يشكل حضناً دافئاً بالرغم من أزماته ويكفيه هموماً ما يعانيه، أما الجار البعبع (اثيوبيا) التي ارتبطت نفسية المواطن الارتري بالخوف منها في كل مراحلنا التاريخية فقد شكلت حضوراً اعلامياً دائماً وأثارت تساؤلات ماذا تريد اثيوبيا، وأن اثيوبيا تسعى لتفتيت النسيج الاجتماعي الارتري وأن … وأن…الخ. ونحن لا نقول لهؤلاء هذا من نسج الخيال، ولكن يجب أن نقف أمام حقائق ماثلة للعيان تتمثل في التالي:ـأولاً/ الشعب الارتري بعد نضال طويل توج استقلاله عبر استفتاء شهده المجتمع الدولي والاقليمي وأصبحت ارتريا دولة ذات سيادة باعتراف العالم بما فيه اثيوبيا. ثانياً/ رهان التدخل العسكري واحتلال ارتريا وإعادتها مجدداً الي حظيرة الدولة الاثيوبية خطوة استبعدتها اثيوبيا وإن أقدمت عليها فهي ضرب من المغامرة واثيوبيا في غنى عن خوض مغامرات استعمارية جديدة في عصر الألفية الثالثة بالتقويمين الاثيوبي والقاريقوري. ثالثاً/ الشعب الارتري سوف يتمسك بمقاومته للغزو الاثيوبي وغيره وهو قادر علي إنهاك اثيوبيا عبر ثقافته النضالية العريقة وخبرته العسكرية الطويلة (حرب التحرير الشعبية طويلة الأمد). وكل ما في الأمر، فإن استراتيجية اثيوبيا اقتصرت علي استضافة المعارضة بعد انهيار تحالف تغراي تجرنيا، وفتحت أبوابها لكل الأصوات المعارضة بغض النظر عن توجهاتها السياسية وقوالبها التنظيمية التي قد تتوافق أو تتقاطع مع اثيوبيا، وبذلت كل المحاولات لتطوير أداة المعارضة وتقريب وجهات نظرها حتى انتهى بها المطاف بمؤتمر أواسا التاريخي الذي شكل لوحة اجماع من كل الفصائل وفئات المجتمع وبهذه الخطوة تم إنجاز مهمة تكوين برلمان في المنفى، أي انتخاب مؤسسة مؤقتة منتخبة بالتوافق تمثلت فيها كل اللوحة الاجتماعية الارترية، وما تلى ذلك من مؤتمرات ولقاءات وخاصة في غوندر ودبرزيت للشباب مهمتها رفد المؤسسات السياسية القائمة بمنظمات فئوية وخاصة في ظل التطورات المتلاحقة في المنطقة المحيطة (العالم العربي) والتي يقودها الشباب وحققت من الإنجازات ما لم تحققه المعارضات التقليدية. إن الحل والعقد في هذه المرحلة التاريخية مهمة الشعوب، هذه الشعوب التي تعيش حالة احتقان داخلي ورفض لعقد الدولة القديم الذي لم ترعاه الدولة التقليدية حق الرعاية، ونحن كمواطنين ارتريين أوفينا بنصيبنا من واجب وحق المشاركة في بناء بل وخلق وانتزاع الدولة من فم أسد يهوذا ثم الدفاع عنها، وجعلنا مراتع صبانا محارق وقرابين للنضال التحرري آملين أن ينسينا قيام دولتنا الحرة ما عانيناه في سبيل الحرية، ولكن عندما جاءت الدولة استغلت ما حصلت عليه من سيادة قانونية وسلاح في استخدامه ضدنا بقوة. الحل لإعادة اللحمة الارترية لا يأتي باتهام الآخرين بالتدخل والمؤامرة في ظل هذه المرحلة التي أصبحت فيها سيادة الدولة مستباحة جواً وبراً وبحراً، ولكن الحل يأتي بترميم الذات ومراجعة العلاقات بين فئات المجتمع واحترام الانسان وحقه في التعبير والانتماء ومراجعة عقد الدولة دون قدسية لمسلماتها وإيجاد نقاط الاتفاق والقواسم المشتركة والخروج من عقلية الاستحواذ علي حق المواطن في الحياة الكريمة تحت حجة وحدة الأرض والشعب التي لم يتجاوز عمرها بضعة عقود. ويجب أن يدرك الجميع أن عقد الدولة في الخمسينيات يمر الآن بمراجعة علي حسب التحولات الهائلة الطبيعية منها أو الانسانية، وشعبنا الذي نسج علاقاته بالتراضي في المراحل السابقة قادر علي أن يمدد العقد القديم ويجدده ويرممه لو توفرت له ظروف ذاتية وموضوعية دون احتواء وإقصاء. علينا أن ننظر للوطن بلوحة يشكل فيها كل انسان ريشة فنان يسمح له برسم الأمل بلونيته الخاصة حتى تتعانق آماله مع آمال الآخرين، وإلا تحولت الريشة الي قنبلة تودي باللوحة كلها، كما أن أي فتوى منفردة تؤدي لإلغاء دور الآخر هي التفكير في الاتجاه الخاطئ، فاعتماد الحوار بين مكونات الشعب الارتري والسعي الجاد للوصول الي الغايات المشتركة واعتبار التنوع عقداً يزين الوطن لأنه يتلألأ ويزدان بمكوناته الطبيعية وبذلك يكون الوطن جاذباً ومغرياً وخيار التمسك به وصونه يصبح خيار الجميع وهذا الذي يجنب وطننا آفات التفتت والتغيير العنيف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى