مقالات

حديث الذكريات والمذكرات ( الحلقة السادسة ) : بقلم/ محمد سعيد ناود

25-Mar-2007

المركز

• يقال أن احد أبناء إرتريا القي القبض عليه في ايطاليا بتهمة انه مقيم بدون ترخيص رسمي ، وعندما تم تقديمه لجهة الاختصاص في إدارة الهجرة فإنه أجاب على أسئلتهم وكأنه كان يرد عليهم باسم كل أبناء المستعمرات ، فقد قال لهم : ( لقد جئتم إلى بلادنا دون استئذان أو ترخيص ومكثتم أكثر من خمسون عاما دون رخصة بالإقامة من احد ، فهل ارتكبت أنا جريمة لا تغتفر عندما مكثت في بلادكم خمسة أعوام فقط دون ترخيص ؟ )

عند ذلك قامت تلك الجهة برفع الأمر إلى جهة أعلى منها ، والجهة الأعلى سمحت له بإقامة دائمة بعد أن طلبت إحضاره أمامها واستمعت من جديد لحجته بالبقاء دون إقامة ، وعبرت له عن إعجابها بجرأته وذكائه وكافأته بالإقامة ، ولكنها كانت حالة فردية مع إنها كانت تمثل الرد الحقيقي على هؤلاء المستعمرين السابقين الذين استباحوا المستعمرات وشعوبها وخيراتها لقرون ، والآن يطاردون أبناءها ويمنعونهم من الوصول إلى أراضيها ، وبالرغم من مطاردتها لأبناء المستعمرات السابقة فإنها وحتى الآن لم تتركهم وشأنهم . ففي فترة الحرب الباردة كنا نسمع عن الصواريخ عابرة القارات ، أما في فترة القطب الأوحد فقد بدأنا نسمع عن (رؤوس الأموال العابرة للقارات ) وعن ( الشركات عابرة القارات ) ، وبالتأكيد أنها لا تعبر القارات من اجل النزهة ولكن من اجل تحقيق الأرباح المالية الهائلة وفرض الهيمنة الاقتصادية ، ومثيل لها منظمات متعددة ومتنوعة الأسماء والأوصاف تحت ستار إنساني واغاثي أو علمي أو قوات حفظ السلام . وكل أولئك يعطون لأنفسهم الحق للانتشار والتدخل هنا وهناك للاستمرار في الممارسات الاستعمارية السابقة ولكن في أشكال مختلفة ، وفي ظل سيادة القطب الأوحد وزعيمته أمريكا فالحديث الآن وكوسيلة للتدخل هنا وهناك في أنحاء الكرة الأرضية ما يطلقون عليه ( محاربة الإرهاب ) . فقد اعتبروا إن مقاومة الاستعمار أو النضال من اجل الأهداف المشروعة ( إرهابا ) تجب محاربته . وأسلحة أخرى موجبة لتدخلهم مثل الديمقراطية ، حقوق الإنسان ، حقوق المرأة ،وما ابعد تلك الشعارات الجميلة عن مضامينها في التطبيق العملي . تحت هذه الحجج أصبحوا يعطون لأنفسهم الحق للتدخل في شؤون الآخرين وتحت هذه المظلة والذرائع أعطت أميركا لنفسها الحق لممارسة كل الموبقات والتدخل المباشر عسكريا وإجراء التجارب على أسلحتها في الميادين العسكرية ، كما حدث في العراق وأفغانستان ، ولا تزال تتحرش بكوريا الشمالية وإيران تحت تهمة قيامها بتطوير أسلحتهما النووية ، وتتحرش بسوريا بحجة حمايتها للإرهاب والمعني بها منظمات المقاومة الفلسطينية . وفي بداية عهد القطب الأوحد نرى كيف تحولت الأمم المتحدة ومجلس الأمن وكأنهما إحدى الإدارات الأمريكية والتي تستصدر عبرها القرارات التي تخدم أهدافها ، وتعتبر نفسها ( المجتمع الدولي ) وأي قرارات تصدرها وكأنها صادرة عن المجتمع الدولي ، وكل من لا يلتزم بتلك القرارات تعتبره مارقا ومتمردا على ( المجتمع الدولي ) ـ أي على أمريكا وقراراتها ـ وأحيانا وفي حال صدور قرارات لأتوافق عليها أمريكا فإنها تتجاهلها تماما ولا تلتزم بها ، وهذا هو ما تم تعريفه بالمعايير المزدوجة والكيل بمكيالين . والولايات المتحدة الأمريكية زعيمة القطب الأوحد والتي تتحدث بصوت عال عن الديمقراطية ، وحقوق الإنسان ، فإنها وفي التطبيق العملي أقامت في قاعدتها العسكرية ( غونتناموا ) الموجودة في الأراضي الكوبية سجونا ومعسكر اعتقال لمن تقوم باختطافهم من جنسيات عدة وتنقلهم إلى هناك وتمارس بحقهم أساليب تعذيب وحشية أدت ببعضهم إلى الانتحار ، مضافا إلى ذلك ما جرى في سجن ” أبو غريب ” في العاصمة العراقية بغداد ، وبأيدي الجنود الأمريكان بالانتهاك الصارخ لحقوق الإنسان ، بل وان الولايات المتحدة أقامت سجونا سرية في بعض الأقطار الأوربية وفي غيرها دون علم حكوماتها حيث تنقل أليها بعضا ممن تقوم باختطافهم واعتقالهم وممارسة التحقيق معهم ، ويجري كل ذلك دون علم أو موافقة المجتمع الدولي . والأمر لأيهم ، لان أمريكا تعتبر نفسها اليوم هي المجتمع الدولي وحتى حلفاءها الأوربيين بدأت تتعامل كمجرد تابعين لها . إن الحالة الأمريكية التي يمر بها العالم اليوم ليست جديدة ، بل كانت قبلها حالات شبه مماثلة خلال التاريخ عندما نشأت إمبراطوريات ونمت وترعرعت وسادت ثم بادت ، وأصبحت مجرد ذكرى في التاريخ البشري ،وفي المراحل الأخيرة لقد كتب وتحدث بعض فلاسفة الغرب عن صراع الحضارات ، وآخرون كتبوا عن نهاية التاريخ ، وقبل الولايات المتحدة كانت هناك ( بريطانيا العظمى ) التي استعمرت كل العالم تقريبا بما فيه أمريكا التي كانت مستعمرة بريطانية ، وقد أطلق عليها في حينه ( الإمبراطورية التي لأتغيب الشمس عنها ) ، أي كلما وأينما أشرقت الشمس في هذا الكوكب توجد بريطانيا بجيوشها وأساطيلها وحكامها وذلك في القارات الخمس ، إلا أن شمسها قد غابت وتلاشت ، وانحسر وجودها في الجزيرة البريطانية وأصبحت تابعة لأمريكا التي كانت تستعمرها في يوم من الأيام . كما إن ( ارنولد تويني ) وفي مؤلفاته عن تاريخ العالم أكد على هذه الحقيقة بقيام الإمبراطوريات وزوالها ، وقيام الحضارات ثم انتقالها من مكان إلى آخر . وبروز القطب الأوحد لا تعتبر نهاية التاريخ ، وفي تقديري هي البداية لعالم جديد لم تتحدد ملامحه بعد ، هذا إذا لم تصدق نبوءة لينين ـ حسبما اذكر ـ عن الحرب بين أقطاب الدول الرأسمالية حيث المتناقضات السياسية والمنافسات الاقتصادية بين أمريكا وأوربا ، وهذه مرحلة تاريخية جديدة ومعركة جديدة يقودنا إليها الرجل الأبيض كما سبق وأدخلنا في مراحل ومعارك سابقة . ونسأل الله السلامة . ولكن … وقبل أن اختم هذا الجزء لا بد وان أشير إلى انه وفي هذا العصر لم تعد قرارات الرجل الأبيض كالقدر الذي لا راد لقضائه .. فالعلم في مختلف حقوله لم يعد حكرا بيد الرجل الأبيض ولا حتى السلاح والتسليح .. والعالم الثالث لم يعد كما كان سابقا سوقا للغرب لاستقبال واستهلاك بضائعه ومتوجاته بأغلى الأسعار ، وممولا الغرب بالمواد الأولية بابخس ألاثمان ومصدرا للأيدي العاملة الرخيصة فقط . ودول أمريكا اللاتينية بإمكانياتها الكبيرة المادية والبشرية لم تعد الحديقة الخلفية للولايات المتحدة الأمريكية ، كما كان يتم تعريفها بذلك في القرون الماضية … وفي أسيا هناك العملاق الصيني بعدده البشري الذي تجاوز المليار نسمة وأرضه القارة وإمكانياته الاقتصادية وارثه التاريخي والحضاري وهو يزحف إلى الأمام ويمتلك كل أنواع التسليح والأسلحة بما فيها الأسلحة النووية وامكانات غزو الفضاء الخارجي . وهناك المارد الاقتصادي المتمثل في اليابان والتي رغم أنها حليفة للولايات المتحدة الأمريكية إلا أنها أصبحت منافسا حقيقيا لها في صناعة السيارات وتسويقها في الأسواق الأوربية والأمريكية ، وفي صناعة الالكترونيات والتلفزيونات وأجهزة الراديو والمسجلات والساعات وأجهزة الكمبيوتر وغيرها وبأسعار زهيدة بالمقارنة مع الصناعات الغربية المماثلة لها … ومثلها كوريا الجنوبية ورغم أنها تشبه قاعدة عسكرية أمريكية إلا أنها وفي الصناعات بأنواعها وفي الاقتصاد عموما أصبحت تمثل رقما لايمكن الاستهانة به . أيضا هناك النمور الآسيوية الأخرى وفي مقدمتها ماليزيا ، وهناك القارة الهندية وإمكانياتها البشرية الاقتصادية والعلمية وطموحاتها الواسعة . وهناك روسيا وريثة الاتحاد السوفييتي السابق وقبلها وريثة إمبراطورية روسيا القيصرية حيث كانت آنذاك منافسا حقيقيا لأوروبا ثم دورها الكبير في هزيمة الفاشية والنازية في الحرب العالمية الثانية ، ثم احد القطبين الأعظم أثناء الحرب الباردة ، وهي حتى اليوم تعتبر المنافس الحقيقي لأمريكا في الأسلحة النووية والتقليدية وغزو الفضاء الخارجي ، مضافا لكل ذلك الإمكانيات العلمية التي ورثها من الاتحاد السوفيتي السابق . واخير ا القارة الأفريقية ورغم كل عوامل الجذب إلى الخلف بفعل الاستعمار ومخططاته إزاءها وتأثيره السلبي عليها إلا أنها لم تعد مصدرا للرقيق بل بها نقاط مضيئة في جنوبها وشمالها وغربها وشرقها ، تعبر عن طموح وإمكانية النهوض واللحاق بالآخرين .. والشرق الأوسط ورغم الهجمة الشرسة التي يتعرض لها ، إلا انه يمثل حضارات عريقة تعتبر الوقود الذي يدفع به للامام وتمكنه من مقاومة الاضمحلال والتلاشي حسبما يريد له أعداؤه . كل هذه العوامل وغيرها لايمكن إغفالها عند محاولة قراءة مستقبل البشرية في عصر العولمة ، عصر القطب الأوحد ، أي العصر الأمريكي ، وفي الوقت ذاته هناك القوى الخيرة والوجه المشرق في الغرب عموما وفي داخل الولايات المتحدة الأمريكية والتي لن تتوقف أو تتوانى في معارضة سياسات المغامرات والتسلط التي يمارسها اليمين الجديد هناك والتي تلحق أضرارا بالشعب الامريكي قبل غيره.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى