مقالات

بعد (سمراويت ).. مرسي فاطمة رواية جديدة لحجي جابر رحلة البحث عن الممكن والمستحيل / بقلم صديق محيسي

6-Feb-2014

عدوليس ــ نقلا عن الراكوبة

مرسي فاطمة هي ثاني رواية للروائي الاريتري الشاب حجي جابر الصحفي بقناة الجزيرة وكان جابر قد اصدر من قبل رواية سمراويت التي حصلت علي على جائزة الشارقة للإبداع العربي عام 2012 و رواية سمراويت واخيرا مرسي فاطمة تنتميان الي مايعرف بالرومانسية الثورية التي اسس لها الروائي الكولومبي جبرائيل غارسيا ماركيز

حين كتب رائعته الحب في زمن الكوليرا, تلك الرواية التي اراد فيها ماركيز ان يثبت ان الحب الانساني لايعرف الاعمار, وان العواطف المشبوبة في قلب الشباب لا تخمد جذوتها بتقدم السن , فقد انتظر العاشق عامل التغراف الفقير فلورينتينو كل هذه السنوات حتي نال محبوته فيرمينا دازا المتزوجة من الطبيب جيفينال ايربينو” الذي توفي ” احداث الرواية الأخيرة تدور في سفينة نهرية حيث يدعو (فلورنتينو اريثا) حبيبته لرحلة نهرية على سفينة تمتلكها شركته فتوافق, وهناك يقترب منها أكثر وتدرك بأنها تحبه رغم شعورها بأن عمرها (70 عاما)لا يصلح للحب ولكن هذا ما كان يمنع (فلورنتينو اريثا) من الاستمرار بالأمل والسعي لراحتها فيتخلص من المسافرين الآخرين بخدعة أن السفينة عليها وباء الكوليرا لكي لا تنتهي الرحلة ويكون الفراق ” لا اعني ان “مرسي فاطمة” هي عمل مشابه او نسخة من الحب في زمن الكوليرا اذ لكل من العملين فكرته,فماركيز ركض بطله عبر الادغال محافظا علي ومضة تضيء داخله حتي حصل علي مايريد , اما بطل حجي فكان يبحث في صبر اسطوري عن سلمي التي هي الوطن, وطوال سردياته كانت ثنائية البحث تترمز في البطل السعودي المولد والاريتري الجذور, وهذا يعيدنا الي روايته الاولي سمراويت القائمة فكرتها ايضا علي الحب عبر رومانسية الثور وثنائية الوطن والانسان, ومع اشتداد وهج الشوق المتقد داخله اقدم البطل طوعا رغم ضعف مسلماته بأن تعميد المواطن في معسكر “الثورة ” يحيله الي ثورى حقيقي في نظر السلطة , اختار البطل بمحض ارادته الذهاب الي ساوا سجن التعذيب الايديولوجي في بداية رحلة بحثه عن سلمي غير ابه بالحياة بما سيواجهه من متاعب ابشعها ان يحال الي رقم بعد ان يختفي تماما اسم ميلاده ويوضع في قالب جديد لا تكون فيه حريته ملك له وانما للمالك الجديد الضا بط منجوس المكلف بالمعسكر , لم يكن اذن قرار البطل بالذهاب الي معسكر ساوا إلا للبحث عن حبيبته سلمي التي اختفت فجأة من اسمرا كما تختفي الابرة في كومة قش, بحث عنها في كل مكان ولكنه لم يجدها كان اختفاؤها اشبه بشهاب انسرب في سديم الظلام . بدا الخط الدرامي يتصاعد للرواية من هنا لحظة ان قرر البطل بدء الرحلة الي معسكر ساوا للتدريب بعد ان اخبروه ان من الراجح ان تكون سلمي قد أ خذت اليه ضمن فتيات اخريات , فالامر لا يقتصرعلي المجندين من الشباب, فالفتيات ايضا عليهن خدمة الثورة المستمرة. في المعسكر,وعلي الجميع ان يعرفوا ايضا ان الأستقلال صنعه تنظيم واحد انتهى درس الرماية، فانتقلنا إلى التثقيف السياسي الذي كان متاحاً بعدة لغات، دون أن يُسمح لمن يجيد التغرنية بأن يختار لغة أخرى. كان ستة ضباط في انتظارنا، بدأ أحدهما في الحديث، بينما توزع الباقون على أجزاء الخيمة، دون أن نفهم دورهم. مجدداً كان الحديث عن الثورة الإرترية، كيف بدأتْ، وكيف أصابها العطب في منتصف الطريق إلى أن جاءت “الشعبية” فأعادت إحياءها ووصلت بها إلى الاستقلال.كان واضحاً أن الضابط ناقمٌ على التنظيمات الإرترية الأخرى، فرغم أن الثورة قامت ضد المستعمر الإثيوبي، إلا أن حديثه الغاضب كله انصب على تلك التنظيمات، وخصوصاً “جبهة التحرير” التي اتهمها بالعنصرية والطائفية وخطف الثورة.لم أفهم جملته الأخيرة، فرفعتُ يدي بهدوء:” ممن خطفتْ جبهة التحرير الثورة، إذا كانت هي منْ أطلقها في الأساس؟””خطفتها بعنصريتها وطائفيتها، لولا الشعبية لما جاء الاستقلال”كانت ساوا هي المحطة الاولي لبطل الرواية ,تعقبها محطتان اخريتان هما محطة الشفتة , ثم محطة مخيم اللاجئين في السودان, يصور الراوي داخل وتيرة سلمي الغائبة عالما غريبا هو عالم الشفتة, والشفتة هم قاطعوا طريق ينشطون في الحدود الاريترية السودانية ينهبون الشاحنات التجارية ,ويهربون الخمور والمخدرات الي داخل السودان ,ولسنوات خلت تم الخلط عن عمد بينهم وبين الثوارالاريتريين لتشوية صورة الثورة الاريترية بإعتباران القائمين بها لصوص وقطاع طرق , وقام نظام عبود العسكري في ستينات القرن الماضي بتسليم احد عشر ثائرا اريتريا الي الامبراطور هيلاسلاسي ليشنقهم في ميدان عام وسط اسمرا بكونهم شفتة , غير ان وظيفة الشفتة تغيرت كثيرا بتغير الظروف الإقتصادية والسياسية في ارتيريا والسودان فتحول الشفتة الي تجارة البشر التي تديرها ايضا مافيا سودانية اطرافها مسئولون سودانيون كبار من رجال الشرطة والأمن يعتاشون منها في غمرة فوضي سياسية وامنية تضرب البلاد , والبشر هم الهاربون من جحيم انظمتهم الي نعيم جحيم اخر هو السودان ملتقي البشر من كل نوع من دول الجوار,من خلال البحث عن سلمي “الوطن “يبحث الراوى في عالم غرائبي هو عالم الشفتة, او دولة الشفتة كما اطلق عليها احد رعاياها البؤساء ممن اختار الهروب من الجحيم الي نعيم الجحيم, وصور كيف يتعرض هؤلاء التعساء لي إنتهاك انسانيتهم في دولتهم ينظر الشفتيون الي ضحاياهم بكونهم بضاعة مثل جوالات الدقيق ,او السكر, اوالخمور ,ويناط بهم تخزينهم في حاويات حتي يفهمون بأن من يقومونون بخدمتهم انسانيون يحلون مشاكل الاناث الجنسية منهن بمضاجعتهن وليس إغتصابهن فيصل العديد من الضحايا الي السودان وهن حابلات يرزقن بأطفال يضافون الي كلفة الرحلة التعيسة.”حلّ الغروب، فصعدتُ إلى العربة. ألقيتُ نظرة أخيرة على الحاوية وهي تضجّ بالمرضى والمستضعفين. تمنيتُ لو أستطيع تخليصهم جميعاً، لو أتمكن على أقل تقدير من تخفيف معاناتهم، من فتح كوة في حاضرهم المؤلم على بقعة ضوء. تمنيتُ لو يكون ما شاهدته هنا كابوس ينتهي بطلوع النهار. امتدتْ أمنياتي حتى بدأتْ العربة في السير نحو الحدود السودانية. بدأتْ الحاوية بمعذبيها تبعد أكثر وأكثر حتى غابتْ دولة الشِفتا عن ناظريّ تماماً.””ملتُ عليه هذه المرة، وسألته إن كان سبق وأن نقل فتاة اسمها سلمى. نظر إليّ باستغراب قبل أن يجيب بلا مبالاة أنه لم يكن يوماً مهتماً باسم شخص نقله. اعتدلتُ في جلستي، وأخذتُ أحدّق في الفراغ المعتم أمامي. بدأتُ أصف سلمى:””سلمى تميل إلى الطول، سمرتها صافية وشعرها أسود كثيف، على تخوم شفتها العليا شامة خفيفة، ولها لثغة ساحرة في الراء، لحضورها..” لم أعد أتحدث إلى الشِفتاي، حدّقت في البعيد عبر زجاج العربة، كنتُ في الحقيقة أستحضر بهاءها في أحلك أيامي “تسطع صورة سلمي كدفقة ضوء قوي يتخلل ظلام الطريق الموحشة تمنح المحب طاقة سحرية ينسي بها المجهول مما هو في انتظاره , تتداخل اللحظة المعاشة بتوترها مع اللحظة المقبلة بغموضها المستريب,الفجر مقابل الغروب, الأمل مقابل الإحباط , الإقدام في وجه التراجع ,والخوف فى صحراء الشجاعة, يحمل الراوي ثروته التي لاتزيد ولاتنقص حتي يصل الي مبتغاه معسكر اللاجئين في شرق السودان”خرجنا من محيط حركة الكاشف الضوئي، فتوقف الشِفتاي وأشار إلى طريق تنتهي ببقعة ضوء أخرى:”ذاك مقصدكم..لا وصلتوه..وصلتوا السودان”.لم يكد الرجل ينهي حديثه حتى انطلقنا بأقصى ما نملك. كان الجميع يركض متحاملاً على تعبه، بدأ السودان يقترب وتقترب معه آمال كل منّا. رأيتُ سلمى في بقعة الضوء أمامي كانت تجلس مبتسمة في انتظاري لتنهي رهق الأيام دونها، لتغسل وجع الانتظار وتعيد ملء روحي بعد أن أفرغها اليأس. رأيتُ سلمى فأيقنتُ أني انتهيتُ أو أكاد من أيامي الجدباء في غيابها، هطلتْ عليّ كالمطر فاخضرّ كل شيء داخلي”.تضيق العبارة كلما اتسعت الرؤية “الوطن كذبة بيضاء يروّجُ لها البعض دون شعور بالذنب، ويتلقفها آخرون دون شعور بالخديعة”.اقترب السودان أكثر، فبدأتْ إرتريا في الابتعاد. أنانيّة هي الأوطان، لا يأتي وطن إلا حين يغادر الآخر”. ينتقل الراوي من معسكر ساوا الي معسكر الشجراب ,من الوطن الأصلي الي الوطن المزيف من سلمي الحقيقية الي سلمي المتخيلة , في تداخل للاحداث , ومواصلة لعملية البحث يندمج البطل الراوي في مجتمعه الجديد عالم المخيم ذلك العالم الذي تتصارع في دواخل ساكنيه الإستسلام لواقع صار بديلا للوطن والتوق للوطن نفسه كمعادل نفسي يمكن ان يزيل شعور الاحساس بالإغتراب, لم يتردد في دخول المعركة فبني له عشة ليكسب هوية اللاجيء فنال الأوراق الثبوتية , ومع كل ذلك لم يتوقف لحظة في الحلم بالعثور علي سلمي الحبيبة ,هذا الحاضر الغائب الذي قاده الي هذا المجتمع البشري البائس, يتعرف الراوى, البطل علي اميرالمواظب علي قهوة ام اواب, تنشا بينهما علاقة البحث عن الوطن’ لايعرف ما اذا كان امير هذا اريتريا ام سودانيا ام حبشيا, انه فقط امير تاجر الخضروات الذي يعمل معه البطل ليكسب عيشه بعد ان نضبت امواله, وهنا ينقلنا الراوي الي لوحة اخري وهي لوحة البحث عن الاوطان حتي لوكان ذلك في اسرائيل, يطلق الهاربون الي غير رجعة هوياتهم القديمة , يقذفون بها علي الحدود سواء في اريتريا او اثيوبيا او السودان يقول الراوي, يقول امير,”عبر اللوري آخر نقطة قبل الوصول إلى منطقة الشلاتين السودانية التي يفصلها عن نظيرتها المصرية وادٍ صغير، هنا انحرف في طريق جانبية وعرة ظللنا نسير فيها بعض الوقت إلى أن توقف في منطقة جبلية. أمرنا عبده بالنزول والاختباء في انتظار شاحنة أخرى، كانت عينه على المقيدين منا وكأن مهمته التأكد من عدم هروبهم، قبل أن يغادرنا مع الفجر بمجرد أن لمح قدوم شاحنة أخرى لا تحمل أرقاماً أشار لنا سائقها فاتجهنا نحوه، لكن قدوم شاحنة أخرى مسرعة أوقف مسيرنا. ترجّل السائقان وبدأ ما يشبه العراك بينهما، تقدمت ففهمت أنهما يتنازعان أيهما يفوز بنا. كان كل واحد يطلب من الآخر إثباتاً أن “البضاعة” تعود له، ثم أخذا يتفقدان آذاننا دون أن نعي السبب، ولم يحسم الجدل إلا إشهار أحدهما سلاحه فتراجع الآخر مرغماً ورحل وهو يردد شتائم نابية.”كل ذا من عبده المبوقع”.بمحاذاة الساحل، أخذتنا شاحنة أبو طارق نحو سيناء، هكذا عرّف السائق الجديد نفسه. كان متجهماً وملامحه قاسية، يرتدي ثياباً شبيهة بما كان يرتديه عبده، غير أن لهجته بدت مختلفة بعض الشيء. كان الطريق موحشاً ومؤذياً، وكأنه يتآمر ضد من يسير فيه. كانت رؤوسنا ترتطم ببعضها، وبجوانب اللوري، تحت وقع الوعورة البالغة”.في عالم سيناء تخرج شجرة من اصل الجحيم طلعها كرؤس الشياطين, هنا يلتقي الهاربون بالشياطين انفسهم برؤوسهم واذيالهم , انهم بعض بدو سيناء امتداد لشفتة السودان , يصور الراوي بلوغ المأساة قمتها حينما يطلعنا علي سوق جديدة للبشر تبدأ في السودان وتتجه حتي الحدود المصرية مع اسرائيل,تحت ستر الظلام يساق العبيد مقيدين بالسلاسل , يجري تخزينهم في مغارات موحشة يتسمعون اصوات الذئاب تحملها الريح الباردة عبر اودية الموت لتصل الي اذانهم المثقوبة, انهم ضحايا انظمتهم المستبدة ,صارت اسرائيل جنتهم الموعودة بعد ان ساقهم اليأس اليها كخلاص اخير, انهم يبحثون عن انسانيتهم هناك بعد ان اهدرت في اوطانهم ,تتساوق الاحداث في الرواية , تتباعد وتتقارب , تتعري وتكتسي, يكبر الزمن ويصغر, هل يتخلي الباحث عن سلمي ويستبدلها بكارلا الإيطالية موظفة شئون اللاجئين التي أقنعته بالذهاب معها الي روما, تتصارع مشاعر مضطربة غريبة في داخله, هل هكذا نهاية المطاف ؟” ضحك أمير وشاركته الضحك، قبل أن نسكت فجأة لنلتفت لأحزاننا. عدتُ إلى البكاء فعاد معي، لتتحول خيمة أمّ أوّاب إلى مفرخة للحزن.صعدتُ إلى الحافلة المخصصة لبعثة المفوضية. اخترتُ مكانا قرب النافذة وجلستْ كارلا إلى جواري. لم أرفع عيني عن أم أوّاب وأمير اللذين بقيا على مدخل الخيمة وهما يلّوحان لي بين الوقت والآخر.تلاشى ما تبقى من كرهي لمنجوس. أصبحتُ أُشفق عليه، بعد أن فقد سوطه، وسلّم ظهره لجلاّدين آخرين. أشفقُ عليه، وهو مقبل على حياة لم يعتدها، لم يلمسها. أن تصبح جلاداً أسهل ألف مرة، من أن تكون مغلوباً، فحياة المغلوبين سامقة، لا يطالها كل أحد. قبيل السفر إلى روما سنتوقف ليوم في كسلا ويومين في الخرطوم، طوال الطريق سترافقنا حراسة أمنية، لكن لا مانع من اتخاذ الحذر. قد نضطر للافتراق في كسلا أو للخرطوم لأسباب مختلفة، لذا وتحت أي ظرف طارئ، لنعد في حال الافتراق إلى آخر نقطة جمعتنا”.انتفضتُ لجملته الأخيرة. من جديد أعادني حديثه لدرس الكشافة الذي أخبرتني به سلمى. لا تكفّ هذه الفكرة تدور حولي من مكان إلى آخر. لا يُعقل أن يُلحّ عليّ أمر لأتعثر به مراراً دون أن يخصني، دون أن أكون معنياً به عن الآخرين.نهضتُ من مكاني كالملدوغ، تجاهلتُ سؤال كارلا ونزلتُ من الحافلة، درتُ حولها حتى أصبحتُ مواجهاً للنافذة التي كنت أجلس قبالتها، كانت كارلا قد أخرجتْ رأسها تتبعني والذعر بادٍ في ملامحها.”لن أذهب معكِ..سأعود إلى مرسى فاطمة”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى