مقالات

مرسى فاطمة” وذاكرتي مع الإريتريين / علوان السهيمي

5-Feb-2014

عدوليس ــ نقلا عن المدينة السعودية

رغم أن “الإريتريين” كانوا مجهولي الهوية في الغالب، تسللوا إلى القرية عبر منافذ التهريب، ورغم أنني كنت أخافهم خوفًا شديدًا، نظرًا لصمتهم الطويل وغموضهم ومطارقهم العملاقة التي تعتلي ظهورهم، إلا أن أهل القرية كانوا ينظرون إليهم بشيء من الرأفة والاحترام، فلم يكونوا يخافونهم مثلما كنت أخافهم، ربما لأنهم لم يسمعوا يوما أية حكاية تدل على خبث هؤلاء البشر، فهم رجال جاؤوا للبحث عن لقمة العيش، بذاكرة نبيلة بكل تأكيد.

عاش هؤلاء الإريتريون في قرانا في جنوب المملكة دون أن يبدر من أحدهم فعل لا أخلاقي، وعاشوا في ذاكرتي بغموضهم ورعبي منهم زمنًا طويلًا، إلا أنني أكنّ لهم الآن الكثير من الاحترام والود؛ لأنهم رجال كانوا يحترمون الحياة بصمتهم، وجَلَدهم، وصبرهم على العيش.
إلى هذه الحكايات كانت تعيدني في كل مرة رواية “مرسى فاطمة” للروائي الإريتري حجي جابر والصادرة عن المركز الثقافي العربي مؤخرًا، فكلما كنت أقلب صفحة بعد أن أنجزها قراءة، كنت أتذكر أولئك الإريتريين الذين عاشوا مع أهلي في قرية من قرى جنوب المملكة العربية السعودية، وكنت كلما قرأت فعلا نبيلا داخل الرواية أعود وأتذكر المطارق العملاقة التي كانت تُحمل على الأكتاف، لكنها لم تقم بعمل لا أخلاقي ذات يوم، مع قدرة أولئك الأغراب في ارتكاب جرم كهذا، والفرار دون أدنى خوف أو مسؤولية.
إن هذه الرواية، على قدر البؤس الذي تحمله، والمآسي التي تتكرر في كل مرة، والعذابات التي لا تطاق أحيانا – رغم أنها في المجمل رواية حب -، لم تشكّل في داخلي معنى العذاب والمأساة، وضياع الهوية، والبحث عن الوطن، بقدر ما شكلّت معنى النبل والأخلاق والحب، والانحياز الكبير للإنسان أيًا كان عرقه، ربما لأن ذاكرتي تقاطعت مع الشعب الإريتري على هذا المعنى بعدما كبرت، وأدركت بأن الصحراء والجوع، تنجب شعبًا نبيلًا في أغلب الأحوال.
فعندما يكون بطل رواية “مرسى فاطمة” نبيلا مع تلك العجوز “أم أوّاب” في مخيم اللاجئين في “الشجراب” ويعطيها نصيبه من المؤونة، فهو يعيد تأسيس النبل الذي رأيته في صمت الإريتريين في قريتنا الصغيرة في الجنوب، وعندما يقوم “كداني” أحد أبطال الرواية بعمل نبيل مع بطل الرواية داخل معسكر “ساوا” رغم البشاعات التي ترتكب من قبل الضباط تجاه المجندين قسرًا، فأنا أتذكر العمل المضني الذي كان يقوم به الإريتريون في القرية؛ ليتقاضوا إزاءه مبالغ ضئيلة جدا تقيم حياتهم البائسة والمطحونة، وعندما يتحوّل “أمير” أحد أبطال الرواية لراعٍ يرعى كل من في مخيم “الشجراب” ويدافع عنهم رغم أنه يعيش بكلية واحدة بعدما سرقتها الغربة، وضياع الوطن، أعود وأتذكر قول أحد أعمامي عندما تحدث عن الإريتريين ذات يوم بشيء يشبه هذا الحديث “لا تحاولوا أن تغضبوا هؤلاء الناس؛ لأنهم نبلاء، رغم أنهم يستطيعون عمل أي شيء، ما كان يردهم عن فعل أي شيء حقير أنهم يحملون أخلاق القبائل”. لم أكن أفهم معنى القبائل في تلك الأيام، كان الأفارقة في نظري شعب مطحون لا يعرف معنى للقبيلة، لكن بعدما كبرت أدركت ما كان يقوله عمي عن أولئك، وعرفت بأن الإنسان يولد على الحب قبل أن تشوّهه الحياة بتجاربها المريرة.
وفي البعد الفني للرواية، أعتقد بأن أكثر ما أثار دهشتي في العمل، نهايته، التي جاءت لتحفر في داخلي المعنى الحقيقي لهذه الحياة، فالحياة عبارة عن دوائر لا تنتهي، ما إن ننتهي من دائرة حتى ندخل في أخرى، والحوار الذي كتب به “حجي” هذه الرواية، فهو حوار ينم عن فهم عميق لمعنى الفن والشخوص، فالعجوز في الرواية تتحدث بلهجة عامية بسيطة وعميقة، والشاب المتعلم يتحدث بلسان الواعي ككداني وأمير اللذين أنجزا دراستهما الجامعية، إضافة لتنوع اللهجات داخل العمل كلٌ ينسب إلى بيئته التي تربى وعاش فيها، واكتسب لسانها.
أتصور بأن “حجي” كان موفقًا جدًا حين جعل الرواية عبارة عن ماراثون طويل جدا تركض فيه لتصل إلى النهاية، فأنت طوال العمل تطارد “سلمى” بطلة الرواية وتبحث عنها، وتتعاطف مع حبيبها معلم اللغة العربية، وتبحث معه عنها في كل مكان، فأنت في لحظة ما تتحوّل إلى بطل من أبطال “حجي جابر” في هذه الرواية، التي كتبها بلغة شاهقة، ومناسبة جدا لأجواء العمل، تتفاوت بين الشاعرية والبساطة، تقفز عاليا تطلب منك الصعود إليها أحيانا، وحينما تكتشف بأنك لم تستطع الصعود، تنزلك إليك وتأخذ بيدك إلى النهاية.
إنني بعيدا عن أي شيء، استمتعت جدا بهذه الرواية، بلا تعقيدات للفن، وبلا تحليل لبنية النص، وبدون كل تلك الأحاديث الطويلة التي نثرثر بها عادة إزاء الكتابة، إن هذه الرواية تعلّمك معنى الاستمتاع بالفن بدون أي تنظير، إنها ممتعة وشيّقة؛ لأنها ببساطة تجعلك في لحظة ما بطلًا من أبطالها.
(*) روائي سعودي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى